صارت المنطقة العربية أشبه برقعة الشطرنج، اللاعبان الرئيسان أوباما وبوتين والأنظمة العربية كأمراء الرقعة تحركهم المصالح الدولية بخفة يد دون أن يحسوا، والشعوب العربية بيادقا صامتة لا حول لها ولا قوة تظن بالدعاء يُدحر الأعداء، مع إنها أول من يضحى بها. التحرك الروسي الجديد في المنطقة حسبما يتصور البعض كفيل بإنهاء الأزمة في سوريا والعراق وربما لاحقا في اليمن ولبنان ودول الخليج، وراحت بعض الأبواق الجاهلة تطبل للرئيس بوتين معتبرة إنه من نسل آل البيت أو كأحد النصارى الذي قتل مع الحسين(النصراني وهب) في أمر لا صحة له بتانا، هؤلاء الحمقى هم أنفسهم الذين طبلوا من قبل لأوباما حسين وإعتبروه من شيعة علي لأن إسمه أبيه حسين، بهذه العقول التافهة كيف يمكن تفادي الوقوع في الهاوية؟
الغريب أن النظامين الشيعيين في إيران والعراق وملحقاتهما من حزب الله والحوثيين أيدوا التدخل الروسي وهلهلول للنجم الشيعي الجديد (آية الله بوتيني) بإعتباره يدعم الشرعية الحاكمة المتمثلة بالأسد، لكنهم وللعجب يعارضون إستقدام الرئيس اليمني لقوات التحالف العربي لإعادة الشرعية في اليمن! إزدواج عجيب يدل على جهل مدقع، وطائفية عمياء.
في حين ما يزال المسؤولون في واشنطن وباريس ولندن يضربون أخماسا في أسداس حول طبيعة وأهداف التدخل الروسي الجديد في سوريا، والشكوك حول النوايا الروسية في القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية. المواقف الأمريكية نفسها تثير الريبة! فقد صرح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري “إنه بناء على قرارات روسيا في المدى البعيد، فإن وجود الطائرات الروسية في سوريا ربما يثير بعض التساؤلات عن نوايا موسكو”. مؤكدا أن بلاده لم تتمكن بعد من كشف نوايا بوتين. وكرر كيري أن نويا روسيا في سوريا غير واضحة اكثر من مرة في حين ورفضت وزارة الدفاع الأمريكية التعليق خلال إفادة صحفية حين سئلت عن تقرير وكالة رويترز وقالت إنه لا يمكنها مناقشة أمور تتعلق بالمخابرات. لكن الوزارة قالت إنها ” على دراية كاملة بما يجري على الأرض في سوريا”، كلام متناقض يدل على تخبط واضح. مع ان الولايات المتحدة لم تتمكن من فك طلاسم التدخل الروسي، لكن التحالف الشيعي فك الرموز ورحب بالتدخل! إنهم حقا فطاحل في علم السياسة.
كما أن الولايات المتحدة ترحب من جهة بمشاركة الروس في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، ومن جهة أخرى تنتقد الروس لعدم تمييزهم ما بين المعارضة المعتدلة والمتطرفين. تشجع على محاربة داعش من جهة، وتُلزم العراق برفض أي تعامل مع الروس في الحرب على داعش من جهة أخرى! فقد ذكرت الأخبار بأن السفير الأمريكي في بغداد منع العبادي من الإستعانة بالقوات الروسية، وهذا بالطبع ما لم يفكر فيه العبادي والجعفري، عندما طالبا الروس بالمشاركة في الحرب على داعش، حيث يبدو إنهما لم يطلع على الإتفاقية الأمنية بين الطرفين التي تلزم الحكومة العراقية بعدم الإستعانة بأية قوات خارجية دون الرجوع إلى الولايات المتحدة، مع إنهما(العبادي والجعفري) كانا أعضاء في مجلس النواب الذي صادق على الإتفاقية الأمنية! لكن لا غرابة في بلد ضائع في متاهات الإجندات الخارجية لا يفقه حكامه أبجدية السياسة. لقد وضع العبادي نفسه بين طرفي الكماشة فالرجل تتلاعب به الأهواء ويلزم نفسه بما لا يقدر عليه ولا طاقة له بها. فهو الآن بين سندان الإرادة الأمريكية ومطرقة حزب الدعوة الذي يرحب بالتدخل الروسي ويضغط على العبادي، كما
يبدو ان العبادي لا منفذ أمامه سوى الإستقالة وفسح المجال لمن تقرره إرادتي الشيطان الأكبر والشيطان المعمم.
