للمرة الثانية يرفع الرئيس المنتخب دونالد ترامب شعار ” جعل أمريكا عظيمة مجددا “ الذي استخدمه في حملته الأولى والمقتبس من حملة الرئيس السابق رونالد ريغان. وحال انتهاء عملية التنصيب، وقع ترامب بطريقة استعراضية مائة من القوانيين التنفيذية المستعجلة. لكن الدهشة والمفاجئة الكبيرة التي اصابت أكثر من رئيس دولة هي تصريحاته برغبته الحاق كندا بأميركا واعتبارها الولاية 51 وغرينلاند الدنماركية أضافة الى قناة بنما وإعادة تسمية خليج بنما بخليج اميركا ورفع مرافقيه قبل أيام وهو في طائرته خارطة امام الكاميرات وقد كتب عليها خليج اميركا بدلا من خليج بنما، وكذلك تهجير المكسيكيين غير النظاميين من الولايات المتحدة وطلبه انشاء جدار عازل على الحدود بين الدولتين. بل انه فاجئ العالم في مؤتمره الصحفي مع مجرم الحرب نتنياهو برغبته في تملك غزة وشرائها، وانشاء ريفيرا فيها وبناء عقارات وتهجير أهلها واسكان اشخاص من حول العالم فيها. تصريحات استعمارية وامبريالية صدمت العالم بأجمعه حيث توالت تصريحات الاستهجان من الصين الى اوربا والاتحاد الأوربي وفرنسا وروسيا. تصريحاتتضرب بالقانون الدولي عرض الحائط، لكنها لا تمنعه من ترديد رغبته الكبيرة بنيل جائزة نوبل بحجة انه سيوقف حرب أوكرانيا والحرب على غزة، ليتراجع كما يفعل عندما يتم الرد عليه كما يجب او ربما لان مقربا منه همس في أذنيه بان من يقول ما قاله لن يحصل على جائزة نوبل مطلقا، ليصرح بعدها “انهم” لن يعطوه نوبل ابدا. ان بريق شعار حملة دونالد ترامب والحماس الشعبي الذي رافقه حول إعادة العصر الذهبي لأمريكا وتوقيعه لمائه قرار تنفيذي منها ألغاء الصندوق الأمريكي للتنمية والانسحاب من منظمة الصحة العالمية بحجة ان الآخرين من دول العالم قد “استغلونا كثيرا” وان اميركا دفعت مليارات الدولارات كمساعدات للدول والمؤسسات الدولية وانه سيوقف كل ذلك، لكن مثل هذه القرارات ومحاولات الإصلاح وإعادة اميركا عظيمة برأي كتاب امريكيون هي إجراءات لن تنقذ الدولة الفدرالية من تدهورها العميق الذي بدأ منذ عقود وهو مستمر بسرعة فائقة.
مما لا شك فيه ان الولايات المتحدة هي اقوى دولة من ناحية القوة العسكرية واقتصادها هو اول اقتصاد في العالم ليومنا هذا ، لكن هذه القوة هي اكثر هشاشة في الداخل، لا يراها الا من يتنقل في جغرافيتها الواسعة من الشرق الى الغرب ومن الشمال الى الجنوب، يقول الكاتب الأمريكي روموالد سيورا ، الذي نشر كتابا بعنوان أمريكا المحطمة، يصف فيه أوضاع الدولة الفدرالية التي يتسلم رئاستها دونالد ترامب للمرة الثانية ، ليقول ان السائر في احياء نيويورك الراقية لا بد ان يقول ان كل شيء على ما يرام في هذا البلد، لكن الحقيقة هو انه يكفي الابتعاد قليلا عن هذه الأماكن الراقية باتجاه الضواحي والمدن والبلدات الصغيرة في نيفادا وغيرها ليكتشف الانسان مدى التردي الذي وصلت له الدولة الفدرالية، وهذا الوضع ليس جديدا بل انه بدأ منذ عقود وهو اليوم في مرحلة متقدمة، يصعب كثيرا معالجتها في اربع سنوات. يعتبر الكاتب ان هذا التردي والإهمال هو الذي زعزع الثقة بين الشعب الأمريكي والدولة الفدرالية وهو السبب الأول في التصويت الكاسح للمرشح الشعبوي دونالد ترامب المتمرس بحكم تقديمه سابقا للبرامج الشعبيه في التلفزيون من مخاطبة القواعد الواسعة في الولايات المتحدة والذي أقنع الناخبين بأنه هو من سيقوم بالإصلاح اللازم وانه سيعيد ترتيب الدولة كما يجب.
