يقوم العلم التجريبي على رفض القبول بالافكار المسبقة والاعتماد على الواقع المحسوس في اكتشاف الحقائق والحصول على المعلومات.
ولأجل ذلك وضع العلماء قواعد العمل في العلم التجريبي ليكون منهجاً في البحث العلمي، وصار هذا المنهج أساساً لا للقيام بالبحوث العلمية فقط بل للتحقق من المعلومات المتوفرة واختبار صحتها ايضاً.
يُستخدم المنهج التجريبي في العلوم المادية كالفيزياء والكيمياء والاحياء، كما يستخدم ايضا في العلوم الانسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم التاريخ.
يقوم المنهج التجريبي على الانطلاق من الواقع للوصول الى النتائج وذلك بالعمل على مراحل متتالية يجب طيّها جميعاً للوصول الى الحقائق التي تصبح في النهاية نظريات أو قوانين صالحة للتطبيق على الحالات المماثلة.
يمر البحث العلمي بالمراحل التالية:
الملاحظة: وهي مشاهدة الواقع الملموس باستخدام الحواس الخمسة (السمع والبصر واللمس والشم والذوق). وغالباً ما تستخدم التقنية لتقوية الملاحظة فيستخدم التسلكوب لتقوية البصر، والمكرفون لتقوية السمع….الخ. ويبغي ان تكون الملاحظةُ فاحصةً ودقيقةً وذكية لكي توصِلَ الى العقل ما يستحق الدراسة.
الفرضية: بعد ان تصل الى العقل ملاحظة أو مجموعة ملاحظات مصدرها الواقع يبدأ العقل في وضع فرضية لتفسير هذه الملاحظات. أي يضع العقل تفسيراً أولياً مشتركاً يكشف عن سبب هذه الظواهر.
التجربة (اختبار صحة الفرضية): في هذه المرحلة تصمم تجربة (أو تجارب) قائمة على الفرضية، لاختبار صحتها أي قدرتها على تفسير الظاهرة موضع الدراسة.
النظرية: اذا استطاعت الفرضية تفسير عدد كبير من الظواهر تصبح نظرية.
القانون : أما اذا استطاعت الفرضية تفسير جميع الظواهر فان الفرضية تصبح قانونا.
تلك هي باختصار مراحل البحث العلمي التجريبي.
***
فيما يلي سوف نقوم بتطبيق المنهج التجريبي على قضيتين يتعلقان بشجرة تفاح:
في التطبيق الاول يحاول المنهج التجريبي ان يكتشف سبب سقوط تفاحة على الارض،
وفي التطبيق الثاني سوف يحاول المنهج ذاته الكشف عن سبب وجود الشجرة على الارض.
في التطبيق الاول سنرى كيف يؤدي المنهج التجريبي الى اكتشاف الجاذبية.
وفي التطبيق الثاني سوف نرى كيف يقودنا المنهج التجريبي الى اكتشاف وجود الله.
التطبيق الاول للمنهج التجريبي: اكتشاف الجاذبية
كيف توصل العالم الفيزيائي الشهير اسحاق نيوتن الى قانون الجاذبية؟
لقد كان نيوتن جالساً تحت شجرة تفاح يتأمّل العالَم تأمُّلً العالِم. فجأةً سقطت من الشجرة تفاحة فوقعت على الأرض.
درس نيوتن سقوط التفاحة مروراً بالمراحل التالية:
المرحلة الاولى: الملاحظة
كان سقوط التفاحة على الارض هي الملاحظة التي اثارت انتباه نيوتن.
سأل نيوتن نفسه السؤال التالي:
لماذا وقعت التفاحة على الارض؟ لماذا لم ترتفع الى الأعلى نحو السماء؟ او – على الاقل – لماذا لم تبقَ التفاحة معلّقةً في الهواء؟
في مرحلة الملاحظة كان دور الحواس هو الأول.
الحواس هي الوسيط بين الواقع والعقل.
