23 ديسمبر، 2024 8:20 ص

همجية العنف وحضارة امتصاص الغضب

همجية العنف وحضارة امتصاص الغضب

استهلال:
” يفكر المرء في الحدث حتى لا يخضع لما يجري” – حنة أرندت –
 يرتد العنف على كل من يلتجئ إليه للدفاع عن نفسه أو لفرض رأيه على الآخرين دون إقناعهم ويرتد الإرهاب على صانعيه ومنفذيه ويفتك بالأدوات وكل متعاون ومسهل ومخطط ومبرمج ومدعم ومبيض.
ربما مثل هذه الدروس مستفادة من مجرى الأحداث التي ترجي في العالم عموما وفي الشرق الأوسط وفي الحالة العربية والإسلامية على وجه التحديد وما يلاحظ هو انقلاب السحر على الساحر واحتدام التوظيف.
بعض من الاعتداءات الإرهابية التي ترهب مدن الدول القوية والأنظمة السياسية الضعيفة تتنزل ضمن المعركة المعولمة على المصالح والنفوذ والمواقع وتهدف إلى الاختراق والاستقطاب والتوسع والهيمنة.
لقد استعملت الامبريالية في صورتها المعولمة التيار الديني لإخراج العديد من الدول والشعوب من الزمن السوفياتي وإدخالهم بطريقة طوعية من جهة وبشكل إكراهي من جهة أخرى في الزمن الليبرالي الجديد.
لقد ألصقت عمدا صفة الإرهاب بالإسلام واتهم العرب بالجمود العقائدي وتفريخ المتشددين والمحافظين وبات العالم في حاجة إلى الأمن والحماية من هؤلاء الانتحاريين وتحمل مسؤولية الوقاية من عدوانيتهم.
لقد تماثل الصبح مع المساء وصارت كل إشراقة نور تدل على الغروب والأفول وسقطت حضارة إقرأ في فخاخ لا تعلم من نصبها لها وباتت الجماعة التاريخية الناطقة بلغة الضاد شاردة في متاهة لا مخرج منها.
يصعب في زمن الحروب الأهلية تقديم جواب عن سؤال من هو العدو؟ وبشكل معكوس من هو الصديق؟، ويتعذر على كل فرد ومجموعة في وضعية التهجير القسري وتفاقم ظاهرة الهجرة السرية وغير الشرعية من ناحية القانون الدولي إعادة التسجيل ضمن أفق الحس السليم ومدار المواطنة العالمية لحقوق اللاجئين.
عودة أشكال العنف والتخويف اقترنت بمقاومة العالم القديم ودفاعه عن وجوده بكل الطرق والآليات التي يحوز على خبرة كبيرة في استعمالها وعسر ولادة العالم الجديد وهشاشة البدائل والخيارات التي يطرحها.
ماهو إشكالي هو اقتران العنف بالمقدس والتحديث المدني بالإحياء الديني، وكذلك تزامن التوجه نحو بناء مؤسسات ديمقراطية أهلية مع تفجر منابع رمزية ومادية للتدمير الذاتي والصراع على السلطة والرغبة في الغلبة والاستحواذ على الثروة، وأيضا حدوث تمفصل بين الاقتصاد المعولم وعولمة التهريب والفقر.
غير أن الجماعات الدينية الأخرى لا تزيد تسامحا وسلمية عن العرب والمسلمين ولا تتفوق عليهم من جهة التمسك بالعيش السوي والالتزام بإرادة الحياة المشتركة إذ يتخللها من التمركز والعنصرية واستبعاد الغير والنزاعات السادية والسلوكات الانتفاعية والعقلية الاستغلالية ما قد يقل في المجتمعات الشرقية والنامية.
قد تطول مدة اضطراب الزمن الذي يعيش فيه الإنسان وتتزايد عطوبية الفكر والفعل ويتأخر ظهور بوادر التسوية وإنهاء النزاعات وإحلال السلم والتعايش وقد تعرف الديمقراطيات اهتزازات وعدم استقرار في تنظمه الذاتي وتجديد هياكلها وبناها التحتية وقد تتفشى الجريمة المنظمة وقد تتغلب على الدولة الراعية والحامية ولكن الأمل في عقلنة من فوق تفرض نموذج سلام من أعلى قد يشعل لهيب النزاع الاجتماعي.
