22 ديسمبر، 2024 9:15 م

هموم المُغتربين العراقيّين والسياسات الغامضة!

هموم المُغتربين العراقيّين والسياسات الغامضة!

في مثل هذه الأيّام من العام 2005 وطئت قدمي أرض الغُربة، ولم تستقرّ على أرض العراق حتّى الساعة وكأنّ قدرنا أن نبقى مجرّد أجساد مُتناثرة في أرض الله!
ومن يومها دخلنا في دوّامات الغُربة، ومتاهاتها وحسراتها، وكربها وشدائدها، وأحزانها، وقلقها، وهلعها، وفزعها وذعرها، وبشاعتها!
وممّا جاء في قواميس اللغة بخصوص فعل (الغُربة): غَرَبَ يَغرُب، غُرْبةً وغَرْبًا، فهو غرِيب، وغَرَبَ الرَّجُلُ: بَعُدَ عَنْ وَطَنِهِ!
ومنها كلمة الغريب: الرجلُ ليس من القوم، ولا من البلد، وجمعها: أَغْراب وغُرَباءُ، ومؤنثها: غَريبة، وجمعها: غَريبات وغَرائِبُ.
والعجيب أنّ مرادفات كلمة (غُرْبة) مليئة بالذلّ والهوان: ومنها الدخيل: وهو الذي يلجأ لمكان طلبا للأمان، والأجنبيّ: وهو الزائر أو المقيم ببلد لا ينتمي إليه، وغيرها من المعاني!
وحقيقة لا أريد أن أخوض بمعاني الغريب الأخرى لأنّني صدقا أخجل من ذكرها!
والغُربة، غالبا، رحلة إجباريّة تُلاحق أصحاب المواقف الواضحة. وحيثما حلّ الظلم والخراب والدكتاتوريّة والاستخفاف بالإنسان ازدهرت جرائم التهجير والتغريب وترعرعت!
ونحن في العراق، وجدنا أنفسنا في دوّامات مهلكة وقاسية ظاهرها الديمقراطيّة وباطنها الخوف والرعب والموت، وكانت النتيجة بأنّنا هُجّرنا من بلادنا إلى المجهول، وإلى الضياع والمنافي المليئة بالذلّ والهوان وقهر الرجال وسحق النفوس والكرامة إلا ما رحم ربّيّ!
في كلّ يوم نسمع حكايات مليئة بالقهر والمهانة والهوان، وهذه الحكايات تبدأ منذ اللحظات الأولى لدخول الأوطان الأخرى، لتصبح فيها أجنبيّا، وغريبا!
وتبدأ قُصص الغُربة المزعجة منذ اللحظات الأولى والمرعبة، والمدهشة، وفي غالبيّة المواقف الإجباريّة: الحدود البريّة والمطارات، وسيّارة الأجرة، والمطاعم والفنادق، والشقق المؤثثة، ثمّ في إجراءات الإقامة المليئة بالشروط القاسية والتعجيزية!
إنّ المآسي والمعاناة والمهلكات التي تُحيط بالمغتربين لا يمكن وصف طعمها إلا ممّن ذاق مراراتها، ولا يمكن لأروع الأقلام والعقول صياغتها والتعبير عنها لأنّها من القضايا الذوقيّة التي لا توصف إلا بالذوق الحقيقيّ وليس الخياليّ!
والغُربة مدرسة مليئة بالدروس الدقيقة والأصيلة. وهي تُعلّمك قيمة بيت الوطن ولو كان من طين، وتُعلّمك قيمة الوطن ولو كنت فيه نصف إنسان!
وتعلّمك الغُربة قيمة الأهل ولو كانوا لا يتواصلون معك، وتعلّمك قيمة الأصدقاء ولو كنت على خلاف معهم، وتعلّمك وتعلّمك… وأخيرا تعلّمك أنّ أرض الوطن هي أفضل أرض الله كيفما تكون!
