يحكى أن في أحد الأيام سطت مجموعة (حرامية) على بيت من بيوتات بغداد، وكان خاليا من أهله، وبعد أن وجه رئيسهم باقي الأفراد في أخذ ما خف حمله وغلا ثمنه، وأتموا عملهم (حسب الأصول) شرعوا برزم ماسرقوه استعدادا لترك الدار، وأثناء مرورهم بالمطبخ وهم خارجون، رآى رئيسهم صحنا فيه مسحوق أبيض، وبدافع الفضول مد سبابته وأخذ (لطعة) منه، ليتبين له بعد ان تذوقه أنه “ملح الطعام”، فما كان منه إلا أن يقول لأصحابه: (رجعوا المسروقات جميعها).. ففوجئوا بطلبه هذا وسألوه: (ليش عمي؟!) أجابهم: (صار بينا وبين أصحاب البيت ملح)..!.
هذا ما كان من السراق قديما، فأين منهم سراق اليوم في عراق الحضارات عراق الديمقراطية الفدرالي؟ ومن المؤكد أن السرقات كثيرة أنواعها، عديدة أشكالها، متعددة أحجامها. مالفت انتباهي ونحن في غرة شهر محرم، انشغال بعض السراق المشهود بسرقاتهم رسميا، بأداء طقوس هذا الشهر من طبخ ومواكب وخدمة زوار وقراءات ومناقب، بكل ماأوتوا من تمثيل وتصنع ورياء، وكأنهم يعلنون للمسروقين من العراقيين بملء أشداقهم؛ هذه حقوقكم وأموالكم سرقناها لنتفيأ بظلها فتقينا عيون الرقيب والحسيب، ونسوا طبعا أن الرقيب والحسيب لاتأخذه سنة ولانوم ولا غفلة. والغريب أن أغلبهم يدعي الزهد والعفة والأمانة (والشرف)، في حين أن أعمالهم المنكرة تشهد لهم تاريخا أسود في السرقات والرشاوى والتحايل والموبقات، بمايفند كل القيم والمثل والخصال الحميدة والرفيعة، لاسيما من له باع في الحكومة او الدولة وبتماس مع المال العام في دوائر الدولة ومؤسساتها، الأمر الذي يذكرني بسؤال وجواب دار بين اثنين، إذ سأل الأول:
مد يمنته بيمناي ومد يسرته تبوكـ
ماأدري زادي شبيه ماصخ بالحلوكـ
فأجابه صاحبه مستنكرا غفلته عن سبب ذلك:
ماتدري زادك ليش ماصخ بالحلوكـ
جي بكته من الناس ما جبته من سوك
لقد طفح الكيل بأغلب سراقنا بما كشف كل ألاعيبهم وبهلوانياتهم التي يخفون بها سرقاتهم، وصار لعبهم على المكشوف، دون مبالاة لنظرة المجتمع اليهم او لما يلوث سمعتهم، وأضحى ديدنهم الولوغ بالسرقات والبلوغ فيها حدا لايمت بصلة الى أي معنى من معاني الغيرة والشهامة المتوافر بعضها حتى عند قطاع الطرق و (المسلبجيه). لقد تحصن سراق العراق اليوم بأكثر من حصن وستر وغطاء، وتنوع التخفي خلفها على مستويات عليا في السلم الوظيفي للدولة، ويبدو أنهم (شدوا حيلهم) ليوم مثل هذا، فالمال المسروق استحال الى أملاك وعقارات انتشرت في دول عديدة، كما أن بنوك العديد من دول العالم صارت رهينة أرصدتهم وأسهمهم وسنداتهم المالية التي تضاهي ميزانيات أكثر من بلد مجتمعة، وقطعا أولى هذه الدول هي التي نطلق عليها الشقيقة، كالأردن والإمارات.
اليوم، لو أردنا المقارنة والمقاربة بين مبدأ رئيس الـ (حرامية) في حكايتي التي ذكرتها، وبين سراق الـ (عراق الجديد) لرأينا العجب العجاب في طرق سرقتهم المال العام والخاص، ماغلا ثمنه ومارخص، وماخف وزنه وماثقل، على حد سواء، والأمثلة على هذا لاتحصى في مقال او مقام مهما طال او عرض. فبدءًا من البطاقة التموينية ومفرداتها التي لايستقر بها قرار بين موظفي وزارة التجارة المسؤولين عنها، على الرغم من تغييرهم باستمرار بأوامر إدارية.. مرورا بالابتزازات المتفشية في موضوع التعيينات في مؤسسات البلد.. كذلك المشاريع الوهمية والمقاولات الفضائية التي لاتخلو منها المؤسسات التنفيذية على الأصعدة كافة وبالنشاطات جميعها.. وصولا الى السرقات التي طالت المساكين المغلوب على أمرهم، والمنكوبين من النازحين والمهجرين.. ولن يقف تعدادنا للسرقات عند رقم معين ولاينتهي بآخرها وأكبرها، وهي موازنة البلد التي انزلقت في بطون أشخاص مع انزلاق أسرار الاستيلاء عليها وانعدام حلول ألغاز استحواذها.
هذا غيض من فيض ماجرى في الأعوام الأخيرة المترعة بالفسادات بمراتبها، والسرقات بأصنافها على يد مسؤولين باختلاف مراكزهم ومناصبهم.. والتي تتناسب باطراد مع درجاتهم الوظيفية..