اللافت للنظر أن الحضارة الغربية هي قمعية من حيث التكوين والمبدأ وذلك من خلال تعنيف الغرائز واحتقار الجسد وتجفيف المنابع الروحية وتدنيس الأبعاد المعنوية والحط من شأن المقدس وبالنظر إلى فاشية اللسان و مركزية العقل واستبداد الفرد على الجماعة وطغيان الآلة وهيمنة التقنية على الحياة واقتصار التدابير السياسية على امتصاص الغضب وتجنب الانفجاريات الاجتماعية واستثمار الأزمات.
فماهي الأسباب الموقظة لنزعات التدمير والانتقام في الوضع البشري؟ هل يتعلق الأمر بانفعال الغضب بوصفه أشد الانفعالات الفلسفية فتكا أم أن المسألة ترتبط بصناعة العنف واعتماد إستراتيجية قصووية ؟ هل هو إرهاب معولم وعنف دون حدود وبلا مقاصد أم مجتمعات بصدد التفكك وإمبراطوريات تتهاوى؟ كيف تتشكل تمثلات العنف المسلط على البشر ضمن استعمالات الجسد في الفضاء الاجتماعي والسياسي؟ ماذا عن إرهاب الدول والمنظمات والشركات؟ ولماذا يحتج الإيمانيون على وصف قتل الكافرين إرهابا؟ لمن يمنح الحق هنا ؟ هل للتكفير أم للكفر؟ وما وضع كل من المارق والمذنب والتائب والعائد والمعتزل؟
ما نراهن عليه هو إبعاد الشريحة الشابة عن مخاطر الغلو والتنبيه على العواقب الوخيمة التي تنجم عن العقلية الانتحارية وأسلوب التدمير الذاتي والتأكيد على أهمية الإدماج والاندماج في بناء سياسة المحبة.
1-عنف بلا مكابح وإرهاب معولم:
” العنف الإرهابي هو عنف هجين ، فقد قام بتسجيل نفسه ضمن استراتيجية تقصد توجيه ضربات في بلدنا بأكمله ،لكنه قام أيضا بتسجيل نفسه ضمن مسار مشاكس يبدو أنه بعيد جدا عن السياسة.”[1]
لقد طرحت موجات العنف التي ضربت مؤخرا العديد من العواصم والأماكن في العالم العديد من الأسئلة التي تتعلق بهوية الفاعلين ومعاونيهم وآليات عملهم ومضمون مخططاتهم وطبيعة أغراضهم ومساحة أهدافهم وأثارت عدة تحديات على الأصعدة السياسية والعسكرية والحقوقية والاقتصادية والإيديولوجية.
لقد تحولت ن أو تم تحويل، مجموعة من التنظيمات الإجرامية من مجرد جماعات عقادية تتبني إيديولوجيا انتحارية وتتحرك في مناطق توتر وفضاء تنازعي إلى دولة افتراضية ذات قدرات هائلة وغير متوقعة على إحداث ضربات عنيفة في ذات الوقت وفي عدة أماكن وتخليف الضحايا وتخريب العمران والمدن.
لقد تخطت هذه التنظيمات كل الحدود وعبرت جل الحواجز وصارت ظاهرة عابرة للدول والقوميات والشعوب والأديان والطوائف والقارات وتعولمت بحيث أمكن لها القفز على كل أشكال المنع والحظر.
من تداعيات هذه الضربات هو نهاية أسطورة الأمن التام الذي توفره دولة العناية وأفول نظرية الحماية المطلقة للأفراد وممتلكاتهم ضمن اقتصاد السوق والفضاء اللبيرالي وفي المقابل ظل العدو مبنيا للمجهول.
لقد عدنا إلى منطق الحروب المترحلة وخلق النزعات ضمن إطار الواحات الديمقراطية وبث الرعب في المنتجعات السياحية وما ترتب من تزايد أزمات اقتصادية وتسريح العمال وتكاثر عدد الفارين من جبهات القتال وتعقد ظروف الاستقبال والإيواء بالنسبة للمهاجريين وتقلص فرص تمكينهم من حق اللجوء والبقاء.
