8 أبريل، 2024 10:13 ص
Search
Close this search box.

هل يمكن توقع اصلاح سياسي بدون اصلاح فكري؟

Facebook
Twitter
LinkedIn

جربنا في العراق وخلال 100 عام فقط كل الانظمة السياسية للحكم التي يمكن تخيلها ولم ينجح واحدا منها ابدا حتى الان. تم استعمارنا مرتين من ارقى دولتين بالعالم بريطانيا وامريكا وقبلها كنا جزءا من الخلافة الاسلامية العثمانية فجاء نظام الانتداب الاممي فالنظام الملكي ثم الجمهوري بانواعه الفاشي والشيوعي والقومي ثم تلاه النظام الفردي الدكتاتوري ثم الحكم الديمقراطي الحقيقي المنتخب من خلال صناديق الاقتراع واخيرا الحكم الثيوقراطي الديني المتلبس بالمدنية في بغداد او السافر عن انيابه الشريرة في الموصل والانبار واجزاء اخرى من العراق حتى يومنا هذا. وكذلك لاننسى الحكم العائلي الدكتاتوري المستنير في اقليم كردستان اللامركزي وشبه المستقل منذ 12 عاما والذي لم ولن يكون افضل من غيره.

ولو سالت العراقيين خلال كل فترة منها وفي كل مرحلة عن رضاهم عن الحكم وهل انه يمثل طموحاتهم واحلامهم وهل يوفر لهم مايستحقوه من خدمات وحريات ومعيشة لائقة وهل انهم يشعرون بانهم صاروا مثل باقي شعوب العالم المتطورة او على الطريق للالتحاق بالركب العالمي؟ لاجاب اغلبيتهم بلا كبيرة مع عشر علامات تعجب واستغراب على وجوههم. فاين المشكلة اذن؟

لاننكر ان بعض الفترات كانت افضل نسبيا من بعضها ولكن لكل منها عيوبا واخطاء ولم تحقق للناس ما يطمحون اليه ويكفي انها لم تستطع المواصلة والاستمرار, غالبا لاخطائها او لمعارضة بعض القوى الداخلية لها تامريا او اجراميا او عسكريا او مدنيا. والاغرب من كل ذلك ان جميع العراقيين منقسمون اليوم حول افضل انظمة الحكم التي مرت ولازالت علينا. وكل داعية للاصلاح يخرج علينا يقترح بأدلته التي لاتقبل الشك عنده بان تلك الفترة ونظامها او هذه هي الامثل والاصلح لنا وتحل جميع مشاكلنا, مع انها فشلت بحينها.

وبينما نحن في العراق نجرب كل هذه الانظمة املا باصلاح سياسي حقيقي منقذ فان الشعوب المجاورة لنا كانت اقل او اكثر حظا منا فلم تمر بما مررنا به من تجارب سياسية كان بعضها قاسيا جدا علينا وعلى المنطقة. ومع قلة تجاربهم لكن كل واحدة من دول المنطقة انتهى مصيرها باحد انظمة الحكم التي مرت علينا وفشلت عندنا. فلو نظرت لكل الدول العربية والاسلامية حولنا لن تجد الا شيئا جربناه نحن كعراقيين في الماضي او الحاضر ولم نقبل به. وستجدهم يعيشون بواحدة من انظمة حكمنا البائدة التي ان نسيت احداها فيمكن تذكيرك بها من خارطة الجوار الممتد من باكستان حتى المغرب العربي.

باستثناء اسرائيل وربما تركيا, العلمانيتان الديمقراطيتان الليبراليتان الحقيقيتان في المنطقة, لن تجد شعبا من شعوب هذه المنطقة راضيا تماما باغلبيته عن نظام حكمه مثله مثل العراقيين, مع احتمال تبجح البعض بعكس ذلك والأدعاء كذبا بانهم وصلوا الى غايتهم من الحكم الرشيد العادل المتحضر المناسب للعصر. فشعوب المنطقة جميعها مضطهدة علنيا او بالخفاء, لاحرية حقيقية لها ولا امان تام ولاتقدم جذري ولا يمكن مقارنتها بالدول المتطورة. الاغنياء منهم كالقطريين والاماراتيين والكويتيين, والفقراء منهم كالسوريين والسودانيين والمغاربة والتونسيين, مرورا بالسعودية ومصر ولبنان وليبيا وكل الاخرين مع اختلاف وتنوع انظمة الحكم. فكلها تطالب بالاصلاح الذي تفتقده. وقد يكون فشل التجارب العراقية سببا لسكوتها عنه ولكن بالتاكيد سيكون اي نجاح عراقي دافعا لها للتغيير. مصر, وقبلها الجزائر, ثارت على دكتاتور عسكري فانتخبت ديمقراطية اسلامية اكثر اجراما لتعود لتستكن الى دكتاتور عسكري اخر. فاين المشكلة اذن؟