في الغُربة تُفضّل البيت الصغير على القصر المنيف، وتتمنّى كسرة الخبز والزيت بدلا عن أفخم الموائد وأغلى الطعام، وترجّح الموت بأرض الوطن على حياة دهاليز الغُرباء المزيّفة!
في الغُربة، غالبا، تجهض الأحلام، وتُقتل الأفراح، وتُنحر المسرّات، وتطوف في قلوبنا وأرواحنا آلام وحشرجات لها أوّل ولا آخر لها!
وتنحر في الغُربة الأحلام، وتموت الأفكار، وتسرق الحقيقة وتغيب الأفكار، ويعيش المغترب فيها بوهم وخيال، وسيجد نفسه في مرحلة ما أمام الحقيقة القاتلة وهي: أنّه حبّة رمل في هذا الكون الوسيع، ولا يدري إلى أين المصير والمستقرّ؟
إنّ مكنونات نفوس المغتربين، وبالذات أولئك الذين يحملون هموم وطنهم وأهلهم، كافية لأن تكون أفضل الروايات العالميّة والأفلام والمسرحيّات.
ومن أبشع وأقسى الغُربات غربة الإنسان الذي لا يُمكنه العودة لوطنه، أو الذي لا يملك ملاذا آمنا في وطنه!
والأدهى والأمرّ، في غربة العراقيّين، هو تغليس حكومات بغداد، ومجالس البرلمان منذ العام 2004 وحتّى اليوم عن مصير المغتربين وهمومهم، وكأنّهم إمّا تخلصوا من المغتربين أو أنّ المغتربين خَفّفوا الحِمل عن الحكومات في العديد من الجوانب الحياتيّة والخدميّة المفقودة، أو النادرة، أصلا!
في الغُربة يتحوّل الغُرباء إلى ملفّات تساوم فيها حكومات الدول وتبيع وتشتري الغُرباء وكأنّهم قطيع من الناس لا يملكون رأيّا ولا فكرا ولا إرادة ولا حتّى كرامة إنسانيّة!
إنّ الخيط الفاصل بين الحكومات النقيّة والحكومات الملوّثة هو ملفّ الغُربة، وكلّ حكومة تتناسى الغُرباء هي حكومة فاشلة، وكلّ حكومة تعمل من أجلهم هي حكومة ناجحة!
والمغترب يسحق ولا أحد يذكره، أو يسأل عنه سواء أبات جائعا أو عريانا أو مريضا أو حتّى ميتا، والناس في الغُربة، غالبيّتهم العظمى هشّمتهم الغُربة وقطعت أوصالهم ومزّقت علاقاتهم الإنسانيّة!
إنّ المغترب هذا الإنسان، أو ربّما نصف الإنسان، هو ميت بين الأحياء، أو ضائع بين الأحياء، ولا أحد يفكّر به من غالبيّة رفاقه الغُرباء، هل يملك قوت يومه، وهل يملك أجرة شقّته، وهل يملك ثمن علاجه، وهل أمّن تعليم أولاده، وغيرها من الهموم الخفيّة!
في الغُربة لا أحد يَحمل همّك، وكما قال صاحبي الصحفيّ المغترب كأنّنا في يوم المحشر، الكلّ يصرخ:” نفسي نفسي”!
وفي الغُربة تنسى وتضيع كأنك شجرة في غابة نائية، وكما قال الراحل محمود درويش:
“تُنسى، كأنَّكَ لم تَكُنْ!
تُنْسَى كمصرع طائرٍ!
ككنيسةٍ مهجورةٍ تُنْسَى،
كحبّ عابرٍ!
وكوردةٍ في الليل… تُنْسَى”!
ارحموا المغتربين فلقد نالت منهم الغُربة، وأكلت من أيّامهم وأعمارهم وصحّتهم وسعادتهم ما يكفي!
هذه هموم مغترب كتبتها دون تفكير طويل، بل هي آهات صرخ بها قلبي وخطّتها أناملي ودموعي!
dr_jasemj67@
نقلا عن صحيفة عربي 21 اللندنية