يرى صاحب كتاب اميركا المحطمة ان هناك كثير من قطاعات الدولة الفدرالية بحاجة الى إعادة تنظيم وبناءوالى إصلاحات كبيرة وخاصة على مستوى البنى التحتية التي لفتت يوما نظر زبينو بريجنسكي مستشار الامن القومي السابق لكل رؤساء الولايات المتحدة الذي كان مسافرا الى شرق الولايات المتحدة الذي وتحدث بأسهاب عن مشاهداته خلال رحلة القطار الطويلة، حيث قال انه صُدم من دمار البنى التحتية الواسع للدولة. أذ يكفي الابتعاد قليلا عن الاحياء الغنية في نيويورك ليتحقق المرء من حالة البنى التحتية المتردية في الولايات المتحدة. ان أوضاع المدارس هي في حالة سيئة جدا ليس فقط في الاحياء الفقيرة بل حتى في الاحياء المتوسطة. اما التأمين الصحي فهو أيضا في حالة صعبة جدا، كما ان تشريع قانون “أوباما كير“ لم يكن تشريعا ناجعا ابدا بل هو غير كاف ولا فعال للأغلبية وخاصة للعوائل،واستمرت معه حالة عدم المساواة بين الأمريكيين في التأمين الصحي وما تزال قائمة ليومنا هذا، فهناك ما بين 35-37 مليون امريكي يفتقرون للتأمين الصحي وهناك أربعين مليونا لم يراجعوا طبيب اسنان منذ طفولتهم. هناك أيضا النظام التعليمي غير العادل الذي يتوسع، فهناك جامعات مرموقة في بعض المدن وهي بالتأكيد فخر الولايات المتحدة من حيث البحوث والاختراعات وتعّد بين أولى الجامعات في العالم، لكن حالما تترك أسماء هذه الجامعات لتبحث عن أخرى تبرز لك الجامعات الفقيرة والأفقر في العالم الغربي كله.، اما المدارس الابتدائية والثانوية فهي في حالة كارثية.
وعلى عكس الدعاية التي يبثها الاعلام الفرنسي حول فعالية إجراءات ترامب لخلق فرص عمل كبيرة في الولايات المتحدة، فان هذه الدعاية غير صحيحة لان 80% من الاعمال التي توفر في هذه الحالة هي اعمال لا يرغب الاميركيون والكنديون فيها لأنها اعمال ساعات عملهاطويلة، ليس فيها عطلة ولا تأمين صحي ولا تأمين للعمل وليس هناك عطلة مدفوعة. ومن نماذج اصلاحات الرئيسترامب غير المفيدة هو رفع الضريبة عن البخشيش للعاملين في المطاعم، اذ التقى خلال حملته الانتخابية بشابة تعمل نادل في احد المطاعم اشتكت له عن ثقل الضرائب الحكومية التي تفرض على البخشيش الذي يحصلون عليه ) في الولايات المتحدة تدفع رواتب هؤلاء أساسا من البخشيش( ، لكن هناك فرق بين مطاعم الاحياء الراقية وبين مطاعم المدن والقرى النائية الأخرى، وقد وعد ترامب برفع هذه الضريبة لترتفع شعبيته بشكل واضح في الانتخابات. ان المشكلة التي لم يعالجها ترامب لا تكمن في رفع الضريبة فقط بل في اصدار قانون للعمل يحترم حقوق العامل سواء في الراتب والتأمين الصحي وفي العطلة المدفوعة، ما قام به هو علاج للقشور وليس تصدي للمشاكل في عمقها وجذورها والتي يحتاج لها المجتمع في الدولة الفدرالية. هذا المثل هو واحد منالمشاكل الكثيرة وهي من أسباب عدم المساواة المستفحلة في المجتمع الأمريكي وتردي الأوضاع فيه.
كما يفتقد السكن في الولايات المتحدة الى التنظيم القانوني لان كل مالك يتحكم بالإيجار كما يحلو له ويقوم أصحاب المشاريع التحتية الكبرى من أصدقاء ترامب بتشجيعه على الغاء كل قانون في كل مجالات العمل ومنها مجال السكن. اذ ليس هناك تنظيم قانوني لإيجارات السكن في نيويورك مثلا الا قليلا ويقوم أصحاب العقارات باستغلال الازمة والتربح من زيادة الإيجارات بطريقة مبالغ فيها وخاصة مع المهاجرين مما خلق توترا ومشاعر متعصبة وعنصرية في هذه المدينة المتفتحة والمختلفة الاجناس.
مع حالة التردي المستمرة منذ عقود للدولة الفدرالية وفي كل القطاعات، يبدو صعبا التصدي لهذا الحجم الهائلمن المشاكل التي تتطلب ورشة عمل هائلة من اليد العاملة الكفؤة والأموال لإنجاز كل ذلك، ربما سيتمكن ترامب من القيام بجزء من الإصلاحات والعمليات التجميلية التي لا تتصدى لعمق المشاكل المتراكمة هنا وهناك، لكنه لن يعيد أمريكا الى “عصرها الذهبي“ الذي يعد به، بل سيجد امامه الصين التي تبني منذ عقود بناها التحتية في كل المدن التي تزدهر وتنمو بفضل طبقة سكانية متوسطة وغنية وعاملة يزيد تعدادها على أكثر من 400مليون نسمة ، تتطور بسرعة قطاراتها التي لا مثيل لها في الولايات المتحدة وفق احدث المعايير الغربية. في كل ميدان تنجز الصين ما لم تصلحه وتتداركه الولايات المتحدة في العقود الأخيرة، وتتفوق حتى في قطاع التكنولوجيا المتقدم اميركيا اذ تهزم ابداعات المخترعين الصينيين تطبيقات أمريكية صُرفت عليها مليارات وتكبدها خسائر بالمليارات في البورصة كما حدث قبل ايام مع تطبيق ديب سبيك، بينما تنجزها مختبرات الصين ببضعة ملايين من الدولارات، لترعب البورصة وكبار مدراء شركات التكنولوجيا الأميركية الذين يفتخر بهم ترامب اليوم، ليكون العصر الذهبي القادم صينيا وليس أمريكيا.