المعلن عنه عبر التصريحات الإعلامية في عالم السياسة غالبا لا تكون له علاقة بالأهداف السرية، وما يروج حاليا بشأن التدخل الروسي ومنافعه تفنده الكثير من الحقائق على الأرض، روسيا بوتين هي التي أرخت أيديها تجاه العناصر الإرهابية التي توافدت من جمهورات الإتحاد الروسي الى تنظيم الدولة الإسلامية، وقد وجدت لاحقا إنه من الأجدى لها أن تحاربهم على أرض العراق وسوريا بدلا من أرضها، كما أن هناك خطورة في عودتهم لروسيا لذا فأن أفضل الطرق هو سد الباب بوجههم عبر قتالهم في أرض المعركة.
وهناك أسباب كثيرة تقف وراء التدخل الروسي من بينها، تحويل الأنظار من اوكرانيا الى سوريا علما أن كلا من بريطانيا والولايات المتحدة حتى هذه اللحظة ترفضان اتفاقية مينسك التي وقعت في فبراير2015 واعتبرها الطرفان حينذاك قصيرة الأمد. ولا تزال أوكرانيا من أبرز المشاكل الروسية التي قوضت إقتصادها بسبب الحصار الإقتصادي المفروض عليها من قبل الولايات المتحدة وأوربا الغربية.
ولا ننسى إن حلم الروس الأبدي كان في الوصول الى المياه الدافئة وأيجاد موطيء قدم لهم في دول الحوض المتوسط كند للولايات المتحدة وأوربا، اللذان وسعا ومن وجودهما وقواعدهما العسكرية ومنظوماتهما الصاروخية في تركيا وقبرص. وهذا ما عبر عنه الكاتب والمحلل السياسي الروسي (اندريه ستيبانوف) بأن”روسيا تحاول المحافظة على مصالحها السياسية في هذه المنطقة والشرق الأوسط”. الأمر الذي يضاعف من مخاوف الغرب وحلفائهم بالمنطقة سيما تركيا، فقد ذكر ( ينس ستولتنبرج) أمين عام الناتو بقوله” الحلف يقيم بشكل ثابت ما يجب القيام به لحماية الحدود التركية وأن الناتو يعزز القوات التي يمكن نشرها في تركيا إذا لزم الأمر”. وحول مدى استعداد الناتو لتوسيع مهمته على ضوء القصف الصاروخي الروسي الأخير، أكد ستولتنبرج إن “الناتو قادر وجاهز للدفاع عن جميع حلفائه بمن فيهم تركيا”. كما ذكر المتحدث باسم الخارجية التركية (تانغو بلغيتش) أن” تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي تواصل المحادثات مع الحلف وشركاء آخرين بشأن تعزيز قدراتها الدفاعية التي تتضمن أنظمة صواريخ باتريوت”. كما إن الجانب التركي يخشى من تدفق جديد للاجئين السوريين للبلاد التي تستضيف مليونين منهم.