الحواس تمثل دور القناة التي نقلت الملاحظة من الواقع الى العقل… العين رأت التفاحة، الأذن سمعت صوت سقوطها.
الحواس نقلت الى العقل ما احسته في الواقع.
المرحلة الثانية : الفرضية
الحواس الخمس هنا لا دور لها. لقد انتهى دور الحواس بنقل ما حصل في الواقع الى العقل؛ والباقي على العقل.
هنا بدا العقل يعمل. على العقل ان يفسر ظاهرة سقوط التفاحة على الارض (وعدم ارتفاعها الى الاعلى أوعدم بقائها معلّقة في الهواء).
عقل نيوتن قاده الى فرضية مفادها: ان قوةً ما هي التي جذبتها الى الاسفل لذلك اتجهت التفاحة باتجاه القوة ولم تصعد الى الاعلى، ولم تقف في مكانها. لقد ادرك وجود هذه القوة من خلال آثارها.
العلماء يدركون الاشياء من خلال اثارها، ولو اعرضوا عن الآثار وتمسكوا بالمشاهدة العينية لاصطدم العلم بصخرة تحطّمُ رأسه وتوقف مسيرته.
لم يقل نيوتن – كما يقول الجاهلون بالمنهج العلمي- : ” انني لا ارى هذه القوة، ولا اسمع صوتها، ولا المسها بيدي، ولا اشمها بأنفي، ولا اذوقها بلساني؛ فهي اذاً غير موجودة ” بل قال: ” ان سقوط التفاحة يدل على وجود هذه القوة وإن لم أرها “.
ثم فكّر اكثر لمعرفة مصدر القوة فقال له عقله: لابد ان تكون هذه القوة موجودة في الارض، لأنها تسحب الاشياء نحو الارض.
وفكّر نيوتن أكثر فاسعفته ذاكرته (وليست حواسه) بأن كل شيء سبق ان لاحظه يسقط انما كان يتجه في حركته الى الارض.
بتجميع الملاحظات التي وصلته من الحواس حول الاجسام الساقطة قاده العقل الى صناعة الفرضية التي تقول:
[لابد ان تكون في الارض قوة تجذب الاجسام اليها].
ثم انتقل الى المرحلة التالية
المرحلة الثالثة: اختبار الفرضية
بقي نيوتن عدة سنوات يوسّع ملاحظاته ويصمم تجارب للتثبت من صحة فرضية الجاذبية التي وجد انها لا تختص بالارض فقط بل تشمل كل الاجرام السماوية.
بعد إجراء التجارب وجد ان الفرضية صالحة لتفسير ظاهرة سقوط الاجسام نحو الارض.
ثم انتقل الى المرحلة التالية:
المرحلة الرابعة: وضع النظرية
بعد ان وجد ان الفرضية نجحت في تفسير عدد كبير من الظواهر في الواقع وفي التجارب التي اجراها ادرك عقله (وليست حواسّه) ان فرضية الجاذبية تصلح ان تكون نظرية.
تحولت الفرضية الى نظرية
المرحلة الخامسة: القانون
ولما وجد نيوتن – وبعد بمزيد من التجارب وتحليل الآثار- ان هذه النظرية تنطبق على كل الحالات تحولت النظرية الى قانون، وهكذا اصبح لدينا قانون الجاذبية.
***
مما تقدم نستنتج نقطتين في غاية الاهمية:
النقطة الاولى: ان الحواس تنقل الى العقل ظواهر، وأن العقل هو الذي يقوم بتحليلها والتوصل الى الحقائق. اي ان العقل صاحب الدور الحقيقي وليست الحواس الا قنواتٍ تنقل الواقع وظواهره الى العقل.
والدليل على محورية العقل وعدم محورية الحواس هو : ان الظاهرة الواحدة تجد تفسيرات مختلفة عند الناس مع انها في مرحلة الحواس واحدة، اي ان الجميع شاهد سقوط التفاح على الارض لكن عقل نيوتن – لاعقلَ باقي الناس – هو الذي توصل من هذه المشاهدة الى قانون الجاذبية.
