23 ديسمبر، 2024 9:53 ص

هنيهة مع النفس

هنيهة مع النفس

من رصيد أمثالنا، هناك مثل يقول: (إذ ردت تحچي خلي شاهدك وياك) وشاهدي في مقامي هاهنا واقعنا المعاش، وهو مالا يكذبه أحد. وسأستعين أيضا بشاهد عدل ثانٍ، هو أيضا محل صدق وثقة، ذاك هو حكاية من حكايات أجدادنا، توارثناها جيلا عن جيل، فما من أحد منا لم يسمع قصة الرجل الذي أقدم على شراء سمكة، وأراد التأكد من كونها طازجة أم (خربانة)! فراح يتفحص رائحة ذيلها، وحين نصحه أحدهم أن فحص السمكة يتم بشم رائحة رأسها لاذيلها أجابه: (أعرف.. بس اريد اشوف الخياس وصل للذيل!). وقد حار العراقيون في وضع سمكتهم، وتاهت عليهم أماكن خرابها وفسادها، واشتبك حابل أمرهم بنابل التكالبات التي اجتمعت فيها الرؤوس والأذيال معا، للنيل منهم ومن عراقهم.
منذ أكثر من عقد ونصف العقد، والعراقيون غرقى في مستنقع يعج بأشكال الروائح الكريهة، وهم تارة يدركون مصدرها، وتارة تضيع عليهم مصادرها ومنابعها، ومافتئوا يتفحصون يوما بعد يوم روائح تنبعث من أماكن عدة، ومن شخصيات عديدة في البلد، منها تنبعث ممن تبوأوا المناصب العليا الرفيعة والغليظة، ومنها من أتباع لهم أقل رفعة و (غلظة)، ومنها أيضا ما تقذفه رياح التدخلات الخارجية القادمة من بلدان الجوار، وهي قطعا ماكانت لتدخل لولا فسح المجال لها طوعا واختيارا، وفتح الأبواب على مصاريعها أمامهم، والسماح لها بالولوج إلى الداخل العراقي، وكما يقول مثلنا: “الما يدني زنبيله محد يعبيله”. وبصريح العبارة، فإن جل مايصيبنا من فعل أيدينا و “على نفسها جنت براقش”. وقد قيل في هذا:
خلص عمري بصدودك… كله مني
وعلي ما جن طيوفك… كلمني
آنه اللي جرالي… كله مني
جبت بيدي الجرح دليته بيه
إذ بمراجعة متأنية لأنفسنا، والوقوف معها على حياد بموقف الناقد والمصلح والواعظ، ستنجلي أمام أعيننا ضبابية مشهدنا الموحش، وسنتيقن آنذاك أننا واهمون، وندرك أننا لم نكن سوى حالمين، بل غارقون في أحلام اليقظة. وبما أننا من الإنس ولسنا ملائكة، فإن أول خصلة تتملكنا هي الحكم العاجل فيما نراه أمامنا، وبذا يكون محصولنا عادة الخطأ، إذ “كلنا خطاؤون”. ولعلنا نبلغ حد الكياسة بأدنى حدودها، بمجرد توجيه أسئلة جريئة لأنفسنا كالآتي:
هل مانعمله من صغائر أمورنا خلال يوميات حياتنا يصب في مصلحة بلدنا؟
وإن لم نرد التوسع وإعمام المصلحة الكبرى مصلحة الوطن، وإعلاءها على مصالحنا الخاصة، فلنخصصها ونطلقها ضمن نطاق الأقربين، والأقربون هنا هم أبناء جلدتنا من العراقيين، ولنعد صياغة السؤال كما يلي:
أنحن ننظر إلى معيتنا نظرة الأخ في الدين والنظير في الخلق؟
أنتعامل معهم وفق مبدأ حب لأخيك ما تحب لنفسك؟
هل نضع مانقول وما نفعل على ميزان واحد، ونكيلهما كيلا واحدا مع مايقول نظراؤنا ومايفعلون؟ أم ننأى بأنفسنا حيث الأنانية وحب الذات، ونجيز لها ما لانجيزه لهم!
هل ثمة أخطاء وتجاوزات نرتكبها بحق معيتنا ليس لحاكمينا وساستنا يد في حدوثها؟ حيث من المعهود تعليق أخطائنا على شماعات نختلقها إن لم تكن تحت متناول أيدينا. ولما كان ساسة عراقنا الجديد -كما يحلو للبعض تسميته- أس الخطأ وأساسه، فإنهم أولى الشماعات وأكثرها (دسامة) لتكون متكأنا، لاسيما حين تتشعب الأخطاء وتتشابك أصابع الاتهام.
فلنتوقف عن رمي كرات أخطائنا في ساحة حكامنا وأحزابنا على الدوام، ولنبوب تجاوزاتنا بحق معيتنا ضمن لائحة حساب النفس، أو قائمة مراجعة الأعمال، ولنكن جادين في طرحها، وجادين أيضا في تصحيحها بما يمحو تأثيرها عليهم، ولنضع مقولة: “من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها” نصب أعيننا، فهي حتما ستنفعنا في حال وضعنا أنفسنا تحت طائلة التقييم، حينها سنكون في حل من الغلو والغرور، وننأى عن الاعتداد بالرأي، ونبتعد عن النرجسية، وسننضم عندئذ إلى ركب خير الخطائين.