 لم تعد الضربات الإرهابية تستهدف المسلحين من العسكريين والأمنيين والقادة السياسيين فقط وإنما أصبحت تطال أيضا الناشطين والصحفيين والفنانين والمثقفين والمدنيين من الأبرياء العزل وباتت موجهة ضد  المؤسسات الإعلامية والبنى التحتية من مستشفيات ووسائل نقل ومراكز اقتصادية ونقاط تجارية.
لقد قام مهندسي رأسمال العابر للخدود بتوظيف الايديولوجيا الدينية في نسخته النصوصية المنغلقة من أجل استقطاب الفئات المهمشة والشرائح الاجتماعية التي تعاني من مشاكل في الاندماج والتعويل على الدعاة الجدد وسائل الاتصال الحديثة والمرئيات المتعددة في سبيل كسب الموالين وحشد المتعاطفين.
لقد وقع تشغيل آلة للقتل على الصعيد العالمي ووقع التغرير بالعديد من الشباب من خلال غسل الأدمغة والتحكم في تقنيات الدعاية وآليات الاستقطاب وأساليب الترغيب وسقطت عدة دول في الفخاخ المنصوبة وتصاعدت وتيرة الديناميكا الانتحارية وزاد الرصيد الانتخابي للأحزاب اليمينية المتطرفة في العالم الحر.
هكذا أخفت الشركات متعددة الجنسيات رغبتها في التخلص من الحواجز الجمركية وتملصها من دفع ضرائب مرتفعة عند نقل البضائع والأموال والتوجه نحو الاستثمار في مناطق مشجعة بأن أوكلت هذه الوظائف إلى التنظيمات الإرهابية والعصابات الإجرامية التي تجعل من الحلم بالدولة الدينية العالمية مطية لاجتياز الحدود خارج إطار المراقبة ودون علم النقاط القانونية وزرع مسالك موازية للتهريب والتكسب.
في الظاهر تسعى هذه المنظمات إلى إقامة دولة عالمية وتردد شعار الحرب المقدسة ضد الشر المحض ولكن في الباطن تعتمد على المهمشين من الجاليات في بلدان المهجر ومن الأقليات في البلدان الشرقية ذات الأغلبية المذهبية الواحدة وترسل اليائسين من الشباب إلى مناطق التوتر وتجنح إلى التفجير والتفكيك عبر إحداث الصدمة والترويع وانتزاع أجزاء من الأرض بعد التهجير من السكان الأصليين والاجتياح.
كما تحاول هذه التنظيمات الإرهابية أن تمسك بمسالك التهريب من أجل كسب المال وأن تتحكم في الفضاء القدسي بالاعتماد على أئمة وقضاة موالين والسيطرة على الفضاء المادي من خلال ثنائية الحماية والبيعة.
بهذا المعنى تعتمد الدولة الإرهابية المزعومة على منظومة رعاية تتكون من تعليم وخدمات اجتماعية ضمن تمفصل السكان والإقليم والحكومة وتمنح المسلحين سلطات واسعة في فرض الأمن في الداخل والإغارة على الدول المجاورة وعبور الحدود والتوسع في اتجاه فرض إيديولوجيا خطيرة تنبني على العنف وتسعى إلى هدم المجتمعات الضالة والدول الفاسدة وبناء مجتمعات جديدة عمادها الإنسان المؤمن وتتحرك ضمن عقيدة تضحوية ورؤية روحية أخروية تنذر بحلول الكارثة وتحتقر الحياة بالمعنى المادي.
لا يتعلق الأمر بالعنف بالمعنى الكلاسيكي الذي تمارسه الدولة ضد الأفراد والذي يحتمي به الأفراد للذود على أنفسهم في حالة الحرب الأهلية بل يتنزل ضمن تصور معاصر للرعب باسم المقدس يخاطب المخيال ويصادر البعد الأخروي ويفترض اتصال الجانب الدنيوي بالبعد الغيبي ويعاقب المرء بإخراجه منهما معا.
يميل هذا العنف القصووي إلى التحطيم والتخريب ويحاول تجذير المواقف السياسية وخلط الأوراق من خلال تهديد الفردانية والموروث الثقافي ويقوم باستعمال المقدس بصورة هجينة لكي يكتسب المشروعية.
في الواقع” لم يعد الأمر يتعلق بآلية بسيطة من القوى التي تصبح محدودة عندما تبلغ مستوى معينا من مستويات التحطيم وإنما بديناميكية معينة حيث يمسك ( أو لا يمسك) العنف دور العنصر المحرك “[2].
