23 ديسمبر، 2024 7:28 م

هل يمكن أن يعيش الكائن البشري دون اعتقاد؟

هل يمكن أن يعيش الكائن البشري دون اعتقاد؟

” ليس من السهل فهم كيف تتمكن الإتيقا من التحكم في ميدان الفعل وهي ملزمة كلها بالخضوع لإكراه موقف الحياد التام تجاه ميدان الاعتقاد.” [1]
ما سر الحاجة الإنسانية الدائمة إلى الاعتقاد؟ أليس اللاإعتقاد هو في حد ذاته إعتقادا؟ هل من الحكمة والعقل أن نتمسك باعتقادات لا نستطيع أن نجد لها تسويغات عقلية؟ هل تكون المعتقدات مقبولة لمجرد تكاثر عدد الذين يعتقدون فيها في المجتمع؟
 إن النقاشات حول المقدس قد تصاعدت في ساحة الفكر المعاصر وتغلبت على عدة اهتمامات نظرية أخرى التي تطرح إشكاليات بمعزل عن التيولوجيا واللاهوت والكتب الدينية والغيبيات والروحانيات والمسلمات الميتافيزيقية. البعض من المفكرين الذين كانوا ينتسبون إلى التيار اللااعتقادي بادروا بطرح أنفسهم اليوم كمدافعين عن الدين تحت مسميات عديدة وفي سياقات مختلفة ويبررون ذلك بحاجة الإنسان في حياته إلى المقدس والتعالي وبأن اللحمة الاجتماعية والتماسك الأسري والتضامن الوطني ووحدة الانتماء إلى هوية لن يتحقق إلا بالرابطة الروحية الدينية. لكن ما نلاحظه راهنا يتطابق بلا ريب مع “عودة للديني” أو ما سماه موزيل “الحنين إلى الاعتقاد” وما يمكن اعتباره “تضخم في التدين” أو “إفراط في الإيمان” فكيف لحقبة غطس فيها الناس في اللااعتقاد تنجرف انجرافا تاما لتبحث لاهثة عن قبس من الإيمان؟ هل أن الشيء إذا بلغ حده انقلب إلى ضده وأن الحرمان التام يولد الرغبة الجارفة في الإشباع الكامل وأن الكبت يولد الانفجار؟ أليس الديني هو هذا البعد الذي وقع كبته وظل طي الكتمان في غياهب اللاشعور الجمعي وهاهو ينفلت مجددا على سطح الشعور؟ ما دور السياسة في هذه العودة للاهتمام بالدين؟ ألا يحظى ذلك بتدعيم رسمي من الدول والحكومات والأنظمة السياسية قصد توظيفه في لعبة المصالح واستراتيجيات الهيمنة؟ هل يتعلق الأمر باستعادة تفهمية جديدة للديني وإعادة إحياء للتراث الروحاني أم أن ذلك ليس سوى توظيف عتيق وتقليدي للعامل الديني في المسرح الاجتماعي والسياسي؟

 إن المفكرين ما بعد حداثيين قد فتحوا ثقوبا في يقينيات الجاهزة وبديهياتنا الأكثر حصانة وثبات على الصعيد الابستيمولوجي وغامروا وركبوا المخاطر عندما أعادوا النظر في مسائل العقيدة والدين والإيمان وعرضوا هذه المسائل المحرجة على محك العلم والنقد والتجربة والعقل الفلسفي والتأويلي. ولعل جاك بوفراس في كتابه: “حول الحقيقة والاعتقاد والإيمان” الصادر في مرسيليا بفرنسا سنة 2007 عن دار أغون هو واحد من الذين أولوا عناية خاصة لهذه المسألة وأعطوها عمقها الفكري اللازم وكشف عن طابعها الإشكالي وقيمتها الفلسفية في الحياة المعاصرة.

 لقد خاض بوفراس في هذا الكتاب الذي يضم 286 صفحة نقاشا حادا غير زمني طبعا مع كل من نيتشه ورينان وجيمس ورسل وفرويد وفتغنشتاين ورورتي وفاتيمو ودوركايم وموزيل وهابرماس وآخرين حول قضايا الإيمان والإلحاد ومنزلة الدين الوظيفية التربوية والأخلاقية في المجتمع ودوره السياسي البراغماتي والحاجة الوجودية إليه في الحياة.

