يلعب العامل الأقليمي اليوم دوراً أساسيا بل وأولياً في التأثير على استقرار العراق في ظل الظرف الحالي وخصوصاً بعد أن أصبح العراق منخفض جيوسياسي تصب فيه سياسات دول المنطقة الفاعلة بمايؤثر على استقراره وذلك بسبب مجموعة من العوامل يأتي في مقدمتها الأنقسام السياسي الحاد (الطولي والعرضي) بين مختلف (المكونات) العراقية، اضافة الى خروج القوات الأمريكية من العراق التي كانت بمثابة مظلة ولو مؤقتة للحفاظ وحدة العراق وان شكلياً.
ان عوامل القوة متوفرة لجميع (مكونات العراق) سنة وشيعة وكرد وبالتساوي، كما ان عوامل التقسيم موجودة وكامنة في الخارطة الجغرافية للتوزيع الديموغرافي (لهذه المكونات) الذي يجد له تعضيداً بجغرافية الجوار المشابهة له من ناحية التكوين ( سنة تجاورهم دول سنية، شيعة تجاورهم دولة شيعية، كرد سنة تجاورهم دولة تركية سنية)، وبناءاً عليه يصبح من الصعب تصديق وهم ألأكثرية لمكون ما من ناحية التأثير الفعلي وان كان من الممكن تصديق حقيقة الأكثرية العددية لهذا المكون.
لكن مايهمنا هنا هو مدى تأثير الصراع الأقليمي والمشاريع السياسية المتضاربة لدول الجوار العراقي على توازن واستقرار العراق، وكيف يمكن لبعض المتغيرات أن تلعب دوراً ايجابياً في تحقيق هذا الاستقرار عبر التأثير على العلاقات بين مكوناته.
ولو نظرنا الى القوى الأقليمية التي تحيط بالساحة العراقية الحالية سنجد انها تتمثل بكل من:
*ايران (اسلامية ممانعة لامريكا واسرائيل..).
* تركيا عضو في حلف الناتو (يحكمها تيار اسلامي براجماتي يقيم علاقات قوية مع امريكا والغرب واسرائيل) ويبحث عن دور قيادي في المجال الحيوي العربي الأقرب من ناحية الجغرافيا والثقافة.
* دول الخليج ( محميات أمريكية ترتبط بشبكة علاقات اقتصادية وتسليحية وبعضها لها علاقات مع اسرائيل والبعض الاخر لايمانع ويدفع بهذا الاتجاه) مع خصوصية للملكة العربية السعودية بأعتبار انها أكبر دول الخليج وصاحبة ابرز دور مؤثر في مجلس التعاون الخليجي وقطر التي التي بدأت بمحاولة لعب دورأكبر من حجمها بكثير.
* سوريا التي اصبح حالها حال العراق بعد الانقسام والصراع الحالي بين قوى المعارضة بمختلف تشكيلاتها والنظام السوري الذي يبدو انه لن يسقط الا بعد أن تدمر كامل البنية التحتية للدولة والجيش السوري فيه اضافة الى تخريب وعي المواطن السوري، بالضبط كما فعلوا مع العراق بعد 13 سنة من حصار شامل خربت فيه البنية التحتية والانسان في العراق.
* الأردن صديق الغرب الذي بدأ تأتيره وفاعليته تقل بمرور الوقت بسبب تفاقم أزمته الاقتصادية بسبب قلة الدعم العربي وامتدادات ماسمي بالربيع العربي.
* انكفاء مصر وتراجع دورها في تشكيل المشهد السياسي الإقليمي والعربي منذ مقتل السادات، وغياب لاعب مشاغب آخر في الشأن الإقليمي هو معمر القذافي بعد انهيار نظامه.
