في خبر نشرته صحيفة ” وورلد تريبيون” في الثلاثاء 29 تموز، 2014 عن مسؤولين اميركيين قولهم، إن “حكومة رئيس الوزراء العراقي نورى المالكي وافقت على تشكيل وحدات يبلغ قوامها أكثر من 10 آلاف جندي لاستعادة الموصل”.
مثلما هو معلوم للجميع، فأن مثل هذه المهام القتالية هي في الأساس من صميم واجبات الجيش العراقي والقوى الأمنية الأخرى، وحتى مع تعرّض الفرق العسكرية الى ما تعرّضت اليه، فلا يمنع ذلك من إستقاء العبر من النتائج القاسية التي أسفرت عنها المواجهة والشروع في إعادة الهيكلة والتنظيم وفق مناهج تدريب وقيادات ميدانية وأساليب عمل جديدة .. مع ذلك ولكبح جماح مروجي الطائفية والعرقية، والذين لا يريدون أن يقتنعوا بأن الجيش العراقي ليس طائفيا رغم انهم كانوا يمجدّون به في صولة الفرسان، فمن الحكمة في هذه المرحلة انشاء هكذا تشكيل قتالي يقطع الطريق على أصحاب الأجندات الخارجية من خلال اداء دور مساند للجيش العراقي في المهام الوطنية أينما إستدعت الضرورة في حدود دولة العراق.
وقد أشرت في مقالي السابق “العراق: صراع بين دولتين في عصر الانهيارات المفاجئة”، الى ضرورة احتضان وإستثمار الأصوات الوطنية والأطراف المعتدلة داخل المكونات العراقية ، وقد كان يدور في ذهني هذا النوع من التوظيف البنّاء للإنتماءات الذي تناوله القرار، بالإضافة الى أنواع أخرى تحقق للدولة العراقية سلطتها الدستورية والقانونية على المناطق التابعة لها، وتسهم في ترسيخ وصيانة وحدة المجتمع العراقي.. لكن عند قراءة ما جاء في سياق الخبر الذي ابتدأنا به المقال ، ظهر الفرق شاسعاً بين ما كنّا نعني وبين ما يطمح اليه النجيفي والدافعين به في هذا الإتجاه.
أننا نعتقد بوجود ضرورة قصوى لتشكيل ورعاية هذه القوة القتالية المزمع تشكيلها من المكون العربي السني والمكون الكردي في العراق ليأخذ تيار الإعتدال والوسطية فرصته في ترميم وصيانة وحدة المجتمع العراقي من خلال اسناد الجيش العراقي في أداء المهام الوطنية الملقاة على عاتقه، حيث أضحت مهمة الجيش العراقي عسيرة عند ممارسة دوره لإسناد وتثبيت وجود الدولة أو الحفاظ على استمرارية هذا الوجود، خاصة مع التشكيك الذي أثير، ومازالت تثيره الأطراف السياسية المختلفة حول عقيدة وولاء هذا الجيش عند ايكال أية مهمة به أو من الممكن أن تسند اليه، والى الدرجة التي جعلوا من أية محاولة لتثبيت سلطة الدولة والقانون بواسطة المؤسسة الرئيسية في البلاد (الجيش)، هي مناسبة لإثارة الطائفية والطعن في وحدة المجتمع للإساءة الى مفهوم الدولة كـ وعاء مشترك وبالتالي خلخلة ولاء المكونات الذي ينبغي أن يكون لدولة العراق والسير بهذا الولاء نحو اتجاهات أخرى تسئ في كثير من الأحيان الى إمكانية التعايش المشترك داخل جغرافية البلد الواحد.
تلك هي الحقيقة التي نسعى للتأكيد عليها من وراء تأييدنا الكامل لهذه الخطوة، بل ومن هذا المنطلق أيضاً نرى بأن خطوات التشكيل يجب أن تكون مدروسة لكي لا تنحرف الأمور عن مسارها الطبيعي فيما بعد، والخطوة الأهم في هذا الشأن أن لا تأخذ الأمور طابعا مناطقيا بإقتصار فرص الالتحاق بهذا التشكيل على محافظة دون أخرى، خاصة وأن التواجد والإنتشار السُكاني لمعظم مكونات العراق بما فيهم (السنة العرب – الأكراد) يكاد يشمل جميع مُدن العراق (الوسط- الشمال- الجنوب) مع فارق التفاوت في نسبة الكثافة السكانية للمكونات من مدينة الى أخرى. كما أن من الضروري أن يؤخذ بنظر الاعتبار أمكنة التدريب والمناهج المستخدمة ومستوى التسليح وطبيعة الواجبات فضلا عن ضرورة اعتماد معايير معينة في القبول تحول دون اغراق التشكيل بالكم على حساب النوع أو تعريضه مقدّما الى الاختراق، وبالموازاة مع ذلك، يجب الاقرار وبشكل واضح الحقوق والاستحقاقات، وتحدد مدة المهمة بـ (فترة زمنية) على سبيل المثال (سنتين قابلة للتجديد).. بمعنى آخر، أن تكون أكثر تميزا من تجربة الصحوات، متلافية لأخطائها، بل تجربة وطنية حرة تؤرخ لأصحابها بما تجسّد من موقف وحدوي في وجه الفتن الهادفة للنيل من هيكلية الدولة ووحدة المجتمع العراقي والتي ستجعل من دورها الأساسي في عملية تحرير الموصل (إن تم لها ذلك) باكورة انجازها الوطني والرسالة الأولى الممهورة بالولاء للعراق الى جميع من تحدثه نفسه بالخروج عن السرب الوطني أو الانخراط في حضيض الأجندات الخارجية وزمر الإرهاب بما هو على الضد من أمن الدولة وبما يمس حياة الفرد والمجتمع في العراق.
