عندما نتحدث عن القيم العقلانية یجرّنا الحديث مباشرة الی دور الفلسفة، کرواق فكري يحتضن التنوع والإختلاف والتعدد و يسهر علی العیش المشترك بين الذوات المتجسدة في العالم، في عقلنة العالم وصوغ التجارب بلغة المفاهيم، من شأنها تحقيق التفاهم بين العقول الباحثة وبناء جسور التواصل بين الكائنات البشرية.
صحیح بأن الإنسان حقق تقدماً مذهلاً في مجال العلوم والتقنیات، بواسطته أستطاع أن يحسن مستوی عیشه، لکنه لم يتمكن من تحقيق تقدم موازٍ لذلك في مجال بناء العلاقات السلمية المدنية الهادفة الی تقليل إستخدام العنف والحد من إنتشار الإرهاب علی المستوی المحلي والإقليمي والعالمي.
تقوم فلسفة العنف والتطرف والإرهاب کسلوك ظلامي ببناء مجتمع فقير من الناحیة الفکرية والسلوكية والمعتقداتية، مجتمع یخضع لتصورات ضيقة الأفق سواء الخاصة بالدين أو حتى الحياة.
أما وظيفة القيم العقلانية، کفاعلية نقدية، فهي تكمن في هتك بداهات الفكر الخاوية و تفكيك أبنیته العميقة وكسر قوالبه الجامدة من خلال تجاوز الثنائیات المزيفة وكشف آليات الحجب والتحوير أو الكبت والاستبعاد الممارس من قبل الخطابات والمؤسسات المنتجة للعنف والتطرف والإرهاب.
هناك معادلة ثابتة تقول، كلما كان المجتمع قريباً من القيم العقلانية، كلما كان بعيداً عن العنف ومن قبله التطرف بصوره المختلفة.
إن مشاريع الإرهاب کلها عملت علی إحتكار المصداقية والمشروعية و خرافة التطابق مع الأصل لصنع هويات ناجزة، مكتملة، تسبق أصحابها و تحشرهم تحت أسم واحد أو في خانة وحيدة، لكي تمارس بصورة عدائیة خانقة و عنصرية و تطبق إستراتيجية الرفض والإقصاء والإستئصال لکل مخالف أو معارض، مستخدماً العنف بکافة أنواعه الرمزية والمادية، لتحقيق الدمار و الخراب.
نحن نعتقد بأن القيم العقلانية ساهمت أیضاً في تحرير الإنسان من تهويمات الأحزاب السلفية والمنظمات الجهادية والنماذج الإرهابية، ذات الطابع اللاهوتي أو الماورائي أو المتعالي. فاللامعقول والإنغلاق والعنصرية هي مایکمن أن نصفه بالعوالم السفلية للعقول الفردية والذوات الجمعية.
أما التاريخ، كما یراه الفيلسوف كارل بوبر، صاحب كتاب “المجتمع المفتوح وأعداءه”، فهو مایصنعه الأفراد، لا ما يفرض علیهم من عقائد جامدة أو نظريات حتمية أو مشاريع طوباوية.
ومن أجل أن نقوم بتحرير المجتمع من النموذجيات الأصولية والعقلانيات الشكلية واليقينيات الدغمائية علینا إستخدام القيم العقلانية، كنشاط فكري لا يتوقف عن إثارة الأسئلة وإعادة صوغ المشکلات، لتعرية ما یتواری خلف الصلات المنسوجة مع العقل، من آليات اللامعقولة أو الممارسات المعتمة أو الأبنية المعیقة أو القوالب المتحجرة أو الثنائيات الخادعة.
فبتعزيز القيم العقلانية نستطيع أن نضع حداً لعبثية العنف السياسي ونزيل الآثار النفسيّة للإرهاب من حياة الإنسان، لذا نراه من الضرورة بمكان أن نعمل علی تظافر كافة الجهود للتّخلّص من جرثومة الإرهاب والعنف والتطرف، وذلك بإشاعة الديمقراطية الحقيقية وصيانة الحقوق والحريات العامة واحترام الرأي الآخر والعمل علی محو مفاهيم الاستبداد في المجتمع ، التي أصبحت ثقافة سائدة في السياسة والدين، والبيت ، والشارع، والجامعة، وفي كل نواحي الحياة وكذلك مكافحة المفاهيم السلبية الخاطئة في نفوس البشر، التي تٶدي في النهاية الی قمع الإبداع الفكري والصمت على الظلم والفساد وإكراه الذي يريد العيش بكرامة والحقد علی المثقف والمفكر بتكفیره. نعم القیم العقلانية قادرة علی تعرية خطاب التطرف، وإغلاق المسارب والممرات التي توصل إلى التعصّب ومن ثم إلى الإرهاب، لکنها بحاجة الی تعاون تربقي و إجتماعي و ثقافي.
ختاماً نقول: “المخرج ليس في العودة الى الوراء، كما یریدها أصحاب مشاریع العنف والإرهاب والتطرف، بل مواصلة مسيرة النهوض والإصلاح والتقدم للمشاركة في صناعة الحضارة المبنية علی مفاهيم المواطنة والديمقراطية والدولة المدنية والعالمية والتعایش السلمي، لأن الدعوة الى إقامة حكم ديني تحت مسمى دولة الخلافة أو ولاية الفقيه أو الحاكمية الإلهية، فمآلها إعادة إنتاج الأزمات المستعصية التي نسعى إلى تفكيكها والتصدي لمعالجتها.”