ان الهدف من وجود الاحزاب السياسية في اي بلد، هو التنمية الشاملة للبلاد والمساهمة في قيام النهضة العامة ودفعها نحو مزيد من الحرية والاستقلال ونقلهما من مرحلة تأريخية الى مرحلة تأريخية اخرى اكثر عمقا واوسع شمولية بما يخدم المجتمع والدولة ، فالحزب اي حزب كان وحسب المفاهيم الوطنية المشاعة ، هو ابن الوطن ، ولايهدف بادئ ذي بدء للوصول الى السلطة ، وانما تقوده حتمية النضال الى الوصول الى قاعدة الجماهير العريضة والانتقال بها من حالات الركود والتخلف والكسل الى حالات النهضة والحركة والشمولية، ليكون لها فيما بعد الدور الفاعل والمؤثر في تطويروانماء هيكلية الدولة والمجتمع وفقا لاسس ومفاهيم الديمقراطية والحرية والتعبير عن الرأي والرأي الاخر، وصولا الى تأسيس مجتمعات متحضرة وفاعلة تحترم القوانين والانظمة وتمارس مسؤولياتها بموجب الدستور وتتمتع بحقوقها وفق الاستحقاقات المشروعة ،تدافع عن سيادة وكرامة البلاد وتؤسس لصيغة ميثاق من اجل السلم والتضامن والتفاعل الجماهيري والاخاء الوطني لدحر كل المخططات العدوانية والارهابية التي تحيكها قوى الظلام التي لاتريد للعرلق خيرا .
هنا تأتي موضوعة المصالحة الوطنية كأحد اهم مرتكزات الاصلاح والاستقرار في العراق ، بعد ان يجري عزل هذا المفهوم عن كل التحكمات الحزبية والغايات الذاتية والنوايا السياسية المبيتة، اذ ان المصالحة الوطنية هي غاية ينشدها الشعب العراقي حقا وصدقا ، فهي مطلب غير قابل للتأجيل نظرا لما يواجهه العراق وشعبه من تحديات عديدة اختلفت منابعها واتجاهاتها ،وتعددت اشكالها ووسائلها، ذلك ان بقاء العراق والعراقيين بهذا التشتت وذلك التشرذم وبدون عودة السلم والامن ، سوف لن يثمر اي مسعى من مساعي التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالثمار المرجوة ، ولاجل الخروج من هذا المازق المظلم لامناص من ان نخوض مسعا جديدا من اجل قصد المصالحة التي لابديل عنها في سلم اولويات المعالجة التي تؤدي الى اندمال الجروح التي خلفتها المأساة الوطنية طيلة الست سنوات الماضية ، والذي كان الشعب خلالها هو المحرقة التي اشتعلت فيها النيران لتلتهم الجميع ، الامر الذي ادى الى ابقاء البلد في حالة من الارباك والفوضى التي لاطائل من ورائها.
في هذا الصدد لانريد ان تتحول دعوات المصالحة الوطنية الى ذريعة لقلب الاوضاع وضرب الاستقرار وتصعيد العنف كما دأبت على ذلك بعض الاطراف السياسية المتصارعة والمختلفة في فهم المعنى الحقيقي للمصالحة والهدف من تحقيقها ، فليس هناك اصلاح او تطوير او تحديث من كل الاتجاهات التي تحيط بالعراق واهل العراق من دون الاعتراف بتعدد المصالح المجتمعية وتعددية ممثليها من قبل كل القوى السياسية ، وان لاتنفرد سلطة الحكم بالمنهج الاحادي والحزب الواحد في اتخاذ القرار، لان من بين اهم اركان المصالحة هو الشراكة الفعلية والعملية في الحكم وفي تقرير مصير البلد والمجتمع ، هذا بالاضافة الى ان لغة المصالحة يجب ان تعني خطابا تصالحيا جديدا يطوي صفحة الماضي ويتضمن الاجابة على الكثير من الاسئلة بدون ايهام ويقود الى التعرف على مفردات الحقيقة ،مفردات المكاشفة ، مفرادات الثقة المتبادلة ، وان تجري مخاطبة الجماهير بلغة مباشرة وصريحة ومفهومة لايشوبها اي شك ،كما ينبغي عدم العودة الى مربع الحجج والتبريرات والتسويفات التي حاولت معظم الاطراف المشاركة في الحكم وخارجه سرقة الارادة الشعبية ومصادرة حقها في الاختيار والتعبير الحر ،او استغلال النوايا الطيبة لقطاعات من الشعب العراقي التي افترضت بادئ ذي بدء حسن النية في بعض رجالات السياسة الذين تربعوا على العرش.