 وقد تضمن الكتاب باب أول صغير بعنوان: “قوة الخطأ وقيمة الحق” يوجد فيه خمسة فصول هم على التوالي:

ماذا نكون دون الاستنجاد بالخطأ؟

 هل يمكن أن نريد الحق ولماذا نريده؟

العلم والشر والدناءة

 هل يمكن ألا نريد الحق؟

 الريبية والسذاجة : الشك والاعتقاد دون سبب

 أما الباب الثاني فقد جاء مطولا وتضمن ستة عشر فصلا كاملة وتناول فيها بوفراس قضايا عديدة وإشكاليات محرجة أهمها:

 العقل والإيمان

 الحقائق والأخطاء أصدقاء الدين

 التجربة الدينية بوصفها أساس الدين

 هل يمكن أن تكون هناك إتيقا للاعتقاد؟

الحاجة وإرادة الاعتقاد

 أية شروط يمكن أن يؤمن فيها الاعتقاد مستلزمات إتيقا الاعتقاد؟

 هل العلم مع أو ضد الدين؟

 الدين والعلم والحقيقة والديمقراطية

 البراغماتية والدين والمسيحية ما بعد الحديثة

ما بعد الحداثة والعلم الكاذب والدين الحق والدين الزائف

 لا من بل أنت

ماذا يعني “الموجود المتدين”؟

الآلهة القدامى والآلهة الجدد

هل باستطاعة الوهم أن يصبح حقيقة؟

البرغماتية والتيولوجيا

فتغنشتاين والبراغماتية ومشكل دلالة القضايا الدينية

بقي الباب الثالث فقد خصصت صفحاته غير الكثيرة لتثمين جهود الفيلسوف اللغوي الوضعي فتغنشتاين الذي قادت أوراقه الى تطعيم الفلسفة التحليلية الأنجلوساكسونية بإضاءات وكشوفات فلسفية باهرة علتها تفوق في مجالات عديدة على الفلسفة القارية، وقد كان هذا الباب الأخير بعنوان: “فتغنشتاين ودروب الدين”. الكتاب في مجمله عرض للآراء والمواقف الفلسفية والعلمية وليس من اليسر تبين موقف الكاتب من الإشكاليات التي يثيرها ولكن منهجه البحثي هو الهام واستفهامه غير الدوغمائي عن ماهو دوغمائي هو الذي يلفت انتباهنا ويثير فضول المهتمين من أجل قراءته.

نختم بما قاله على لسان رسل:”ان الخطر الأكبر ليس في الدين كماهو في حد ذاته بل في الذهنية الدينية ذاتها التي يمكن أن توجد بكل أسف في النظريات والأنساق السياسية”[2].

هل نستخلص من هذه القولة أن بوفراس بقي محافظا على الموقف الوضعي التقليدي المعادي للدين والذي يعتبر القضايا الدينية قضايا فارغة من كل معنى وأنه بالتالي لم يستفد من المنعطف اللغوي الهرمينوتيقي الذي أحدثه أستاذه فتغنشتاين في طريقة النظر إلى دلالة الكلام الديني؟ ألسنا في حاجة إلى إعادة المصالحة مع المقدس؟ ألا ينبغي علمنة الدين طبقا لروح عصرنا؟ ألا نحتاج إلى ثورة في مجال الإيمان إذا كنا في عصر ما بعد الدين ؟ وألا يقتضي الأمر فهم فلسفي وجودي للدين إذا كنا في زمن يستوي فيه الإلحاد مع الإيمان؟ ماذا لو عرضنا الإسلام عقيدة وتراثا وعلوما وثقافة وتاريخا وسياسة على محك النقد الفلسفي والمنهجية العلمية الصارمة؟

المرجع:
Jacques Bouveresse, Peut-on ne pas croire ?, editions Agone, 2007 , Marseille