كما ان الحواس قد تخطئ ويتدخل العقل لاصلاح الخطأ ومعرفة الحقيقة التي فشلت الحواس في نقلها بأمانة (كما في ظاهرة السراب التي تنقلها العين على انها ماء لكن العقل لا يصدق العين، وكما في رؤية الشمس تتحرك من المشرق الى المغرب لكن العقل يقول ان الارض هي التي تدور حول نفسها فيتراءى للحواس ان الشمس هي التي تتحرك).
النقطة الثانية: ان بعض التفسيرات العلمية لا تصل الى درجة اليقين بل تبقى في اطار النظرية التي تنتظر اكتمال العمل عليها حتى تصبح قانونا. وهذا امر طبيعي في مسيرة العلم التي لا تتوقف.
هذا يعني انه ليست كل نظرية علمية صالحةً لبناء أحكامٍ قطعيةٍ عليها، بل علينا ان نفرق بين النظرية وبين القانون.
النظرية تشبه “جواز السفر الموقت” او “الهوية قيد الدرس”؛ تُستخدم موقتاً للضرورة ريثما تكتمل التحقيقات ويستحق حاملها جواز السفرالدائم او الهوية الدائمة.
وقد يتطور العلم فيكتشف ان كثيرا من نظرياته لم تكن صحيحة؛ مثال ذلك: كان العلماء يعتقدون بأنه لا يمكن للاجسام ان تسير بأكثر من سرعة الضوء، وبقي هذا الاعتقاد سائداً وراسخاً اكثر من خمسين سنة، لكن العلم اكتشف لاحقاً انه بالامكان تجاوز سرعة الضوء وذلك في تجربة حديثة جدا اطلق فيها جسيم سار باعلى من سرعة الضوء.
التطبيق الثاني للمنهج التجريبي: اكتشاف وجود الله
سنحاول هنا ان نطبق قواعد العلم التجريبي على مسألة الايمان بالله لنعرف هل يثبت وجود الله بطريقة تجريبية ام لا؟
وسوف نستخدم – لهذا الغرض- نفس المنهج والمراحل التي استخدمها نيوتن وأدت به الى اكتشف قانون الجاذبية لنرى صلاحية العلم التجريبي لاكتشاف وجود الله.
كما قلنا في القسم الاول من المقال : تبدأ عملية الوصول الى الحقيقة من الواقع وتمر في المنهج التجريبي بالمراحل التالية:
الملاحظة
الفرضية
اختبار الفرضية
النظرية
القانون.
لنبدأ كما بدأ نيوتن حين لاحظ سقوط التفاحة ووصل اخيرا الى قانون الجاذبية:
المرحلة الاولى : الملاحظة
نلاحظ ان شجرة التفاح فيها جذور تمتد في الارض وتثبّتها لكي تحمل ثقل الجذع والاغضان والاوراق والثمار.
ونلاحظ ان الجذور تقوم بامتصاص الماء والاملاح من التربة وترسلها الى الاوراق عبر الساق والاغصان
ونلاحظ ان الاوراق تحمل مادة الكلوروفيل الخضراء لتقوم بوظيفتنين:احداهما تخدم البيئة اذ تصنع الاوكسجين وتطلقه للهواء لكي يتنفسه الانسان وباقي الاحياء، والثانية صنع الغذاء للشجرة نفسها، وللانسان لاحقاً.
ونلاحظ ان ازهار شجرة التفاح تتفتح في فصل الربيع وتتكون من اعضاء ذكرية واخرى انثوية في نفس الزهرة
ونلاحظ ان الرياح والحشرات تقوم بنقل حبوب الطلع من الاعضاء الذكرية الى الاعضاء الانثوية في الزهرة فتتكون الثمرة
ونلاحظ ان الثمرة لها وظيفتان: توفير الغذاء للانسان، وتوفير البذور التي تضمن تكاثر شجرة التفاح وبقاء نسلها من خلال امكانية زرع البذور للحصول على شجرة تفاح جديدة.
