23 ديسمبر، 2024 6:27 ص

هنري ترويا والادب الروسي

هنري ترويا والادب الروسي

ولد ليف ارسينوفيتش تاراسوف عام 1911 بموسكو في عائلة غنية من التجٌار ذات الاصل القوقازي والمنحدرة من الشركس والارمن, و بقي في روسيا تسع سنوات لا غير , اذ هاجر عام 1920 مع عائلته الى فرنسا (لأن تلك العائلة لم تتقبل ثورة اكتوبرالاشتراكية عام 1917 , كما هو حال الكثير من مواطني الامبراطورية الروسية الاثرياء آنذاك ), واستقرٌ مع عائلته في فرنسا منذ ذلك الحين الى وفاته عام 2007 في باريس , اي انه بقي في فرنسا اكثر من خمس و ثمانين سنة , ولكن باسم آخر اختاره بشكل سريع وعفوي وهو – هنري ترويا , واصبح كاتبا فرنسيا شهيرا و معروفا و مرموقا و حتى عضوا في الاكاديمية الفرنسية عام 1959 , وحاز على العديد من الجوائز الادبية ( منها جائزة غونكور المعروفة عن رواية بعنوان ( العنكبوت ) التي نشرها باللغة الفرنسية في باريس وكان عمره آنذاك 27 سنة ليس الا ) , و لكنه – مع ذلك – لم ينس وطنه الام ابدا , اي روسيا , وهكذا , وعلى الرغم من انه اصبح يمٌثل ويجسٌد ظاهرة ثقافية متميزة متكاملة بحد ذاتها في تاريخ الثقافة الفرنسية ومسيرتها في القرن العشرين , ولكنه بقي متميزا في مجال العلاقات الثقافية الروسية – الفرنسية بشكل عام طبعا , وكانوا يسمونه اكثر الادباء الفرنسيين روسيٌة , لأن الموضوعة الروسية تغلغلت في اعماق معظم نتاجاته الابداعية وانعكست بشكل واضح ومباشر وصريح في رواياته وكتاباته حول السيرة الذاتية للكثير من الشخصيات الروسية, وليس من باب الصدفة ابدا ان ابنته قد اهدت كل ارشيف والدها الى روسيا عام 2009 , اي بعد وفاته بسنتين ليس الا ( بما فيها وثائق روسيٌة اصلية استطاع ترويا الحصول عليها – بصعوبة كبيرة و دفع من اجل الحصول عليها أموالا طائلة – ترتبط حتى بعصر بوشكين , ومخطوطات كثيرة لم يسبق له ان نشرها ) , واعلنت ابنته امام وسائل الاعلام الروسية والعالمية , ان تراث

والدها هنري ترويا قد عاد الى الوطن – الام الآن , وان روسيا جديرة بذلك الارشيف قلبا وقالبا كما يقولون .

أصدر هنري ترويا اكثر من مئة كتاب بالفرنسية بين روايات وقصص ودراسات لشخصيات تاريخية وادبية فرنسية وروسيٌة , تتناول سيرتهم الذاتية والغور في اعماق افكارهم وتحليل اعمالهم وتسجيل مآثرهم …الخ, وكانت المواضيع الروسية من التاريخ والادب الروسي في مقدمة تلك الكتب , اذ انه نشر العديد من السير الذاتية للقياصرة الروس امثال يكاترينا وبطرس الاعظم وايفان الرهيب ونيقولا الاول…الخ , و بينها ايضا عشرة كتب عن الادباء الروس الكبار في القرنين التاسع عشر و العشرين ( ويوجد كتاب شبه جاهز في مسوداته لم ينشره في حينه حول الكاتب الروسي الكبير غونتشاروف ), وقد اصبحت تلك الكتب مصادر مهمة جدا حول هؤلاء الادباء الروس , و تم أخذها بنظر الاعتبار وشغلت مكانتها العلمية الجديرة بها حتى في روسيا نفسها , وفي العالم بشكل عام ايضا , و تم ترجمتها من اللغة الفرنسية الى العديد من اللغات الاجنبية , بما فيها لغتنا العربية . (( تحتاج الترجمات العربية لكتب ترويا دراسة موسٌعة ومعمٌقة خاصة بها, اذ انها كثيرة جدا وتشمل اعمالا ابداعية مختلفة من روايات وسير ذاتية لادباء روس وفرنسيين , واتمنى ان يتناولها يوما – ما أحد المتخصصين في اللغة الفرنسية وآدابها وبالتعاون مع متخصصين باللغة الروسية وآدابها, ونذكر هنا – على سبيل المثال وليس الحصر طبعا – ان وزارة الاعلام العراقية نشرت عام 1987 كتاب هنري ترويا عن تشيخوف , وقد قام بترجمته عن الفرنسية خليل الخوري وبمراجعة الدكتور علي جواد الطاهر , وهناك ترجمة اخرى لهذا الكتاب نفسه قامت بها حصة منيف وصدرت في القاهرة عام 2000 ,( ومقارنة الترجمتين تصلح – بلا شك – لكتابة اطروحة ماجستير شيٌقة يتعاون في انجازها قسما اللغة الفرنسية و الروسية في كلية اللغات بجامعة بغداد ), علما ان حصة منيف قد ترجمت ايضا كتابا آخر لترويا حول غوغول بعنوان – غوغول سيرة نفس ممزقة , وصدر عام 2010 , وهناك ترجمات اخرى