أما غير العارفين بدهاليز السياسة ممن يظن ان الروس أتوا لأنقاذ الشعب السوري وهم يضحون بجنودهم وأموالهم رغم الضائقة المالية التي يعيشها الشعب الروسي والحصار الإقتصادي الذي تفرضه الولايات المتحدة وأوربا الغربية وهم يضحون بشبابهم من أجل عيون الشعب السوري والعراقي. فأن هناك مجموعة من الحقائق لابد من التذكير بها عسى أن تنفع الذكرى:
1. أن تنظيم الدولة الإسلامية أصلا لا يشكل خطرا على الروس، ولم تخرج تصريحات من قبل قادة التنظيم تهدد بلاد العم بوتين.
2. ثانيا ان التنظيم يقاتل الأمريكان، والامريكان أعداء للروس كما يفترض، اي التنظيم بالنتيجة في صف روسيا إنطلاقا من القول عدو عدوي هو صديقي.
3. تدعي روسيا بأن من أهدافها المحافظة على الأقليات الدينية والعرقية في سوريا، ولكن أين كانت هي منذ بدأ الأزمة السورية؟ ولماذا لا تتخذ نفس الموقف مع الأقليات المضطهدة في العراق وإيران أسوة بالأقليات السورية. بل على العكس من ذلك فهي تدعم النظامين القمعيين في العراق وإيران.
4. التدخل الروسي سيفاقم المشكلة الطائفية لا أن يحلٌها، لأنه سيعزز ويدعم العلويين دون بقية الأقليات، وهذا من شأنه أن يؤجج نار الفتنة الطائفية ويرفع درجة حرارة القتال لا أن يهدأها.
5. الواقع الحربي يقول شيئا مخالفا، فقد فشلت آلاف الغارات الامريكية في القضاء على التنظيم فهل ستتمكن الغارات الروسية من القضاء عليه؟ ذكرت صحيفة (وول ستريت جورنال) بأن عدد غارات
التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة بلغ (1849) غارة لغاية 30/9/2014 والولايات المتحدة على لسان مسؤوليها تعترف بفشلها. كما ان الرئيس الروسي وأتباعه أشاروا بأن التدخل الروسي في سوريا محدود ولفترة محددة، بمعنى ان الفشل سيكون أيضا مصيره.
6. تشير المعلومات العسكرية بأن صرفيات الولايات المتحدة في حربها على التنظيم تبلغ حوالي مليار كل أربعة أشهر، وتبلع تكلفة العمليات العسكرية يوميا ما لايقل عن (8) مليون دولار، أي حوالي(330000) ألف دولار في الساعة. فهل يمكن للإقتصاد الروسي النحيل أن يتحمل هذه التكلفة الباهظة؟
7. ستتحول سوريا الى ساحة حرب عربية ـ عربية، وعربية ـ دولية، ودولية ـ دولية، فالأطراف العربية والغربية المناهضة للرئيس السوري لن تقف مكتوفة الأيدي أزراء التدخل الروسي، فقد أشار مصدر سعودي لشبكة (بي بي سي) بأن المملكة ستقدم أسلحة متطورة وعالية التقنية لفصائل الجيش الحر ناهيك عن المساعدات السرية لبقية الدول العربية والأجنبية. وتشير الأخبار بأن الولايات المتحدة أرسلت أسلحة وذخيرة متطورة للمعارضة السورية ، حسبما أعلنه الكولونيل (باتريك رايدر) المتحدث بإسم القوات الامريكية في الشرق الأوسط.
8. لا أحد يجهل الوضع الإقتصادي الصعب لروسيا في ظل الحصار الأمريكي الأوربي أولا. وإنخفاض أسعار النفط ثانيا. والنفقات العسكرية الباهضة في اوكرانيا ثالثا. ونفقات الحرب الجديدة في سوريا رابعا، مما يحدد من مطاولتها في الحرب.
9. قد تلجأ الولايات المتحدة وحلفائها الغربيون والعرب لوسائل فاعلة تُفشل التدخل الروسي من خلال:
أ. تعاون الولايات المتحدة والمملكة السعودية لإغراق السوق الدولية بالنفط وتخفيض أسعارة لحد أدنى يجعل الروس يعيشون كابوسا إقتصاديا جديدا.