ويلاحظ ان كل شيء في الشجرة يجري وفق نظام معقد ودقيق، وأن هذا النظام شمولي يحكم كل شجرة تفاح في الارض، وأنه يمتاز بالديمومة والتكرارية، ويمتاز كذلك بالحفاظ على نفسه، ويمتاز كذلك بالمقاصدية، او تحقيق هدف ذكي او اهداف ذكية مقصودة.
المرحلة الثانية: وضع الفرضية
لتفسير ظاهرة نظام الشجرة يبدا العقل بالعمل ليعرف:
هل وراء نظام الشجرة قوة ذكية وقديرة ؟ ام لا؟
يضع العقل فرضيتين:
الاولى: فرضية الصدفة التي تقول: ليست هناك قوة ذكية وقديرة خططت للشجرة ان تقوم بهذه الوظائف.
الثانية: فرضية التصميم الذكي التي تقول:إن هناك قوةً ذكيةً وقديرةً خططت للشجرة ان تقوم بهذه الوظائف.
المرحلة الثالثة: اختبار الفرضية:
يقوم العقل باختبار الفرضيتين كليهما ليرى ايهما اقدر على تفسير مجموع الملاحظات حول شجرة التفاح.
يبدأ بالفرضية الاولى (فرضية الصدفة) فيبحث عن امكانية نشوء نظام مشابه او مقارب لنظام الشجرة بطريقة الصدفة.
يبحث في الانظمة التي صنعها الانسان فلا يجد نظاما يمكن ان يظهر بطريق الصدفة….كل الادوات والاجهزة التي يصنعها الانسان لا تصنع بالصدفة بل بالذكاء والقوة..كل ما صنعه الانسان يعبر عن تصميم وارادة وتفكير وابداع….من الفأس والرمح الى المحراث الى العجلة….الى السفن الفضائية..لا شيء يمكن صناعته بدون ذكاء وقوة وعلمٍ وإرادة.
يدقق في الاحداث العشوائية فلا يجدها الصدفة قادرة على ان تصنع دائرة هندسية واحدة، فضلاً عن صناعة نظام متطور معقد.
يلجأ الى التجربة ليرى هل يمكن للصدفة ان تصنع نظاما بأبسط اشكال النظام؟
يدرس تجربة القرود التي قام بها المجلس الوطني البريطاني للفنون لاكتشاف امكانية بروز قصيدة من قصائد شكسبير بطريق الصدفة حيث وضع ستة قرود في قفص فيه كومبيوتر وترك القرود تضرب عشوائياً على لوحة المفاتيح لمدة شهر طبعت القرود خلالها خمسين صفحة جرى فحصها بدقة فكانت النتيجة ان الصفحات الخمسين تخلو من كلمة واحدة ذات معنى..ولو كلمة من حرفين مثل: ان، أو، يا، ما….الخ فعرف ان الصدفة لا يمكن ان تصمم نظاماً مهما كان بسيطا.
وسأل الرياضيات عن احتمال بروز نظام بطريق الصدفة فقالت له الرياضيات انه لو وضع عشرة قطع معدنية مرقمة في كيس وحاول سحبها بالترتيب لكي تظهر متسلسلة من الواحد الى العشرة فانه يحتاج الى عمليات سحب مقدارها 10 مرفوعة الى القوة العاشرة، اي عشرة وامامها عشرة اصفار.
اما اذا اراد ان يكون جزيئاً بروتينيا واحداً عن طريق خلط عشوائي للعناصر المكونة له فان احتمال تكوين هذا الجزيء تبلغ 10 مرفوعة الى القوة 243 اي عشرة مضروبة في نفسها 243 مرة، وهو احتمال يساوي الصفر في علم الرياضيات. وقالت الرياضيات ايضاً: انه يحتاج لاجراء هذا العدد من عمليات الخل العشوائي مواد اولية اكبر مما تحتويه الكرة الارضية. ولو تحقق له ذلك – على سبيل الفرض- فسوف يحصل على جزيء ميت لا حياة فيه.