إذن وباستطلاع هذه القوى فأن البديهة تقودنا الى أن هناك طرفاً شاذاً عن المعادلة الأقليمية التي تصب في صالح الغرب وفي مقدمته امريكا واسرائيل وهي ايران التي تربطها بالعراق روابط تتسع لأكثر من روابط الجغرافية والتاريخ والدين (أو المذهب مع طيف واسع من الشعب العراقي) لتمتد الى المستقبل، وان الصراع القائم في العراق ماهو الاصدى لعدم الانسجام الذي يصل الى مستوى الصراع بين مجموعتين فاعلتين في المشهد الإقليمي، الأولى تضم تركبا التي ترتبط مع الغرب بعلاقات شبه متكافئة وبعض دول الخليج ان لم يكن كلها والتي ترتبط بعلاقات هي اقرب للخضوع او الانتماء للغرب منها إلى التكافؤ، أما المجموعة الثانية فيمثلها إيران وبعض القوى المتحالفة معها في المنطقة، وهذا الصراع بين المنظومتين يجد انعكاساته الدموية في الصراع الطائفي أو المذهبي في المنطقة وأبرز تجلياته الحاضرة في العراق خصوصاً وأنه امتد أكثر ليكتسب بعداً مجتمعياً مما ضاعف من مخاطره.
إن للتأجيج الطائفي وظيفة تسهم في عرقلة المشروع الإيراني وسمه ما شأت (ممانعة أومقاومة أو تمدد..الخ) وهدفه الحفاظ على مصالح الغرب (أمريكا، إسرائيل، أوربا،تركيا، دول الخليج) في منطقة حيوية من العالم وعصب أساسي في منظومة الأمن العالمي، كما انه يسهم في التعمية عن طبيعة الصراع الحقيقي على المصالح مابين الغرب وإيران. كما أن للتأجيج الطائفي علاقة مباشرة بعرقلة أي محاولات للإصلاحات الديمقراطية في دول المنطقة سواء في إيران أو في دول الخليج أو تركيا أو سوريا أو العراق. ان هناك دول وأنظمة ومصالح ومن مختلف الأطراف تقف وراء العديد من وسائل الإعلام والهيئات والمنظمات الإسلامية التي تقدم خطاباً سياسياً واعلامياً يساهم في التأجيج الطائفي في الوقت الذي تستخدم فيه اسلوب التعمية على صراع المصالح والنفوذ للدول التي تتراكم فيها الثروات والقوة الباحثة عن نفوذ سياسي، من خلال اعتباره صراعاً مقدساً دفاعاً عن مذهب أو طائفة ولإخفاء حقيقه انه وسيلة لاستثمار المجال الحيوي الناشئ من الفراغ الجيوسياسي في بعض دول المنطقة ومنها العراق وسوريا وغيرها.
إن الصراع الإقليمي بين دول المنطقة وتداخلاته الأممية لابد وأن ينعكس سلباً على العراق ويسهم بشكل فعلي ومباشر في تأجيج الوضع الداخلي في دول عديدة وفي مقدمتها العراق، كما أن أي توافق وانسجام إقليمي بين دول المنطقة سيسهم بشكل إيجابي على العراق وغيره.
لقد لعبت ايران في عهد الشاه (مع عدم انكار الطموح القومي للشاه) دوراً في مشابه للدور الذي تلعبه تركيا الآن بل يكاد يكون أعظم بسبب الإطالة الإيرانية على الموقع الإستراتيجي في الخليج العربي وبإمكان ايران الآن أن تلعب دوراً مشابهاً بل ربما أعظم للدور الحالي الذي تلعبه تركيا الآن وذلك بإستعادة دورها السابق الذي كانت تلعبه ابان عهد الشاه السابق بوصفها جزءاً من المنظومة الغربية وشرطي الخليج، لقد كانت ايران في تلك الفترة تحظى بأحترام الدول الخليجية ولم تكن متهمة بالتدخل بالشؤون الداخلية لدول الخليج، بل ان هذه الدول كانت تخشاها وتستعين بها لمواجهة مشاكلها الداخلية في كثير من الأحيان، ولم تكن تعتبرها دولة صفوية أو مجوسية أو دولة ذات أحقاد تأريخية على العرب والمسلمين بالرغم من كونها دولة قومية ذات أطماع، فهذه الأوصاف لم تلقي هذا الرواج الأعلامي السياسي الابعد الثورة الاسلامية الذي خفف التوجه الاسلامي الكثير من غلوائها القومي ولكن في المقابل دفع الى زيادة مخاوف وهواجس هذه الدول من انعكاسات التوجه الثوري الذي اطلقته هذه الثورة وخطره الداهم على انظمتها، ولذا كان من المحتم البحث عن شرطي جديد للخليج، فكان الصعود السريع لصدام حسين وكانت الحرب العراقية الإيرانية التي أعلن عن انتهاء فصلها المعلن في عام 1988 لتبدأ فصولها المخفية التي لم تنتهي لحد الآن.