ب. الضغط على تركيا لوقف إستيراد الغاز الروسي الذي يعتبر موردا ماليا مهما لروسيا، وتوفير مصادر بديلة.
ج. تشديد الحصار الإقتصادي على روسيا، وتجميد أموالها في البنوك الأمريكية والأوربية، ومحاربتها إقتصاديا بمنع الحلفاء من إستيراد منتوجاتها الصناعية والنفطية.
د. دعم القوى الأوكرانية المعارضة للوجود الروسي، وإشعال بؤر التوتر في الشيشان وغيرها.
هـ. توحيد قوى المعارضة السورية وتزويدها بأسلحة دفاعية وهجومية متطورة تمكنها من إفشال التدخل العسكري الروسي.
إننا نناقش الموضوع من زاوية الرفض الأمريكي والأوربي للتدخل الروسي في سوريا والعراق، وأن الولايات المتحدة سحبت أقدام الدب الروسي القطبي إلى المياه الحارة التي لا تشكل بيئة مناسبة له. لكن الدوائر السياسية تغمز بأن هناك توافق بين الروس والأمريكان بشأن هذا التدخل، وذلك من خلال تقوية النظام السوري، وإرغام المعارضة السورية على الرضوخ للحل السياسي والجلوس أمام مائدة المفاوضات سواء بتقسيم سوريا أو بحلول أخرى، ربما ترضي الطرفين. على إعتباران الحل السياسي أفضل من الحل العسكري، لأن المشكلة أصلا سياسية.
بالطبع في عالم السياسة لا يمكن إستبعاد اي إحتمال، سيما أن هناك توافقات غير معلن عنها ولكن يمكن الإستدلال بها، على سبيل المثال.
1. إن إستمرار الأزمة تصب في النهاية لصالح الكيان الصهيوني. الطرفان متفقان على عدم سقوط الرئيس بشار الأسد كما تدل الوقائع على الأرض وهذا ما يريده الكيان الصهيوني. من جهة أخرى طمأن الرئيس بوتين نظيره الصهيوني بأن سيتم التنسيق بين الطرفين لتلافي الإصطدام.
2. يبدو ان الطرفين متفقان على تقسيم سوريا وإقامة دولة علوية برئاسة الأسد، وأخرى لقوى المعارضة، وهذا ما يتردد في الاوسلاط السياسية.
3. ربما تنظيم الدولة الإسلامية قد وحد جهود الطرفين وهذا ما عبر عنه المحلل الروسي (د. اندريه ستيبانوف) بقوله ” هناك مظاهر التعاون ومزيد من التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا بإجراء العمليات المنسقة ضد داعش والتطرف”. فقد أتفق النقيضان بأن الموقف الجديد هو أما مع داعش أو ضدها، وهي نفس الإسطوانة التي كررها الرئيس السابق بوش بشأن الإرهاب.
4. موافقة الولايات المتحدة على وجود موطأ قدم محدود للروس في المنطقة، مع إن الأمر يحزن الغرب لكن للضرورة أحكام، وهذا ما عبر عنه رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق فرانسوا فيون بقوله “يحزنني جدا أن فكرة إنشاء تحالف لتسوية الوضع في سوريا تنبثق من روسيا وليس فرنسا أو الاتحاد الأوروبي”. كما أشار الكاتب والمحلل السياسي (اندريه ستيبانوف) بأن” روسيا تحاول المحافظة على مصالحها السياسية في هذه المنطقة والشرق الأوسط”. مع هذا قوادم الأيام ستجلي الموقف ويبدو أوضح للعيان، أما الأحزاب الشيعية التي تسابقت في الإعلان عن تأييدها للتدخل الروسي فإنها كشفت للجميع عن شدة حماقتها، في السياسة على أقل تقدير.