عرض الامر على نظرية التطور فوجد ان نظرية التطور – لو صحّت- فلا يمكنها تفسير النظام القائم فعلاً بنظرية الصدفة، ولا تفسير النظام الذي قام في الخلية الاولى بنظرية الصدفة كذلك، لأن الرياضيات ترفض بروز هذا الاحتمال العشوائي، ولأن ابسط جزيء حي يحتوي من التعقيد ما يفوق بملايين المرات احتمال طباعة قصيدة واحدة لشكسبير بالضرب العشوائي للقرود على لوحة الحروف مهما طال الزمن.
***
يقوم العقل بمحاولة اخرى لفحص امكانية قيام نظام بطريق الصدفة.
يقوم بفحص ما حول الشجرة…يلتفت يمينا ويساراً فيجد خلف شجرة التفاح عمود اضاءة في الحديقة. يتفحص العمود جيداً فيراه مصنوعاً من معدن ومطلياً بدهان لمنع الصدأ وموصولاً بسلك كهربائي اخفي بداخله لحمايته من بلل المطر وحرارة الشمس.
فكّر في احتمال بروز هذا العمود الى الوجود بطريقة الصدفة وبدون تخطيط وارادة من الفريق الفني الذي نصبه فيها…. رأى ان من المستحيل ان يبرز هذا العمود بسبب تراكم صدف في اكوام حديد ملقاة قرب الحديقة، والتفاف اسلاك نقلتها الرياح من سلة مهملات، وانسكاب بقايا علبة دهان القى بها دهّان وهو يطلي مقاعد الحديقة، وسريان التيار الكهربائي من صاعقة ضربت المنطقة فاستطاع العمود ان يتلقف الكهرباء منها ويحتفظ بها….وسرح في الخيال فوجد ان التفكير بظهور عمود كهرباء ميت عن طريق الصدف العشوائية المتراكمة هو نوع من الجنون ولا يليق بعاقل ان يفكر فيه.
عاد بنظره الى شجرة التفاح ليقارن بينها وبين عمود الاضاءة، وسال نفسه: ايهما اعقد نظاماً وارقى تطوراً ؟ العمود الميت ام الشجرة الحية التي تثمر كل عام وتتكاثر وتخدم الانسان والبيئة ؟
هل يستطيع ان يقول ان الشجرة تنشأ عن طريق تراكم الصدف العشوائي ، بينما لا يمكن للعمود ان ينشأ بنفس الطريقة ؟
توصل الى النتيجة التالية:
[ لا يمكن ان ينشأ اي نظام مهما كان بسيطاً من تراكم صدفة عشوائية، بل ينشا النظام بالعلم والقوة والقصد والارادة]
***
يبدأ بفحص الفرضية الثانية: فرضية التصميم الذكي
يجد ان فرضية وجود قوة ذكية قادرة تمتاز بالعلم والارادة يكفي لتفسير لنظام الشجرة ولكل الانظمة الاخرى التي يراها الانسان في الوجود، وهي ايضا فرضية صالحة لتفسير كل نظام صنعه الانسان سواء في عالم الصناعة ام في عالم المجتمع و الاسرة والقضاء والادارة…لا يوجد نظام بدون علم وقدرة و تصميم ذكي.
***
يقارن بين الفرضيتين فيستبعد فرضية الصدفة لانها عاجزة عن تفسير النظام في اي شيء، ويختار فرضية التصميم الذكي لقدرتها على تفسير النظام في كل شيء.
ينتقل الى المرحلة الرابعة
المرحلة الرابعة وضع النظرية
يضع النظرية التي تقول:
[ ان نظام الشجرة صنعته قوة عالمة قديرة ارادت للشجرة ان تقوم بدور خدمة الانسان و البيئة وان توفر الغذاء للبشر، وان تعيد انتاج نفسها عن طريق التكاثر، وان هذه النظرية تصلح ايضا لتفسير كل الانظمة الموجودة في الكون والتي لم يصنعها الانسان بل نراها في الطبيعة].
