كتابة التاريخ بعين المتجرد مهمة صعبة ، ونحسب أن تاريخ العراق المعاصر قد ظُلم شديدا لانه لم يكتب بأنصاف . من هذه الحقيقة ، وتناسبا مع الاحداث الكبيرة الجارية في العراق والوطن العربي ، تجري حملة كبيرة بدأت منذ فترة ونشطت مع تزامنها والذكرى الـ 95 لوفاة آخر سلطان عثماني كبير” عبد الحميد ” لاعادة كتابة تاريخ العالم العربي والعراق خاصة ابَان الحكم العثماني . ملخص هذه الحملة واستنادا الى ماجمعته هو :
1. تلميع تاريخ الدولة العثمانية وتصويره بالعظيم ولم يكن بالسيء مثل ما تصّوره كتب التاريخ ، حيث استطاعت ان تكون دولة الاسلام لستة قرون وحافظت عليه ودافعت عنه ضد أعدائه ، وأنه بتفككها انقسم العالم الاسلامي الى دويلات ضعيفة متفرقة ومستعًمرة ، وحتى بعد تحررها بقيت ضعيفة منقسمة .
2. السلطان عبد الحميد كان بطلا اسلاميا ، لم يرضخ للضغوط الصهيو-غربية لبيع فلسطين لليهود وكلًفه موقفه هذا خسارة عرشه ، وقد شوَه القوميون العرب صورته ظلما بجعله مجرما وسفاحا اتساقا مع عداء الغرب له .
3. أن القوميين العرب ، وبفعل تشبعهم بالثقافة الغربية الناقمة على الاسلام ودولته ( العثمانية) .. هم الذين زوروا تاريخ الدولة العليَة وجعلوها مثالا للظلم والتخلف والحقيقة انها لم تكن كذلك ، لذا تحالفوا مع الغرب الكاذب لكسرها وهزيمتها .. وما يعانيه المسلمون اليوم هو ثمن ذلك التحالف المخزي مع أعداء الدين .
4. أن معظم هؤلاء القوميين العرب هم من العراقيين وقد عملوا مع مماثليهم السوريين على تقويض دعائم الحكم العثماني عسكريا ، وبالتالي يتحمل “قومجيوا “العراق وسوريا المسؤولية التاريخية ( لم يعد مصطلح قومي مستخدما وحل محله قومجي للتصغير والتحقير ) . وينبغي تصحيح الغلط التاريخي هذا باعادة الاعتبار للسلطان عبد الحميد ، واعادة مجد دولة الخلافة الاسلامية من جديد بقيادة تركية من العثمانيين الجدد المعتدلين .
هذا هو ملخص الحملة النيو – عثمانية التي تجتاح العالم العربي الان ، وقد عملت على اظهارها الى السطح عدة عوامل :
– فشل الانظمة القومية في بناء نموذج دولة ديمقراطية حديثة ، فأصبح الحل عند البعض في النموذج الديني. – صعود الاسلام السياسي ( السني تحديدا ) للسلطة في عدد من الدول العربية واحتمال صعوده في دول اخرى يجري فيها الان صراع معلن وخفي ( سوريا ، الجزائر ..) وهو لا يعترف بانتماء وطني أو قومي ، وانما يؤمن بفكر اسلامي اممي يتناغم مع صورة دولة الخلافة .
– بروز تركيا القوية التي يحكمها اسلام سني معتدل ورغبتها بلعب دور محوري باتجاه قيادة محور اسلامي كبير يلقى قبولا متزايدا من جماهير عربية تتخبط في رؤياها وتداخلت لديها المفاهيم فضاعت الحدود مابين قطري وقومي واسلامي .
– والامر الاخير هو بزوغ استقطاب اسلامي بين محورين ايراني شيعي ، وتركي سني ، لكل منهما أتباعه من دول وقوى اقليمية ودعم خارجي .
لذا فالحملة لاحياء التاريخ العثماني وتلميعه في العراق ( والمنطقة العربية ) مرتطة بعملية الشد والجذب الجديدة في الشرق الاوسط ، ويراد بها احياء اسطورة خلافة جديدة سنية بقبعة تركية معتدلة حتى لو تم نسف وقائع التاريخ وتشويهها لاغراض مشاريع محورية طائفية ، وتحميل القوميون العرب مسؤولية تشويه تاريخ الخلافة العثمانية والمساهمة في اسقاطها ، وكأن هذه الخلافة لم تحمل عوامل ضعفها وانحطاطها لقرون الى أن سقطت حتى سميت في التاريخ ( الرجل المريض ) ولم يبقها حية لفترة طويلة الا تضارب مصالح الدول الاستعمارية الغربية .