هناك فساد تركيبي مرضي يعشعش بكل العقول, الحاكمة منها والمحكومة, في العراق وفي دول المنطقة اساسه الانجماد الفكري والتقوقع الماضوي على الخرافة والمقدسات والنصوص الجامدة والقيم البالية ونكران الواقع والغيرة من الاخر والخوف من الانفتاح والتجديد. اي بوضوح اكثر ان سبب فسادنا هو ديننا الاسلامي ومنظومته الفكرية القديمة التي تستند على قاعدة تحريم التفكير ومحاربة العقل والانسان. انه سجن للحرية ولكرامة الانسان ومساواته واولويته, ولانتوقع من سجين الرضى عن واقعه يوما, وبالتالي لن ينجح اي نظام حكم عندنا مهما كان مادمنا لانفكر ولسنا احرارا. اذا اصلحنا تفكيرنا ورفعنا هالة القدسية والتحريم والتابو سنضع ارجلنا على بدايات الطريق المطلوب للاصلاح في الحكم والحياة والعائلة والوظيفة والعلم والتفوق والسعادة مهما كان نظام الحكم, على ان لايخل بمبادئ الديمقراطية والليبرالية المعروفة عالميا وانسانيا.

وقد كان المعول عليه سابقا ان يقوم مثقفونا ومتعلمونا او قادتنا المتنورون في السلطة مهما كان نوعها او حتى القوى الخارجية بريادة هذا الاصلاح الفكري ودعمه, وبالفعل كانت هناك محاولات مشكورة من الكثيرين ولكنها لم تصل الى الزخم المطلوب لقيادة ثورة فكرية كاسحة مشابهة لما حصل في اوروبا والغرب والشرق وبكل العالم المتحضر المدني الانساني المتسامح الذي نحلم بوصوله. ولكن بتصوري ان الاصلاح الفكري قادم لامحالة وقريبا بفعل عاملين داخليين لم نتوقعهما يوما ولا علاقة لهما بالمصلحين: رد الفعل على داعش والفكر السلفي المتخلف سنيا وشيعيا القادم من عمق نصوصنا وصحابتنا ومقدساتنا التي لم نتوقع منها هذا التردي الاخلاقي الصادم لكل بقايا الخير في انفسنا وما ارتكبته من جرائم يقشعر لها البدن والعقل والدين وكل حواس الانسان وتفكيره حتى صارت ظاهرة الالحاد الديني اكثر من واضحة بمجتمعاتنا التي لم نتوقع من بعضها هذا التطرف المفاجئ باعتبارها محافظة وتقليدية حتى وقت قريب.

اما العامل الثاني الذي سيقود الانقلاب الفكري القادم بكل منطقتنا فهو الثورة الجنسية العارمة والشاملة التي تصطلي اوارها الان تحت موقد الحراك الاجتماعي لجميع سكان المنطقة ولم ينتبه لها احد حتى الان او سينكرها حتى لو علم بها. فهناك الان بفضل اجهزة الاتصال الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي اختلاطا وتلاقحا غير مسبوق بتاريخنا بين شباب وشابات محرومين بشكل مزمن وظالم وغير عقلاني من الجنس والعلاقات الانسانية الطبيعية ويجدون لاول مرة متنفسا لهم يكسر كل الاعراف والتقاليد والموروثات القديمة سواء رضينا ام ابينا. ومع كسر التابو الجنسي الذي بدات بوادره منذ فترة قليلة ماضية سيكون كسر التابو الفكري الجامد لكل مجتمعاتنا اكثر سهولة.

الازمة اذن هي ازمة فكر عقيم لايتقبل الحداثة مع انه يعرفها ويميزها ويستحي منها وليست ازمة نظام حكم ولا محاصصة ولا رشوة ولا محسوبية ولا كل هذه الاغلفة والشماعات الزائفة والعوارض التي نعلق عليها زورا كل اخطائنا وتقصيرنا وعجزنا.. وقد احسن المتظاهرون المدنيون في العراق توصيف وتحديد الخلل من خلال الشعار الاصدق الذي رفعوه وهو: باسم الدين باكونة الحرامية. فهو تشخيص لاصل العلة ودعوة لعلاجها.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب