تمتد الأهوار على مساحات شاسعة في الجنوب العراقي ، ولها امتداد مائي حتى اقليم الاحواز ، حيث يتصل هور الحمار بهور الحويزة منذ أزل أزمنة الطوفان وسلالات سومر ، ولهذا تكونت في المكان خصوصية بيئية وحضارية عكست في أرثها المدون والمحكي شواهد عظيمة لنصبٍ وحكاياتٍ وتراثُ أزمنةٍ يُحسبُ لها أنها كانت بدء تدوين الحرف وتخيل الحكايات الاسطورية وبدء نزول الرسالات السماوية وبدء نشأة الحلم الأول والالة الموسيقية الاولى والختم الاسطواني وبناية المعبد ومحكمة التشريع.
وكل أول هو من ذلك الطين وغابات القصب ونبوءات الالهة لتكون سادنَ سلوكنا وطموحنا ويومنا الحياتي.
وايضا تلك الامكنة كانت الملاذ الآمن لطقوس الديانات القديمة ومنها الديانة المندائية التي غادرت مناطق حران في شمال الفرات لتسكن هذه البطائح وتجد في العيش قرب ضفاف الاهوار والانهر واهمها تاريخيا مدن قلعة صالح والكحلاء وسوق الشيوخ والحلفاية ، فيشكلون في تلك الحواضر أصرة قوية ومتماسكة للنسيج الاجتماعي والحياتي.
هذا العالم بتفردهِ وأزليته وتاريخه يحمل خصوصية الحياة لأناسٍ تعودوا العيش فيه بالرغم من أنه ولعقود طويلة بقيَّ عليها بعيدا عن حبة الاسبرين وبيت الطابوق وطريق الأسفلت ومحطات مياه الشرب ، وحتى حوانيت العطارين كانت تنتقل متجولة بين قرى المكان وعلى زوارق يبيع اصحابها حلوى المْلَبس والتوابل والاقراط والقماش البازه والنيسي ، فيما قماش الكودري كان ثوب النساء ويفضلون هذه الاقمشة مخاطة حتى لو لم تكن على قياسهم لعدم وجود الخياطين في هذه الامكنة ، وقديما كان الصابئة هم الجوالون في تلك الامكنة وهم من يمارسون التطبيب وقراءة الطالع وغيرها من الاحتياجات الروحية التي كان سكان تلك القرى بحاجة اليها.
لم يمدْ المعدان ( عرب الأهوار ) مع الحضارة القريبة منهم سوى هذه الخيوط النحيلة ويأخذون منها قدر حاجتهم فيما ابقوا حياتهم وصحة اجسادهم واعمارهم على قدرية غامضة تسكنهم وقناعة أن المكان يمكنهُ أن يمنحهم خلودا حياتيا طويلا ويحصنهم ضد امراض الماء ، البلهارسيا والاسهال والكوليرا وغيرها من الامراض ، وفعلا كان المكان وفيٌ لأصحابه وكان معدل اعمار الرجال والنساء قد يمتد الى فوق الستين ويصل التسعينات في بعض الاحيان.
كانت سعادتي كبيرة وأنا أشاهد بحب أولئك الكهول من المعدان وهم يقودون قطعان الجواميس الى قيلولاتها الحالمة في ظهيرة الماء ، وكانوا يسيرون خلفها حفاة ويمسكون العصي الغليظة وهم يضربونها على مؤخراتها حين تمارس عنادا في العودة الى حضائرها ، وحين تعطس جاموسة في وجه احدهم يتقبلها بمرح لأنه يشعر أنَ عطاس الجواميس ليس إلا مشاعر فرح ورضى من قبلها أنها اليوم اكلت جيدا واستمتعت بقيلولة الماء وأنها في الليل ستدر له حليبا وفيرا ودسما ليُعملَ منه القيمر وفي الصباح ستكون أم المنزل القصبي الصغير متهيئة لحمل اواني القيمر على رأسها والسير لعدة كيلومترات حتى تصل الى المدينة لتبيعه.
عطاس الجواميس وحنان المعدان ، مشهد سريالي رائع لحياة كان بدؤها صناعة دمى الالهة من الطين المخفور وختامها صحونا لاقطة لاستلام البث الفضائي والتي نراها اليوم فوق بيوت القصب في معظم قرى المعدان..!