تعاني الساحة السياسية العراقية حالياً من تشتت سياسي عميق، وتهيمن الحيرة على تفكير قادة التكتلات السياسية حول ما يخبئه المستقبل لهم بعد الفشل الذي صنعوه بأيديهم. الانتصارات التي حققها الجيش العراقي على الجماعات الإرهابية تُسجل للقيادة الهادئة والمتأنية لرئيس الوزراء حيدر العبادي. كما تعتبر إدارته الاقتصادية الحذرة واستمرار حكومته في دفع رواتب ومعاشات موظفي الدولة من دون تأخير، إنجازين آخرين له، على الرغم من أنهما تحققا بفعل الدعم الدولي، لكن الأخير ما كان ليتحقق لولا المرونة والحنكة اللتين أبداهما العبادي في تعامله معه.
لكن الطريق ليس معبداً بالورود أمام العبادي، فحزبه، “الدعوة الإسلامية”، وكتلته، “دولة القانون”، يعانيان من انقسام وتخبط شديدين. وعلى الرغم من أنه يشغل رئاسة الوزراء والتي تستدعي أن يكون قائداً للحزب والكتلة التي يحكم باسمها، فالأمور تسير في الاتجاه المعاكس، فنوري المالكي ما زال الأمين العام للحزب ورئيساً للكتلة، وهذا يقلص أهمية العبادي ويجعله يبدو ضعيفاً في نظر الناخبين على الرغم من إنجازاته المهمة. فإن أراد أن يحقق فوزاً في الانتخابات المقبلة، يبقيه في رئاسة الحكومة ويبقي حزبه في صدارة الحوادث، فإنه يحتاج إلى توحيد المواقف السياسية للحزب والكتلة كي يؤيداه بقوة. لكن هذا لا يبدو ممكناً مع إصرار المالكي على البقاء في الصدارة، ما يعني أن “دولة القانون” ستدخل الانتخابات مشتتة وقد تخسر التأييد الذي تتمتع به حالياً.
مكونات “التحالف الوطني” الأخرى تعاني أيضاً التشتت والتيه. “المجلس الأعلى الإسلامي “، مثلاً، لم يعد بالقوة التي كان عليها، وكثيرون يعتقدون أنه آيل إلى الانكماش أو الزوال لأنه أساساً لا يمثل تياراً سياسياً بل جماعة سياسية براغماتية تلتف حول عائلة الحكيم. فبعدما كان ملتزماً بولاية الفقيه عندما كان في إيران، غيّر اتجاهه بعد 2003 إلى “الالتزام بتوجيهات مرجعية السيد السيستاني”، لكنه في 2014، ولأغراض انتخابية بحتة، استحصل على تأييد المرجع بشير النجفي بثته وسائل إعلامه قبل الانتخابات بثلاثة أيام! وفي الوقت نفسه، ضمت قائمته مرشحين علمانيين لأجل كسب الأصوات من كل التوجهات. وبعد رحيل مؤسسي المجلس، الشقيقين محمد باقر وعبدالعزيز الحكيم، لم يكن بمقدور الشاب عمار، الذي تولى الزعامة خلفاً لوالده عبدالعزيز، أن يدير حزباً فيه شخصيات كانت منخرطة في العمل السياسي حتى قبل ولادته، كعادل عبد المهدي وباقر جبر الزبيدي وغيرهما. وإن كان هؤلاء قد قبلوا بزعامته على مضض، فإنهم لم يعودوا متحمسين للبقاء معه. الدعم الإيراني الذي مكّن “المجلس” من البقاء منذ تأسيسه عام 1983 لم يعد منساباً كالسابق، خصوصاً بعد انشقاق “منظمة بدر” عنه وانضمامها إلى “دولة القانون”، وهي التي كانت تمثل قوته الأساسية. أداء “المجلس” إدارياً لم يكن جيداً، فلم يحقق نجاحاً يذكر في المهمات التي تولاها أعضاؤه، بل هناك إخفاقات كثيرة في الحكومات المحلية والوزارات الاتحادية التي أداروها واتهامات لهم بالفساد. استيلاء “المجلس” على العديد من عقارات الدولة في بغداد والنجف ومحافظات أخرى أضر بسمعته على الرغم من أنه ليس الحزب الوحيد الذي فعل ذلك، فالأحزاب الأخرى كلها تقريباً تشغل عقارات تابعة للدولة بلا سند قانوني.