***
لكنه لا يصل بالنظرية هذه الى مرحلة القانون قبل ان يحد اجابة على اسئلة جديدة هي:
صحيح ان النظام يسود كل اجزاء الكون، وعلى هذا الاساس تعمل الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والجيولوجيا؛ لكننا نجد ايضا جوانب من النظام الكوني لا وظيفة لها ولا معنى، مثال ذلك : الزائدة الدودية في الانسان، والصخور والاحجار في بعض جوانب النظام الكوني، والكثير من المواد الموجودة في الارض اوف الكواكب مما لا وظيفة له ولا فائدة، فاذا كان موجد النظام هو خالق حكيم فلماذا وجدت اشياء لا حكمة وراءها؟
ان وجود الظلم والشر والألم في الحياة يدل على عدم وجود رحمة ولا نظام يحفظ للضعيف حقه ويمنع القوي من القضاء عليه، وهذا واضح في الغابة التي يفترس بعض حيواناتها البعض الاخر، او في المجتمع البشري الذي تسوده الحروب والصراعات وتسلط الاشرار الاقوياء على الاخيار الضعفاء…فاذا كان هناك اله رحيم قادر على نصرة المظلومين فلماذا لا يفعل ذلك.
اذا كان هناك اله خلق كل شيء فمن خلق هذا الاله؟ ولماذا يشذ الخالق عن حاجته الى من خلقه؟ لنقل ان هناك خالقاً خلق الاله وهذا ايضا له خالق، فما المشكلة في التسلسل الى ما لا نهاية؟
كيف أؤمن باله غيبي لا يمكن اثباته باستعمال الحواس الخمسة؟
***
يتوصل العقل بعد فحص هذه الاسئلة الى النتائج التالية:
اننا حين حاولنا تفسير ظاهرة النظام توصلنا الى فرضيتين ثنتين لا ثالث لهما: فرضية الصدفة، وفرضية التصميم الذكي. ورفضنا نظرية الصدفة لعجزها عن تفسير اي نظام مهما كان بسيطا. ولم يبق لنا الا القبول بالفرضية الوحيدة الباقية وهي فرضية التصميم الذكي، فاذا رفضنا نظرية التصميم الذكي (بسبب عدم تفسرها لعدد محدود من الحالات) فالبديل هو نظرية الصدفة التي لا تفسر شيئا على الاطلاق. ولا يوجد عالم يترك نظرية فيها بعض جوانب الغموض ويلجأ الى نظرية تعجزعن تفسير اي مفردة من الظواهر محل الدراسة.
من الناحية العلمية عندما تتوفر لدينا الاف الادلة على صحة نظرية معينة فيها بعض الغموض؛ لا يُقدم اي عالم ولا (متعلم) على نفي النظرية بسبب بضعة شواهد على خلافها ويترك الاف الشواهد على صحتها. ان طلبة الجامعات في شتى الفروع يواجهون في بداية رحلتهم العلمية ما يتصورونه اخطاءً واضحة في المصادر العلمية المعتمدة بسبب عدم تعمقهم في ذلك الاختصاص، لكنهم يكتشفون بالتدريج ان الخلل في فهمهم المبتدئ لا في المصارد العلمية.
في الجزء الكوني من الحالات الشاذة (وجود اشياء لا وظيفة لها ): لأن مسيرة العلم لم تتوقف وانها مستمرة في الكشف عن اسرار الكون وقوانينه فلا يجوز لأحد ان يعتبر نفسه قد ملك العلم المطلق الذي يفسر كل شيء. فكم من الاشياء التي كانت تبدو بلا فائدة ثم ظهرت فوائدها؟ هل كان الانسان قبل القرن العشرين يعرف فائدة اليورانيوم مثلاً؟ وماذا نقول للذي نظر الى مناجم اليورانيوم قبل قرن من الزمان وحكم على عبثية وجودها؟…. لابد اذاً من التوقف عن الموقف غير العلمي في نفي فوائد ما لا تُعرف فوائده وترك الامر الى مسيرة العلم في الاجيال القادمة لتكتشف ما عجز عنه الجيل الحالي.