إن تصوراً أولياً لمثل هكذا سيناريو فيما إذا قدر له أن يحدث ستترتب عليه جملة من الأمور ومنها:
* ان تحالفاً بين إيران والغرب سيوقف الهجوم الإعلامي العربي الذي استخدم لفترة طويلة ضد إيران والذي ركز خطابه على اعتبار ايران عدو تاريخي فارسي مجوسي حاقد ومن قبل جهات مختلفة أملاً في كسب رضا الأمريكان مثل ما يفعل هؤلاء ولمدة أكثر من ثلاثين عام منذ سقوط الشاه.
* ان وجود علاقات إيرانية-أمريكية ممتازة ستسهم في تحسين العلاقات العربية الإيرانية والتي ستصب بالنتيجة في صالح العراق والعراقيين جميعاً وبكل طوائفهم، كما انها ستسهم بإنهاء الإحتقان الطائفي في الكثير من دول المنطقة.
* الدولة القومية الفارسية وليس الدولة ذات التوجه الإسلامي (الحركي) هي ما ينسجم مع الوضع الدولي وبرضا إقليمي خليجي وربما بامتعاض تركي إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار عوامل المنافسة الاقتصادية بين بلدين منتجين في منطقة تمتاز بالطابع الاستهلاكي (دول الخليج تحديداً).
* الأمر بالنسبة للعراق سيكون مفيداً وستحاول كل من تركيا وإيران في كسب ود العراق بما ينعكس إيجاباً على استقراره.
* ستسعى دول الخليج نفس المسعى لكسب ود إيران وتركيا باعتباره الطرف الاضعف في المعادلة الجديدة اذا ماتحقق هذا السيناريو.
* مثل هذا السيناريو سيخفف بشكل كبير من التوتر والشحن الطائفي سواء بين دول المنطقة ككل او على مستوى كل دولة على حدة بما يؤدي الى الالتفات الى المشاكل الحقيقية لهذه البلدان والدفع باتجاه اصلاحات حقيقية في هذه الدول بما فيها العراق، مع انحسار القوى السياسية ذات التوجهات الطائفية والاسلامية وصعود قوى ليبرالية وعلمانية الى المشهد السياسي في العراق.
ويبقى لنا أن نتصور ما تأثير أن تكون ايران جزء من المنظومة الغربية على العلاقة بين الشيعة والسنة في العالم الإسلامي وعلى العلاقات العربية الايرانية وعلى العلاقات بين أطياف الشعب العراقي.
لكن يبقى السؤال المطروح هو هل باستطاعة النظام الإيراني بتركيبته الدينية الحالية وفق ولاية الفقيه ان يكون جزء من المنظومة الغربية؟ ، وهل أن بإمكان العراق أن يحسم أمره ليكون هو الآخر جزء من هذه المنظومة التي أسقطت النظام السابق؟ وهل عليه تشجيع إيران للمضي بهكذا اتجاه وفي ظل اي ظروف يمكن لايران القيام بذلك؟، مع عدم نسيان ان في ايران نظام ديمقراطي يمتلك الية التدوال السلمي للسلطة من خلال الانتخابات وبالامكان فعلاً ان يتم التغيير عبر هذه الالية، لكن هل يمكن تعديل فلسفته السياسية القائمة على ولاية الفقيه أو التخفيف منها؟