لقد أضحى العنف الأصولي المرتبط بالجماعات رد فعل أول على الجرائم التي ترتكبها الديمقراطيات المعلمنة التي تنتصر للفردانية على حساب الجغرافيا السياسية لمصالح الأمة والمقدرات المستقبلية للوطن ورد فعل ثان على التحالف الخطير بين العنف الاجتماعي للحق المشترك والعنف السياسي لدولة القانون.
ما لبث الإرهاب يتغذى من مخيال الجماعة الحالمة ويتكثف في شبكات التواصل لدى العناصر التي تتوهم الفوز في معركة فرسان اللاهوت مع البشر الدهريين وترنو إلى الغلبة الأداتية على الأعداء التحديثيين. كما يعتمد الإرهابيون على فكر أداتي ومعرفة اتصالية وعقل حسابي ومخطط استراتيجي من أجل امتلاك السلطة المطلقة والنفوذ التام ومصادرة كل شكل من أشكال الحرية وتخليف أقصى درجات الفتك بالعدو.
بهذا المعنى يمكن التمييز بين العنف الديني الذي يوظف سلطة المقدس في الصراع على السلطة السياسية وما ينجر عن ذلك من تفرقة في المجتمع بين المؤمنين والخارجين والعنف الثوري الذي تقوده طليعة اجتماعية نحو التغيير والتقدم وبين العنف التدميري الذي يهدم النظام ويخرب المؤسسات ويؤدي إلى الفوضى والهمجية والعنف التكويني الذي يحرص على البناء والارتقاء بالإنسان نحو المدنية والتحضر.
بيد أن انتقال العنف من دائرته المحلية والطبقية إلى الدائرة المعولمة وتغييره للوسائل التي يستعملها في الصراع من الوسائل الفيزيائية والتقليدية إلى الوسائل التقنية والآليات المتطورة ألصق به صفة الإرهاب وزاد من خطورته على الأفراد والجماعات والدول والمجتمعات والأمم واستقر مفهوم الإرهاب المعولم.
2- غضب الكراهية والانفعال المدمر:
” يحوز الغضب هاهنا على ماهو خاص الذي يترجم على نمط انفعالي رفضا للمنزلة التي يعتبرها غير متسامح معها “[3].
برزت أطروحة فلسفية بعد الأحداث الأخيرة التي هزت العالم تربط تصاعد العنف والجنوح إلى التدمير والالتحاق أفواج من الشباب بالمنظمات الإرهابية بحالة الازدراء التي تعاني منها في مجتمعاتهم والصورة النمطية التي تحملها الحضارة الرأسمالية تجاه ثقافاتهم وتفاقم مشاعر الكراهية والتمييز تجاه الأجانب وما ترتب عن ذلك من ردود أفعال وغضب جماعي وانفعال شديد وتأثر بالغ وصل الرغبة في الانتقام والثأر.
لقد مثل التصادم بين الحضارات والتنابذ بين الأديان والاحتدام بين الطوائف والصراع المادي بين القوى الاجتماعية على الفوز بالمصالح والمواقع أسباب جوهرية لتغذية مشاعر الكراهية ومعظم الانفعالات السلبية وشكلت أيضا أرضية خصبة يترعرع فوقها التعصب واللاّتسامح والانغلاق والتشدد والإضطغان.
 يشعر الفئات الشابة بالغضب الذي يصل إلى حد الاختناق والحصر والانطواء في علاقة بالداخل والى حد التذمر والشكوى والتألم في علاقة بالخارج ولكنه ما يلبث أن يتفجر بركانيا ويتحول إلى قوة ضغط رهيبة.
كما تنتاب مشاعر الحزن والتشاؤم والحقد والنظرة السوداوية  بماهي إحساسات غير إنسانية جميع شرائح العاطلين ويزيد الفقر والمرض والحاجة وقلة ذات اليد وفقدان الأمل بعد غياب الحلول الناجعة للمشاكل المستعصية وفشل البدائل والخيارات ويتحول العديد من الفاشلين إلى قنابل بشرية موقوتة وطابور خامس.