دون أدنى شك، وإنطلاقا من الخبرة الأمنية التي اكتسبتها من تجارب ميدانية ومواقع مسؤولية سابقة في هذا المجال.. فإن الشروع بتنفيذ هذا القرار سوف يدفع بالأطراف التي تتعارض توجهاتها مع هذه الخطوة، ومثلما سعت الى تبديد مفهوم الدولة من أذهان العراقيين والإمعان في الحرب على دولة العراق والتفريط في أمنه وثرواته ، ستسعى هذه الأطراف مجتمعة، جاهدة، لتخريب هذا الجُهد عبر عدة محاور، المحور الاعلامي، وبالدرجة الأساس تقزيم شأن التجربة والتشكيك بالنوايا لتقليل حجم الاندفاع، وفي ذات الوقت السعي لإختراق المواقع القيادية في هذا التشكيل الخاص لإرباك الأداء في ساعات الحسم والمواجهة. تلك الأمور وغيرها تتطلب لجان استشارية ورقابية متخصصة لمتابعة خطوات التشكيل والإسهام في رفد التجربة بالمعالجات السريعة للمشاكل التي تعترض سبيل التجربة.
هذا فيما يخص وجهة نظرنا حول الموضوع، ألا أن الخبر أشار أيضا الى نقطة مغايرة تماماً عندما تطرّق أيضا، الى ما نقلت الصحيفة ” وورلد تريبيون” عن محافظ نينوى اثيل النجيفي قوله،”لقد شكلنا العديد من الوحدات المقاتلة من السكان المحليين لمحاربة داعش والناس هنا عازمون على طرد داعش”، مشيراً إلى أن “الوحدات القتالية تتألف من قبائل في الموصل وما حولها، وتسعى السلطات لكسب التأييد الشعبي لاستمرار عملية التجنيد”.. !!!.
وهنا يأخذ الحدث والحديث منحىً آخر، فالنجيفي أصلا لا يعترف بوجود دولة عراقية ولا يرى في الجيش العراقي سوى “ميليشيات صفوية”.. كما أن وحدة المجتمع العراقي لا تعني له شيئا ، ومن وجهة نظر النجيفي أيضا فإن كل جندي عراقي هو (حرس ثوري ايراني) حتى يثبت العكس.. وما زال النجيفي لا يميز بين حقيقة دخول (الحرس الوطني السعودي) الى المنامة للفتك والتنكيل بالمتظاهرين السلميين أمام مرأى العالم وعدسات التصوير، وبين الوهم المتعلق بـ “الإحتلال الايراني” للعراق بما يستبطن هذا القول من صور يحاولون تكريسها وتسويقها في كافة الاتجاهات، طعنا منهم في وطنية شيعة العراق وتبريرا لمن يكون حاضنة للدواعش في المناطق الساخنة.. وفوق هذا وذاك، فإن كانت موافقة الحكومة العراقية تعني الإقرار بـ( مشروع النجيفي المناطقي) فيكون النجيفي قد عبر على أظهر العراقيين من الشيعة والسُنة لوضع حجر الأساس لبناء مجد خاص بالعائلة في إقليم الموصل بعد أن يكون قد نجح في الالتفاف على الحكومة العراقية من خلال انشاء (حرس الإقليم) بشكل قانوني، وبتسليح رسمي للدواعش الذين لن يستغرق الوقت منهم لتغيير جلودهم سوى ما يتطلّبه ازالة اللثام واستبدال الملابس السوداء بأزياء (الجندرمة).. عندئذ يحين وقت الاعلان عن تجميد عمل المحافظة مع المركز، الإنخراط في مساومات الانفصال والإلتحاق بتركيا في حال عدم قبول فكرة “إقليم الموصل”.. الإقليم الذي كان ومازال يشكل أمل العائلة المنشود والحُلم التركي المرتجى!.
النجيفي ورغم ركوبه الموجة الطائفية ألا أن مطالباته مناطقية بحتة لا تتعدى حدود “إقليم الموصل”، لذلك قامت قيامته وقيامة أسياده حين برز الحديث عن تحويل قضاء تلعفر (ذو الموقع الاستراتيجي) الى محافظة قائمة بذاتها، أما حديثه عن اخراج الجيش العراقي وإيكال المهام الأمنية الى أهل المحافظة حصريا فهو جزء من نصيحة سياسية لطرف ذو خبرة في المكر والإحتيال والتلون واللعب على الحبال تتلخص في أن حجر الأساس للإقليم هو (حرس الإقليم) فمن ينجح في اقامة ذلك فقد قطع نصف المسافة نحو موقع له للتسول على أعتاب الباب العالي.
أن ظفر النجيفي بالموافقة على انشاء “حرس الاقليم” هي الصفحة الداعشية الثانية أو الفقرة باء من المخطط الداعشي الذي يحاولون تمريره، طالما أن الصفحة الأولى أو الفقرة (ألف) من المخطط لم تأت أكلها كما أريد لها ومنها أن تكون المسمار الأخير في نعش النظام السياسي في العراق.