ان المصالحة الوطنية اذا ماقدر لها النجاح والذي يعتمد بالدرجة الاساس على الروح الوطنية والانتماء الصميمي للعراق فأنها بحاجة ايضا الى عاملين اخرين هما الارادة والقدرة ، فمن خلال الارادة تتوضح النوايا والاحاسيس الداخلية لصناع المصالحة ،فأذا كانت النوايا والاحاسيس ليست متداخلة في حيز الصدق والطيبة والوطنية المطلقة ،فلا يمكن لالاف البيانات والتصريحات ان تؤدي فعلها ويبقى موضوع المصالحة كالسراب . اما القدرة فهي تعني تحديد الكيفية التى بواسطتها يتم التعرف على الخصوم والاطراف المتصارعة ومع من يجري التصالح ووفق اية شروط.. وهنا اذا لم يحسن استخدام الكيفية وجعلها متوازنة غير خاضعة لاعتبارات ذاتية وفئوية واذا لم تعطى لها مديات واسعة لكي تضم كل اطراف الصراع بدون استثناء (طبعا عدا ممن اتهموا بجرائم العمد) وبعد ان تحدد بدقة متناهية كل ماتتضمنه المصالحة من مفردات توضح كل جزئيات العملية السياسية والاجتماعية وتحديد الادوار والواجبات كلا من موقعه وانتمائه . فبدون ارادة صلبة ذات عزيمة وطنية فاعلة ومؤثرة ،وبدون قدرة حكيمة شريفة عراقية لايمكن لاية مصالحة ان تبصر طريق النجاح .وعلى اساس ذلك يجب ان نفهم ان المصالحة الوطنية هي ارقى مظاهر التحضر والعقلانية الحكيمة وفيها ومن خلالها تستطيع الشعوب ان تتباهى بأنتماءاتها وبوطنيتها ،لان ذلك سيؤدي حتما الى الاستقرار والطمأنينة والعيش في ظل ظروف امنة ومريحة.
يبقى بعد ذلك كله ، السؤال المهم والذي كان يشكل دائما احدى اهم العقبات التي تقف بالضد من تحقيق واتمام المصالحة الا وهو: بالرغم من التطور الذي طرأ على خطاب المصالحة وعلى لسان رئيس الوزراء هل يمكن ان تنجح المصالحة الوطنية في ظل ظروف مازالت هناك تدخلات اقليمية تلعب بالورقة العراقية بما يخدم مصالحها وتشتت الجهود الوطنية او ربما تريد ان تصنع ظروفا معقدة تحول دون اتمام منهجية المصالحة ، هذا من جانب ومن جانب اخر ماهي ذرائع المجموعات المسلحة التي كما تدعي من انها تقاوم الاحتلال في الوقت الذي بدأ هذا الاحتلال يسحب قواته من العراق لينتهي من عملية الانسحاب الكلية مع نهاية هذا العام ، فماذا تبقى لكلا الطرفين؟ الحكومة والمقاومة .. فهل تستطيع الحكومة بقدرتها وارادتها ان تستوعب كل هذه الفصائل ضمن العملية السياسية؟ وهل تستطيع اطراف المقاومة ان تتالف مع الحكومة وتنسجم مع مقرراتها وبرامجها فيما اذا شاركت بدفة الحكم او بالعملية السياسية؟ ويتحول عند ذاك السلاح الى معاول للبناء والاعمار بعد ان تنهج المليشيات التابعة للاحزاب نفس النهج .
اننا امام مفترق طريق ..اما مصالحة حقيقية طويلة رصينة ومحكمة غايتها ووسيلتها الحفاظ على عراق موحد وشعب متماسك قوي ومتأخي .. او … لااريد ذكر ما لايحمد عقباه !!
كاتب ومحلل سياسي -عمان