من جهة ثانية يجب التمييز بين الاحتجاج العفوي على رداءة الأوضاع وبؤس الأحوال والغضب الساطع نتيجة تراكم الوعي وجدية الموقف والانحياز إلى المظلومين والتصميم على التغيير بالبراكسيس الجماعي والاتجاه نحو التمرد على الأنظمة القائمة والدخول في صراع من أجل انتزاع الاعتراف والظفر بالحقوق.
لقد تزايد في زمن العولمة والدولة الرخوة عدد الغاضبين والمفقرين والنازحين وتضاعف عدد طالبي اللجوء والمهاجرين والمفقودين وبات الكوكب يعاني من انفجار ديموغرافي رهيب وتقلص فرص الشغل وشروط الحياة الكريمة نتيجة تردي التعليم والخدمات الصحية وتراجع الحماية التي يوفرها القطاع العام.
ينتاب انفعال الغضب جل العمال الذين يشتغلون في ظروف غير إنسانية ويتقاضون أجورا زهيدة ولكنه يحضر بقوة لدى شريحة المؤمنين الذين يشعرون بالإهانة من طرف الآخر الامبريالي وعندما يتم تدنيس مقدساتهم والسخرية من رموزهم الدينية وينتفضون ليس من أجل توزيع عادل للثروة المادية كما الشأن عند الفئات الاجتماعية المهمشة بل من اجل إعادة الاعتبار للذات الجماعية ونيل الاعتراف والتقدير.
كما يغضب الغرب من الشرق عندما يتم استهداف مكتسبات الحداثة والأنوار ويتم فرض قيودا على حرية التجارة وحركة رؤوس الأموال ويتم التضييق على فرص الاستثمار وتنمية الثروات وتهديد الممتلكات.
” تختفي ،عند الغضب، الحواجز بين المجرد والملموس لفائدة التيقن من الفضيحة ويكون هذا التغلب على الحواجز النصر الأول على القدر، ويوضع كل شيء موضع رهان وتتحدث السياسة مجددا لغة القلب”[4].
لقد ساهمت الأعمال الإرهابية في تشكل رؤية سوداوية للعالم تمارس العنف دون الالتجاء إلى القوة المادية وتقتصر على العنف الرمزي وتقوم بالترويع والتخويف والتأثير على المعنويات وإصابة الإرادات بالشلل وذلك بإحداث الصدمات والرجات وصناعة الفتن والخصومات بين الجماعات وتمزيق النسيج الاجتماعي.
فهل يمكن للبشرية أن تحلم بمجتمع بلا طبقات واقتصاد دون تفاوت وعالم خال من الكراهية والغضب؟ وكيف يمكن امتصاص مشاعر الاحتقان وتفادي دوافع الانتقام ورغبات الثأر والاهتزازات الاجتماعية؟
3- مواجهة السياسي للانفعالات الجماعية:
 ” يمكن أن يكون الغضب عادلا طالما أنه يكشف حساسية ما تجاه التوزيع الصحيح للمنافع والمضار في المجموعة “[5].
 تعترض كل محاولة للقضاء على العنف المعلوم صعوبات موروثة وعراقيل مكتسبة بحيث يتعذر على الفكر الفسلفي الراهن رسم مسالك توضيحية تعالج سؤال : كيف يفكر الإنسان في مدينة خالية من العنف؟
لقد عبرت موجة العنف المتصاعد عن جماعة حالمة وترجمت بصورة لاواعية حركية عقلية نحو اليقظة وعزم وجداني على الاستئناف وإصرار على مستوى الفعل بغية البذل والعطاء وتحقيق الفائدة للبشرية.
على هذا النحو يتطلب الأمر إزالة الحاجز وتفكيك العراقيل وإعلان الحداد على شأن سياسي بقي إلى الآن يتبع إجراءات التمييز والإقصاء والاستئصال وتوخي تدابير إيتيقية تعتمد على أساليب الصفح والإدماج.
يبدو أن رفع شعار حرب على الإرهاب من أجل مواجهته والقضاء عليه يعاني من العديد من المشاكل:
-الحرب على الإرهاب هو مصطلح متناقض يمارس ما يسعى إلى التخلص منه وضرره أكثر من نفعه.
-الحرب على الإرهاب ظل مجرد شعار ينتمي إلى دائرة الإيديولوجيا وكلمة الحق التي يراد بها الباطل.
