قد يبدو هذا السؤال صادما للكثير من العراقيين الذين تفح وعيهم على دولة موحدة بشكل حديدي ،لا مجال فيه للحديث عن التعدد والاختلاف ولو على مستوى الرأي والموقف..بيد ان هذا السؤال يبدو مشروعا في ظل السباق المتواصل بين شيعة العراق وسنته نحو المجهول، في وقت يقف فيه بلدهم على اعتاب مرحلة جديدة يراد لها ان تكون منطلقا قويا للتنمية الوطنية، بعد سقوط جميع الاعذار والذرائع التي اهدرت مئات المليارات من الدولارات دون ان تحقق شيئا ملموسا في مشروع اعمار العراق وتنميته.
وفي خضم الجدل المتعدد المستويات الذي تضج به الساحة العراقية يبرز الجدل السياسي الطائفي بين شيعة السلطة وسنتها باعتباره المادة الاساسية لكل ما جرى ويجري في مرحلة ما بعد 2003،وهو جدل مرشح للاستمرار والاتساع بعد غياب المتغير الامريكي من المعادلة العراقية .
وقد ترك هذا الجدل حتى الان اثارا كارثية على الحياة في العراق؛ من قتل وتدمير وضياع لفرص التنمية الوطنية ، لكن الاخطر من اثار هذا الجدل هو ما يحمله المستقبل حيث اصبح لهذا الجدل ارثا كبيرا على مستوى الخطاب والممارسة السياسية، والكوادر ،والمصالح،كذلك الامتدادات الاقليمية والدولية، بات من الصعب تجاوزه في ظل آليات الحكم البسيطة والمتمترسة التي يقاد فيها العراق منذ 2003 وحتى اليوم.
ان القراءة الموضوعية لما جرى ويجري في العراق يؤكد بما لايقبل الشك ان الشيعة لن يتخلوا ان عن حكم العراق بغض النظر عن الوسائل والاساليب، على خلفية ما يرون انها مظالم واسعة وعميقة لحقت بهم قبل 2003، وهم تحت ضغط الارث ذاته لن يقبلوا شريكا حقيقيا في لعبة السلطة، وبالمقابل فان السنة لن يقبلوا بلعب الدور الثاني الذي طالما لعبه الشيعة طوال اكثر من ثمانين عاما من تأريخ العراق. وبين هذا وذاك يبدو نموذج الدولة المدنية الديمقراطية بمضمونها الحقيقي غير حاضر على الخارطة الادراكية للنخب الحاكمة في العراق، اذ ان هذا النموذج يبدو اليوم مرفوضا من السنة الذين يشكون التهميش اكثر من الشيعة الذين ير�ة الذين يرون فيه ربما آلية مناسبة طالما ابقاهم في السلطة في ظل المناخ الطائفي العام السائد في العراق. فاذا سألت اي سياسي سني عن سبب العصف والدمار الذي لحق بالعراق خلال السنوات الثماني الماضية لما تردد في الاشارة الى ان العزل السياسي الذي تعرض له السنة هو السبب مع ملاحظة ان ما يصنف عزلا سياسيا على الصعيد السني جاء عبر صناديق الاقتراع،وان كرسته في مرحلة لاحقة آليات التوافق السياسي التي عطلت كل شئ ولم تستطع بالمقابل ان تطمين مشاعر العزل في الشارع السني.
وكي نقترب اكثر من الخسائر الكارثية التي ترتبت حتى الان على الصراع المتعدد الوجوه بين شيعة السلطة وسنتها، الذي لم يدخر المنخرطون فيه وسيلة ايذاء الا واستخدموها من القتل الى الاعتقال والخطف التنكيل المادي والمعنوي،كي نقترب اكثر؛ نشير خسا�؛ نشير خسائر قطاع التنمية الوطنية الذي كان اكبر ضحايا هذا الجدل والصراع.
حيث اسفر كل ذلك عن ضياع فرص التنمية الواعدة التي توفرت بعد 2003 لاعمار العراق الذي مازال ملف بنائه يراح في مكانه على الرغم من مئات المليارات التي انفقت حتى الان ..واذا حسبنا الموازنات العامة للدولة خلال السنوات ( 2003-2011) سنجد ان مجموعها يتجاوز (368) مليار دولار في وقت قدرت المؤسسات الدولية الكبرى كلفة اعمار العراق بعد 2003 بـ (100) مليار دولار، فاين ذهبت هذه المليارات؟، ولماذا لم يبن العراق، ولم تسلح قواته الامنية حتى الان؟.
ليس من المبالغة او التبسيط في شئ القول ان الصراع الطائفي كان العامل الاكبر في صناعة هذا المشهد الكارثي بكل المعايير، الذي بات اكبر تحد يواجهه المستقبل العراقي الذي لايستطيع احد ان يتنبأ باتجاهاته المقبلة.
ما الحل اذا؟..هل سيتغير الشيعة ويتخلوا عن التمترس خلف قناعتهم بحكم العراق؟ ام ان السنة سيقبلون بدورهم الثانوي.
ان قراءة المشهد العراقي لا تشي باية اجابة واضحة ولا يمكن لاي مراقب ان يجد ضمانة بتحقق احد الامرين، فضلا عن استمرار غياب النموذج الديمقراطي المقبول من جميع الاطراف.
وامام كل ذلك يبدو السؤال مشروعا حول السبل التي يمكن من خلالها صرف اذهان الطرفين عن هذا الهاجس ودفعهم الى البناء والاعمار من اجل صناعة حياة عراقية افضل؟..الاجابة الوحيدة التي تبدو واقعية هي ان يتجه الشيعة الى حكم انفسهم، ويتجه السنة لحكم انفسهم حيث لم تفرز العملية السياسية حتى الان بديلا مقنعا لهذا الحل المؤلم عاطفيا، رغم قناعتنا ان اتجاه الطرفين لحكم نفسيهما لن تكون مهمة سهلة لكنها على الاقل تعد شروعا واقعيا نحو الحل.
ان التنازلات النسبية لن تحل المشكلة، وكذلك غلبة فئة لفئة اخرى باية وسيلة لن تكون تصنع الحل،ففرص التنمية التي ضاعت بسبب الثورة الكردية التي واكب�خ الدولة العراقية، مرشحة لان تتكرر بصورة ثورة سنية بثوب جديد سيسهم بتطريز الوانه كل من لا يريد للعراق ان ينهض،ويستعيد دوره الحيوي على الساحة الاقليمية والدولية، مع ملاحظة ان ثورة سنية بهذا الوصف ستكون اعمق اثرا في حاضر العراق ومستقبله لان السنة اكثر تداخلا وابلغ حضورا في الحياة العراقية.
بعد كل ذلك يبقى بديل واحد صعب لا تقل صعوبة عن صعوبة الكي وهو بناء دولة مدنية تداولية يؤمن الجميع بها ويقبل بمعطياتها، لكن بناء هذا النموذج يبدو في الظرف العراقي الراهن امرا عسيرا، لاسباب كثيرة اهمها ان قيام مثل هذه الدولة يتطلب قبولا شعبيا واتفاقا سياسيا على مضمونها وثقافة وطنية يمكنها فهم النموذج والركون اليه كاساس لبناء حكم مقبول ورشيد.
[email protected]