لكتب ترويا حول دستويفسكي وتولستوي وبوشكين ساهم بانجازها المترجمون العرب – بهيج شعبان وفؤاد ايوب وخليل الخوري في اواسط القرن العشرين , عدا الاعمال الروائية العديدة له والتي تمت ترجمتها الى العربية , وبعض تلك الروايات ترتبط بالموضوعة الروسية ايضا .)) .

الادباء الروس الذين كتب عنهم هنري ترويا مؤلفاته باللغة الفرنسية – وحسب تواريخ اصدار تلك الكتب – هم كل من –

دستويفسكي (1940 ) و بوشكين ( 1946 ) وليرمنتوف (2195) و تولستوي ( 1960 ) و غوغول ( 1971 ) و تشيخوف ( 1984 ) و تورغينيف ( 1985 ) و غوركي ( 1986 ) و تسفيتايفا ( 2001 ) و باسترناك ( 2006) .

كتب ترويا كل هذه الكتب في فرنسا , و هذا يعني طبعا انه كانت لديه امكانية الاطلاع بسهولة على الوثائق اللازمة والضرورية وباللغات الروسية والفرنسية وبقية اللغات الاجنبية عن حياة وابداع هؤلاء الادباء دون اي (تحفٌظ ) ايديولوجي , ودون ( اطارات ) سياسية محددة , اي انه كان يمتلك حرية التصرف والاختيار والكتابة كما يشاء , بغض النظر عن التحديدات الرسمية والايديولوجية التي كانت سائدة في تلك الفترة بروسيا امام باحثيها وناقديها , وهذا هو الاختلاف والتباين الحقيقي و الاساسي والجوهري والمهم جدا بينه وبينهم , والتي جعلت تلك الكتب متميزة نوعيا عن كل الدراسات النقدية والتحليلية , التي صدرت عن هؤلاء الادباء في روسيا السوفيتية آنذاك , واود ان أشير الى ان معظم تلك الكتب قد تم ترجمتها و صدرت بالروسية في روسيا في الفترة الاخيرة – نسبيا – ليس الا, وهذه مسألة اساسية ومهمة جدا وتمتلك معاني واضحة و محددة, اذ انها تعني – قبل كل شئ – ان تلك النظرة الذاتية لهنري ترويا الى هؤلاء الادباء لم تكن تتلائم او تنسجم او تتناغم – بشكل او بآخر – مع النظرة السوفيتية اليهم عندما ظهرت تلك الكتب في فرنسا في تلك السنين كما أشرنا أعلاه , فلم يتناول النقد الادبي الروسي في تلك الفترة هذه الجوانب

الشخصية والذاتية – ولكن المهمة والمؤثرة جدا – لهؤلاء الادباء, بل ان بعض نقاد الادب والباحثين السوفيت في هذا المجال قد تهجموا على هنري ترويا بشأن حديثه عن تلك الجوانب الذاتية والشخصية لهؤلاء الادباء , معتبرين ايٌاها فضولا ليس الا , ولكن الواقع يؤكٌد ان تقبٌل القارئ الروسي المعاصر لتلك الكتب بصورة حماسية هائلة ومذهلة , لانها تناولت – بالذات – و بشكل انساني وطبيعي تلك الجوانب الشخصية المخفية – والحقيقية طبعا – حول هؤلاء الادباء اثناء حياتهم , والتي كان الحديث عنها شبه ممنوع , او بتعبير أدق غير مرغوب في حينها , وقد أضفت هذه الجوانب الذاتية والشخصية على تلك الكتب بالطبع حيوية كبيرة جدا .

موضوعة هنري ترويا والادب الروسي تنتظر الباحثين والمترجمين العرب لسبر اغوارها وتقديمها للقارئ العربي كما يجب وكما تستحق رغم كل الملاحظات التي تدور حولها في الاوساط الادبية الروسيٌة.