في الجزء الاجتماعي من الاسئلة والمتعلق بمشكلة الشر والألم والظلم: علينا ان نبحث في الاجابة على هذه الاسئلة بعقل مفتوح لا يستبعد ان تكون هذه الظواهر من جملة النظام الاجتماعي القائم على ضرورة التنوع وأهمّية الصراع بين الخير والشر في خطة وضعها المصمم الحكيم للحياة تقضي بمنح حرية العمل لكل البشر في مرحلة اولى ثم تأتي مرحلة ثانية يُكافأ فيها المظلوم ويجازى فيها الظالم…ما المانع من ذلك علمياً في تخطيط الخالق؟ وهل اذا خلت الحياة من الصراع او من الشر سوف تكون الحياة سعيدة وهانئة؟ ام سوف تتجمد الحياة عندما تتوفر للناس كل ما يريدون بلا معاناة ولا صبر ولا كفاح؟
ان سؤال من خلق الخالق ينطوي على مغالطة، فالخالق غير المخلوق، ولو كان مخلوقاً لما كان خالقاً. الخالق ازلي لا اول له ولاخالق له. واذا قال الملحد انه لا يمكن ان يكون الخالق ازليا نقول له: اذا كانت المادة الفاقدة للعقل والارادة ازلية، فلماذا ترفض ان يكون الخالق المتصف بالعلم والارادة ازليا؟ لابد ان يكون هناك موجود أزلي لم يُخلق، اما الله او المادة، فأي الاحتمالين اقرب للعلم والعقل؟
يصعب على البعض ان يقبل بفكرة استحالة التسلسل حين يسأل عن من خلق الخالق ولا يقبل استحالة التسلسل في وجود خالق. ان العقل السليم يرفض فكرة التسلسل في الخالق الى ما لا نهاية، ويقبل فكرة خالق لا خالق له هو مصدر الوجود ولا وجود قبله. هذه الفكرة يمكن ببساطة شرحها عن طريق مصدر العملة…المال الذي في جيبك اخذتَه من رب العمل وهذا اخذه من الزبائن وهؤلاء اخذوه من غيرهم وغيرهم اخذها من غيرهم….الخ. هل يمكن ان يستمر هذا التسلسل الى ما لانهاية؟ طبعاً لا، فلابد ان ينتهي الامر الى المصرف المركزي الذي اصدر العملة ولم يأخذها من احد، فكذلك الخالق هو المصدر النهائي للوجود الذي لم يأخذه من احد.
على فرض عدم الاقتناع بهذه الاجوبة، فهل يجوز لنا الرجوع الى فرض الصدفة الذي لا يفسر لنا اي نظام على الاطلاق؟ ام الموقف الصحيح هو القبول بالتصميم الذكي الذي يفسر لنا القسم الاكبر من الظواهر ونبحث لاحقا في تلك الاسئلة في مظانها وعند اهلها؟
ان التوصل الى معرفة الخالق لا يتم بطريقة غيبية، بل بطريقة علمية تجريبية كما شاهدنا وكما توصل نيوتن الى معرفة الجاذبية.
***
نخلص من هذا البحث الى النتيحة التالية:
يمكن التوصل الى وجود الله بالطريقة العلمية التجريبية وذلك باتباع نفس المراحل المقررة في المنهج التجريبي ودون الحاجة الى اي عناصر غيبية.
كل ما في الامر اننا يجب ان نفكر في انظمة السماوات والارض ونطوي مراحل الملاحظة ثم الفرضية ثم التجربة ثم النظرية ثم القانون.
ان في خلق السماوات والارض لآياتٍ لقومٍ يتفكرون.