وللحقيقة نقول أن الدولة العثمانية كانت دولة لا قومية ، تستمد شرعيتها من تمثيلها دولة خلافة المسلمين مهما كانت قوميتهم ، الا ان العنصر التركي كان هو المتحكم بها ، واللغة التركية هي السائدة ولا يمكن لموظف ان يترقى او يستلم منصب فيها الا باجادتها ، مما أدى الى انكفاء اللغة العربية ففقدت فصاحتها وتحولت الى عربيات محكية ولغة كتاتيب .
ومع أنقلاب حزب الاتحاد والترقي ، أصبحت الخلافة تركية لا اسلامية ، فشعر العرب بغربتهم في هذه الدولة القومية وكان من الطبيعي ان يتبلور الاحساس باتجاه الدعوة الى حكم ذاتي عربي او تاسيس دولة قومية عربية ( وفي مذكرات الضباط العراقيين الذين كانوا في الجيش العثماني ثم انحازوا الى الثورة العربية الكثير من معاناتهم من الاضطهاد والمعاملة الدونية تجاههم من الضباط الاتراك وهو امر ينفي ادعاءات المؤرخين الاتراك ان هؤلاء خانوا الدولة العثمانية ) . وكان نصيب مطالبةا القوميين العرب بحقوق شعوبهم ، أن نصب ” جمال باشا “الملقب بـ ” السفاح ” المشانق لهم في 6 أيار في ساحة المرجة بدمشق وساحة البرج في بيروت .
أما اوضاع العراق في زمن الخلافة فكان اتعس من نصيب البلدان الاخرى بسبب ابتعاده عن المركز
( الاستانة)) فعانى اهمالا شديدا ومن فساد وتخلف اجهزةالادارة والحكم العثمانية ، فاصاب الحياة العامة التخلف والجمود في شتى ميادين الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية فانتشرت الامية وعم الجهل ليخيَم طلاما شديدا على العراق الذي كان يدار من وال عثماني من بغداد مرة ، ومرة اخرى يقسَم الى 3 ولايات : بغداد، والبصرة ( كانت تضم الكويت والاحساء ) ، والموصل ( وتضم ديار بكر وجزيرة ابن عمر) .
اتسائل أين التزييف في تاريخ العراق العثماني ؟ فهذه حقائق صلبة لا تتزحزح تثبت أن الحكم التركي كان كارثة على العراق ، قطعته عن نور المدنية لقرون وحولت بغداد من عاصمة العباسيين الى قرية كبيرة خربة ، وشعب العراق يساق للسخرة او لحروب الدولة العلية ليموتوا في جبهات بعيدة لا ناقة لهم فيها ولا جمل . نعود ونقول انه منطق اللامنطق حين تلوي عنق التاريخ لتزيف الاحداث المندرسة لتستخدمها أوراق في صراعات حاضرة .
وهل ان الضباط العراقيين القوميين خونة وهم يبغون تحرير بلدهم من نير حكم اجنبي . وماذا عن تحالف الدولة العثمانية مع ” الكفار” البريطانيين والفرنسيين في القضاء على الوالي المسلم محمدعلي عندما اراد بناء وتحديث مصر ام ان الخيانة تقتصر على العرب فقط ؟ ماذا جرى لذاكرتنا الحية لنستنجد بجلادنا بالامس ونستصرخه للعودة مرة اخرى لنقع في حضن غرامه . هل وصلت بنا المهانة ان نترحم على من قتلنا . هل اصبحنا كلما تخاصمنا مع بعضنا ، وخاصة في امور فقهية ، ننسى الدين والوطنية والقومية الجامعة لنستقوي بالغريب القريب منا مذهبيا ، في لعبة وان بدت طائفية في الظاهر الا انها لعبة امم كونية واقليمية ذات أبعاد جيوسياسية يتم استخدامنا فيها عن طريق تطويع غرائزنا الدينية . هل هي دعوة جديدة لاستعمارنا بغطاء جديد ؟ لماذا كتب لينا هذا الاستصغار وكنا خير امة اخرجت للناس ؟
ليس القوميون العرب من زوروا تاريخ العراق ، وانما النيوعثمانية هم من يزور ، وللاسف سبقه الاضداد من محور الهلال الشيعي المقابل الى نفس التزوير بأن جعلوا تاريخ الطائفة الكريمة في جزيرة عائمة منقطعة عن ماحولها وكأن تاريخها لم يبدأ الا مع الغزو الصفوي للعراق …. فهل نكون شهود زهور على تشويه تاريخنا واستخدامه أداة في حروب الهلالات المتصارعة في المنطقة ؟ المشكلة في شبابنا الذي تنقصه الكثير من المعلومات والكثير من الخبرة وهو ينساق وراء الدعايات لهذا الطرف او ذاك ، وهو الامر الذي يجعلنا نتحسب لأن مستقبلنا بات بيد عفاريت لا تعرف أصولها ولا تعرف توجهاتها .