-استخدام الطرق الأمنية واللجوء إلى الوسائل العسكرية والاستنجاد بالحلول القصووية يفضي إلى ردود أفعال عنيفة من طرف المستهدفين ويغذي مناخ الإرهاب وينشر اللاّتسامح ويعيد إنتاج المجتمع المغلق.
إذا كانت المقاربات العسكرية محدودة وناقصة فإن البدائل الإيتيقية تستند بالخصوص على ما يلي:
–         تفعيل الصراع الديمقراطي ضد الإرهاب وذلك عدم مقابلة الإساءة بالإساءة ودفع الحق على القوة.
–         تطوير البحث المخبري بالبحث عن تناسق في الأقيسة والنماذج والأنساق وإجراء حوارات بين الهيئات حول المراقبة والعناية.
–         التحلي باليقظة والقيام بتقاسم المعلومات والاستباق عند الطوارئ ورصد المخاطر والوقاية منها وسرعة علاجها [6].
–         الاهتمام بالضحايا وجبر أضرارهم والتخفيف من الآلام التي بقي يعاني منه المحيطون بهم وتوثيق باعة الجرائم وإظهار الدوافع العنصرية والهمجية لمرتكبيها.
–         تحويل الغضب من انفعال شديد يشحنه الخيال وتقوله اللغة إلى توجيه في خدمة حكم بارد للعقل  وتسهيل الانتقال من الغضب من أجل العدالة إلى تشريع قوانين الغضب العادل .
–         نحت سياسة إعلامية مضادة تحرص على التصدي لظاهرة الإرهاب من خلال إصدار دراسات نقدية وتوعية الشباب ونشر كتب ومجلات تثمين السلم وتؤثر في الناس بطرق بيداغوجية مناسبة.
إذا تعذر علينا تقاسم نضال مشترك ضد العنف واستحال تنظيم فعل جماعي من أجل التصدي للإرهاب فإنه من الممكن السعي نحو تشييد شكل جديد من السلطة السياسية يقطع مع الشمولية ويجتث من الجذور كل البذور التي تهيئ الأرضية لتفريح الإرهاب وذلك بالإمساك عن إتيان الظلم والتمييز والإقرار بالتعدد.
علاوة على ذلك يتطلب الأمر إيجاد بدائل اقتصادية تنمي قدرات الإدماج والاعتراف بالأفراد والجماعات التي تعرضت للازدراء والتهميش بتبني خيارات اللامركزية والديمقراطية المحلية وتشريك الجهات في ممارسة السلطة ومنحها أولوية تنموية وتفعيل سياسة التمييز الايجابي وتشجيع مبادراتها الذاتية في التنظم.
من جهة أخرى تستوجب الوضعية الإصغاء إلى الفئات الشابة والاهتمام بالشرائح الاجتماعية الغاضبة على غرار المراهقين والمنبوذين من النساء والأطفال والمرضى والمهاجرين والعاطلين وفاقدي السند.
حري بالأطراف الأكاديمية أن تنخرط في مقاومة الانفعالات الشديدة وتساهم في إيجاد تربية تعقلن الأهواء وتروض الغرائز وتهدئ الخواطر وتمتص هياج الرغبات وتحول نزعات التدمير إلى نزعات في البناء.
إذا أردنا السير في اتجاه المستقبل وبحثنا بجد عن تجنب التظاهرات الاجتماعية الكبيرة ضد السلطة القائمة فإنه من المفروض أن نبرم المصالحة مع الماضي ونعالج الجراحات العميقة التي أصابت عمق الذاكرة الجماعية وننتبه إلى أمراض الحاضر ونقوم بتأطير أشكال الاحتجاجات المعزولة ونعترف بوجاهة حقها.
بناء على ذلك يمكن تفسير حالة الغضب وتفشي انفعال العنف بتزايد الأزمة الاقتصادية وقلة الموارد المالية لدى الأفراد وحالة العوز المادي للفئات الشعبية ولكن يمكن تأويلها أيضا بالعودة إلى غياب العدل وتكاثر الظلم وصعود أشكال التفاوت واللاّمساواة وعدم تساوي الحظوظ والفرص في التعلم والتشغيل.
إذا كان الإرهاب قنبلة مرئية يمكن تفكيكها بالاعتماد على تقنيات دقيقة وبالتالي تفادي المضار التي تترتب عنها فإن مشاعر الإحباط وانفعالات اليأس والرغبات العنيفة تظل مطمورة في أعماق اللاشعور السياسي وتحتاج إلى الكثير من التشريح العلمي والمعالجة النفسية والأنسنة الثقافية لكي يتسنى تطهيرها وتزكيتها.