“حزب الفضيلة” هو الآخر آخذ في الانكماش منذ عشر سنوات، وقد تناقص نوابه من 15 في البرلمان الأول إلى ستة في البرلمان الثالث، ومن المتوقع أن يختفي من الساحة السياسية كونه متشدداً دينياً وطائفياً، إذ حاول عند توليه وزارة العدل سن قانون الأحوال الشخصية الجعفري وإنشاء محكمة شيعية، بالإضافة إلى فشله في إدراة المواقع التي تولاها وكونه لا يمثل تياراً سياسياً محدداً.
“تيار الإصلاح” بقيادة إبراهيم الجعفري، وإن كان قد توسع خلال فترة حكم المالكي، وحصل على ستة نواب ووزارة الخارجية، فإنه هو الآخر لا يمتلك مقومات البقاء لأنه لا يمثل تياراً سياسياً، بل جماعة صغيرة ملتفة حول زعامة سياسية.
التيار الصدري حافظ على شعبيته ولم يتأثر تمثيله البرلماني كثيراً منذ 2005، مع انحسار قليل بسبب انشقاق “عصائب أهل الحق” عنه. ويمتلك هذا التيار مقومات البقاء لأنه يسعى إلى تمثيل الفقراء الشيعة ولديه قدر من الصدقية في الشارع ويتميز بالانضباط والامتثال لتوجيهات زعيمه مقتدى الصدر الذي قرأ بدقة توجهات الشارع العراقي الغاضب، فانسحب من الحكومة فاسحاً المجال لوزراء مستقلين أن يملأوا الوزارات الشاغرة. كما أن خطابه يتجه نحو الاعتدال ومناهضة الطائفية، لكن موقفه المعادي لأميركا يخلق له مصاعب فائضة عن الحاجة.
الأحزاب العلمانية لم تتمكن حتى الآن من تقديم بديل مقنع للشارع العراقي المستاء من الأحزاب الدينية، وبعضها مستعد للتحالف مع قوى دينية وطائفية من أجل البقاء على الخارطة كما فعلت “جبهة الحوار” بقيادة صالح المطلك. “اتحاد القوى الوطنية” يزداد ضعفاً لأنه اختار أن يتكتل طائفياً في وقت تنحسر فيه الطائفية. أما “حزب الوفاق الوطني” بقيادة اياد علاوي، وعلى الرغم من كونه الحزب الوحيد العابر للطوائف والمناطق، فلم يقدم برنامجاً سياسياً واضحاً ولا قيادات شابة تتحرك ضمن نظام ديمقراطي شفاف تحكمه انتخابات دورية، بحيث يتمكن من استقطاب الجماهير واستثمار الفرص الكثيرة المتاحة. “التيار المدني” يمتلك شعبية واسعة لكنه يفتقر إلى التماسك والتنظيم والقيادة المعبرة عن جماهيره. النواب الثلاثة الذين فازوا باسمه لم يعودوا يتمتعون بتأييد جماهير “التيار المدني”، على وفق ناشطيه. الحزب الشيوعي لم يجدد نفسه على الرغم من تجديده قيادته. لم يعد هناك من يقتنع بخطاب الأحزاب الشيوعية عالمياً، فقد تجاوزها الزمن وكان على قيادته الإتيان بأفكار جديدة تلائم العصر كما فعلت الأحزاب الشيوعية في أوربا الشرقية.
الأحزاب والتيارات السياسية المتنفذة حالياً قلقة من المستقبل، ولها الحق في ذلك، فالاستياء الشعبي العارم من الفساد والاستهتار السياسي والتدهور الأمني والخدمي والاقتصادي سيقود حتماً إلى تغيير لمصلحة قوى جديدة عابرة للطوائف والمناطق. الأحزاب الحاكمة تحاول الالتفاف على التوجهات الشعبية عبر إنشاء أحزاب بديلة هدفها تضليل الناخب ودفعه للتصويت لها. لكن هذا التكتيك فشل في الانتخابات الماضية، إذ لم يصوت الناخبون لقوائم “جديدة” يدعمها أثرياء محسوبون على الأحزاب الحاكمة.
نقلا عن صحيفة التآخي