مصدرنا الأول في متابعة ما يجري والتعرف على الأخبار والأحداث محليا وعربيا وعالميا هوالتلفزيون والذي يجعلنا نتخذ مواقف منها، ونقبل او نرفض ما ينقله لنا … ولكن ما مدى مصداقية التلفزيون في قول الحقيقة، ما مدى نزاهته وموضوعيته، مثلا في متابعة ما يجري في الساحة العربية اليوم؟
إن تنوع “الخداع التلفزيوني” ومهارانه جعل الكثيرين يشكون بمصداقية ما يرون أمامهم على الشاشة، ان اكتشاف لعض المشاهدين للتحايل والخداع التلفزيوني جعل الكثيرين منهم يتملكهم الغضب ضد ما تعرضه بعض القنوات العربية، الى حد اتخاذ مواقف مناهضة لبعض الفضائيات وصلت إلى حد العداء منها، ومقاطعتها أحيانا، ويدور جدل علني الآن مفاده أن تلك الفضائيات لا تهتم إلا بتأكيد نهجها الانتقائي بالرغم من دفاع مسؤوليها بأنهم يتوخون الموضوعية والحياد وأنهم يحرصون على عرض الحقائق فقط. فهل يقول التلفزيون الحقيقة فعلا ؟
من المتفق عليه أن اللقطة السينمائية، والتلفزيونية، لا يمكن أن تكون دون وجهة نظر تعكس موقفا محددا لصانعها من الاحداث التي يراها. وإن اختيار مضمون اللقطة وفصل المادة المصورة عن محيطها لا يمكن أن يكونا حياديا مهما ادعى صانعوها.
وتتجسد وجهة نظر صانعي الأخبار والتقارير أيضا في كيفية اختيار اللقطات من المادة المصورة، وكيفية ترتيبها في سياق التقرير، وهنا، في عملية التوليف الخطيرة هذه (المونتاج) ينشأ هيكل التقرير مجسدا الرسالة التي يريد المخرج أو المحرر أن يوصلها إلى المشاهدين، وهو حتما غير حيادي ولا موضوعي، بل سيسعى إلى تركيب التقرير بالصورة التي تخدم أغراضه وأهدافه، وبذلك تتكون لدينا “حقيقة” افتراضية أرادها صانعوا العمل الإعلامي، وهذه “الحقيقة” الافتراضية قابلة للتزوير والخداع والغش الذي يمكن أن ينطلي على المشاهد.
وأود هنا أن أذكر مثالا تطبيقيا بسيطا يجسد مقولتي هذه!
لنفرض أن لدينا ثلاثة مشاهد مصورة في أماكن مختلفة في ثلاث مدن عربية :
* المشهد الأول؛ في أحد شوارع بغداد تمر شاحنة عسكرية تحمل جنودا عائدين من مهمة تدريب، أحد الجنود يلاحظ فتاة جميلة على شرفة، ينبه رفيقه الذي يرفع رأسه نحو الفتاة ويلوح ببندقيته متباهيا ممازحا، الشاحنة تصل إلى المكان المقصود، يترجل الجنود بسرعة.
* المشهد الثاني؛ في البصرة وقت صلاة الظهر، بعض الناس يغلقون دكاكينهم ويسرعون إلى الجامع، أحدهم يأتي فيرى صديقه البقال مازال في مكانه، فيحثه على الإسراع إلى الصلاة، فيغلق دكانه بسرعة ويهرول معه إلى الجامع.
* المشهد الثالث؛ في الحلة طفل يقف على البلكون ينتظر أباه، ينادي على أمه التي تأتي من الداخل فتشاهد الأب قادما، تحمل الطفل وتغلق باب البلكون بسرعة لتفتح الباب للأب، الذي يلاحظ أنها بملابس النوم فيدفعها إلى الداخل، وينظر وراءه وكأنه يقول سيراك الناس.
لنرى الآن كيف يمكن أن يركب التلفزيون هذه اللقطات العادية وكيف سيصنع منها حكاية تخالف الأحداث الأصلية ليعطي مقولة مخالفة للحقيقة:
السيناريو الافتراضي:
1- سيارة عسكرية مليئة بالجنود تمر في الشارع (من مشهد بغداد).
2- الناس يسارعون في إغلاق دكاكينهم والابتعاد خوفا من الجنود ( من مشهد االبصرة) وهم في الأصل متوجهون إلى الجامع.
3- الطفل ( من مشهد االحلة ) يرى الجنود في الشارع ( وهو في الأصل يرى والده) فينادي أمه التي تأتي وتنظر إلى الشارع.
4- الجندي يرفع البندقية نحوها مهددا (الذي كان يلوح بها أصلا مازحا البنت الحلوة)
5- الأم تأحذ الطفل وتسرع في إغلاق باب البلكون خوفا من العساكر (في الأصل لاستقبال الأب)
6- اللوري يتوقف ويترجل منه الجنود بأسلحتهم (في الأصل في ابغداد)
7- الأم تفتح الباب (في الحلة) لتتأكد، والأب يدفعها إلى الداخل وينظر خلفه!
8- الجنود يترجلون بسرعة
9- الأب يدفع الأم والطفل إلى الداخل بقلق ويغلق الباب
10 – الجنود يواصلون الترجل والإسراع مبتعدين عن الشاحنة
11- الرجل (في الحلة ) يسحب صديقه البقال وينبه إلى الجنود القادمين ( في الأصل ينبه إلى موعد الصلاة) الخ …
وهكذا نستطيع أن نبني بالتوليف المغرض قصة مرعبة تخدم مقولة معينة لا علاقة لها بحقيقة اللقطات، بتركيب تلك اللقطات ببراعة تنطلي على أذكي المتفرجين، كأن نقول إن العسكر والقوى الأمنية في العراق ترعب المواطنين الذين يعيشون تحت الارهاب والخوف من العسكر وان الجنود يجوبون الشوارع ويهددون الناس المذعورين …
وسيتبنى تلك القصة الافتراضية الكثير من المشاهدين وسيتحدثون عنها بقناعة، فقد شاهدوها بأعينهم ! إن مثل هذا التلاعب بالحقيقة كثيرا ما نراه الآن على الفضائيات، مما يثبت أن للتلفزيون أساليبه في قول الحقيقة أو تزويرها، وهو يعرض علينا “حقيقة” افتراضية يريدنا أن نصدق مغزاها ونغير معتقداتنا ومواقفنا وفق ما يعرضه التلفزيون …