لا يمكن الانتظار من العنف المعولم أي شكل من البناء والتكوين والتقدم، فهو لا يحمل في حقيبته سوى التدمير للأوطان والخراب للعمران ويصحر الوجود البشري ويدفع برمال العدم لكي تكسح واحات الحياة.
لا توجد أديان عنيفة في حد ذاته ولا تتضمن بالضرورة ايديولوجيا  تنازعية ولا تشجع على الأعمال العنيفة من حيث المبدأ وإنما استعمالاتها من قبل السلطة قد تؤدي إلى ارتكاب الجرائم وتقوم بتبريرها،  وليس ثمة أعراق دموية بطبعها بالنظر إلى أن مقولة العرق فقدت نقاوتها الطبيعة وحل مكانها الاختلاط والامتزاج بين الجينات الوراثية للأفراد والجماعات وتغلبت المكتسبات الثقافية على الطبائع والأمزجة.
أليس من حق الناس أن يحلموا في العصر ما بعد الصناعي بعالم خال من الغضب والعنف والحرب؟
خاتمة
” في كل الأحوال كل سلطة وكل نظام مؤسساتي لا يستمر إلا حينما يكون قادرا على إنتاج مؤثرات مشتركة تمنحه الاستمرارية”[7]
لقد ظهر الإرهاب وتفشى بصورة لافتة بعد الحرب العالمية الثانية في القرن العشرين وتزايد الاستعمال السياسي لهذه الظاهرة على الصعيد الكوكبي وتعدى ذلك نحو تحقيق منافع اقتصادية ومكاسب عسكرية.
في زمن الثورات يحدث صراع بين القديم والجديد وتندلع الحروب الأهلية ويرتع فيها الارهابيون نتيجة الفوضى العارمة وانعدام النظام ويتحول الإرهاب إلى أداة فعالة للسيطرة والاستحواذ وممارسة الترويع.
لقد شهد تاريخ العالم بروز إرهابيين مشهورين يتبنون مواقف قصووية وممارسات عنيفة ولكن ما يتميز به العصر ما بعد الصناعي هو عولمة الإرهاب وانبناء العمليات الإرهابية إلى عامل المجهول والعناصر الافتراضية وتحضيرها ضمن الإطار المجهري واتصافها بالطابع المباغت والفرجوي وإحداث الصدمة.
يرتبط تصاعد الإرهاب بأزمة في المتخيل السياسي للناشطين وفي المشروع المستقبلي للأنظمة القائمة ويدخل الخطاب الديني على الخط في اتجاه الدفاع على الشرعية التقليدية من جهة وتغذية موجة الاحتجاج والخروج عن النظام العام عند الفئات المهمشة والشرائح الفقيرة في الفترات الانتقالية من جهة أخرى.
هكذا يتوزع الإرهاب بين دوائر أربع:
–         دائرة ايدولوجيا السياسي
–         دائرة رمزية الديني
–         دائرة انفصال الخصوصيات: استعمال الحلول القصووية من طرف الهويات الصغيرة من أجل تحقيق المصير المشترك والبحث عن الاستقلال عن طريق الانفصال عن الأنظمة السياسية الشمولية.
–         دائرة الجريمة المنظمة:
بهذا المعنى يمكن موضعة الإرهاب على أربع مسطحات:
-الإرهاب الفردي: الذئاب المنفردة والنزاعات التدميرية المنعزلة والأفكار القصووية التي تترتب عن طغيان التشاؤل واستبداد إرادة العدم وسيطرة الانفعال والغضب على النفس الإنسانية.
– الإرهاب المنظم: مجموعات مسلحة توجد في شكل عصابات أو شبكات مجهرية للمتاجرة بالسلاح وتهريب المهاجرين بطريقة سرية وتبييض الأموال وتسفير المقاتلين إلى مناطق النزاع.
– إرهاب الدولة: إتباع سياسات التمييز التي تعتمد أسلوب الاستثرثاء للأقلية والتفقير للمجموعة.            
– إرهاب العولمة: سيطرة ايديولوجيا التماثل والتنميط والربح والاستهلاك على العالم.
علاوة على ذلك انتشرت أنماط جديدة من الإرهاب بسبب تداخل العلاقات بين العولمة والتقنية وبروز الخصوصيات وسيطرة الكلي على المحلي وكثرة تداول مصطلحات الإرهاب الإثني وإرهاب الهويات وصعود مفهوم جديد للإرهاب امتلك ملامح ثورية راغب في فرض نموذج شيوعي على الكوكب طوال العقد السابع من القرن العشرين[8]. بعد ذلك حل محله الإرهاب الديني في وجهه الثقافي عند جماعات المجتمع الأهلي والإرهاب الشمولي في وجهه السياسي الذي يحتكر الفضاء العام بالقوة العسكرية.
في نهاية المطاف مهما اختلفت المقولات التي نستعملها في تصنيف العمليات الإرهابية فإن الحدود التي يمكن رسمها بين العنف والحق وبين الانتقام والصفح وبين المشروع وغير المشروع تظل من مشمولات الفلسفة السياسية المعاصرة ويتطلب الأمر تدبير وسائل الفعل وتخريج مناط السياسي المعقول من الإجرامي اللامعقول ورفع الالتباس بين المقاومة السياسية للظلم والإرهاب الانفصالي والعنصري.
تظل قوى الصفح فضائل إيتيقية وسلوكيات خيّرة تنتمي إلى الزمن المبكر الذي تشكلت ضمنه مشاعر الكراهية وانفعالات الحقد وتكشف عن البراءة الأصلية والإرادة الطيبة وتغلب الحق على واقع العنف.
إذا كانت عولمة الإرهاب ظاهرة طارئة لا تستطيع البشرية تحمل استتباعاتها فإنها لن تبق مكتوفة الأيدي ومستسلمة أمام تفشيها وغير مكترثة مخاطرها ولن تكتف بالتنبيه على الكارثة وتقتصر على ترديد الخطاب الأبوكاليبسي بل تحرص على استثمار موجات الغضب المقدسة في تلبية الحاجة الى السرد وتغذية المشاعر الوطنية عند الانتماء الى جماعة تاريخية وتستبدل سلطة الكراهية بسياسة الصداقة ، فهل قدر الإنسانية أن تظل تؤمن بالسلم الدائم على مستوى الحلم وتعيش الحرب الدائمة في الواقع؟
الهوامش والإحالات:
[1] Garapon (Antoine), la violence mondialisée , in revue Esprit, N° 421, Janvier, 2016,p46.
[2] Foessel Michael, la violence sans fin, in revue Esprit, N° 421, Janvier, 2016,p82.
[3] Chalier Jonathan et Foessel Michael, leurs colères et les nôtres, in revue Esprit, N° 423, Mars -Avril, 2016, p32.
[4] Chalier Jonathan et Foessel Michael, leurs colères et les nôtres, op, cit, p33.
[5] Renaut Olivier,la colère du juste, op, cit, p145
[6]Quelles réponses internationals? , in revue Sciences Humaines, Mai 2016, N°281, pp28-31
[7] Lordon Frédéric, les puissances de l’indignation, op, cit,p176.
[8] Les types du terrorisme contemporain, in revue Sciences Humaines, Mai 2016, N°281, pp26-27.
المصادر والمراجع:
Revue Esprit, N° 421, Janvier, 2016,
Revue Esprit, N° 423, Mars -Avril, 2016,
Revue Sciences Humaines, Mai 2016, N°281,
 
كاتب فلسفي

[1] Garapon (Antoine), la violence mondialisée , in revue Esprit, N° 421, Janvier, 2016,p46.
[2] Foessel Michael, la violence sans fin, in revue Esprit, N° 421, Janvier, 2016,p82.
[3] Chalier Jonathan et Foessel Michael, leurs colères et les nôtres, in revue Esprit, N° 423, Mars -Avril, 2016, p32.
[4] Chalier Jonathan et Foessel Michael, leurs colères et les nôtres, op, cit, p33.
[5] Renaut Olivier,la colère du juste, op, cit, p145
[6]Quelles réponses internationaux? , in revue Sciences Humaines, Mai 2016, N°281, pp28-31
[7] Lordon Frédéric, les puissances de l’indignation, op, cit,p176.
[8] Les types du terrorisme contemporain, in revue Sciences Humaines, Mai 2016, N°281, pp26-27.