23 ديسمبر، 2024 9:07 م

هل يستحق العراق ان يكون في ذيل قائمة مؤشرات الفساد في العالم ؟

هل يستحق العراق ان يكون في ذيل قائمة مؤشرات الفساد في العالم ؟

الفساد ظاهرة إنسانية تحكمها قوانين الإنسان فردا ومجتمعا , وأن ما يقابل هذه الظاهرة هو الصلاح والإصلاح وأن حركة التضاد الموجودة بين هاتين الظاهرتين هي من العوامل التي تحكم مسيرة الأنسان على الأرض. تعاني المجتمعات من ظاهرة الفساد بسبب غيبة الرؤية وتداخل القضايا بل وازدواج النظرة أحيانا , بالاضافة الى الثقافة المجتمعية فالمناخ العام في كل مجتمع هو الذي يحدد درجة تقبله للفساد من عدمه ويطرح أيضا أسلوب مواجهته سواء تم ذلك بالطرق القانونية أو الجهود الثقافية .
ولو تتبعنا تطور موقع العراق على مؤشرات الفساد للاعوام 2004-2012 نرى ان العراق قد صنف عام 2004 بالمرتبة 129 من بين 145 دولة وفي عام 2005 صنف في المرتبة 137 وفي عام 2006 بالمرتبة 160 من بين 163 دولة تضمنها المؤشر وفي عام 2007 جاء العراق في المرتبة الثالثة بين الدول الاكثر فسادا ليهبط الى المرتبة الثانية عام 2008 مصنفا في المرتبة 179 على المؤشر واستمر في نفس الموضع عام 2009 و عام 2010 وليصبح في المرتبة 175 من بين 176 دولة عام 2011 وفي عام 2012 أصدرت منظمة الشفافية الدولية تقريرها السنوي لمؤشر مدركات الفساد لعام 2012 تضمن الجدول المرفق به (176) دولة كان ترتيب العراق فيه (169)
وبالرغم من ان تقارير منظمة الشفافية الدولية لا تعتبر حكما على مستويات الفساد في القطاع العام ولكن يبقى لتلك المؤشرات اثار مدمرة على سمعة العراق الدولية وعامل معطل في استجلاب الاستثمارات والنهوض بالاقتصاد لذلك فان هذا الموضوع بحاجة الى تفحص دقيق للتوصل الى اجابة عن التسأول الذي يطرح نفسه بقوة هل يستحق العراق ان يكون في مقدمة الدول الاكثر فسادا في العالم ؟  وهل بالفعل ان واقع الفساد في العراق هو الاسوء في المنطقة على اقل مستوى ؟
في البداية يجب ان نعترف بان مستويات الفساد المالي والاداري في العراق قد وصلت الى مراحل لايمكن السكوت عليها واصبحت ظاهرة تهدد اساس بناء الدولة العراقية وان كافة الجهود المعلنة لمكافحة تلك الافة التي تنخر في اساس البناء العراقي اثبتت محدودية تاثيرها مما يستدعي اعادة النظر في تلك الجهود والاليات المتبعة من اجل اعادة الثقة بين المواطن والجهات الحكومية بعيدا عن المزايدات السياسية التي بدات تستخدم هذا الملف لدعايات واغراض سياسية وانتخابية ولعل اول الخطوات هو ان نعترف بان ظاهرة الفساد الاداري والمالي ليست وليدة 2003 او مابعدها وان كانت التغيرات التي طرات على الواقع السياسي وسهولة تداول المعلومات قد  دفعت بهذه الظاهرة الى البروز نتيجة للانفتاح العالمي والتكنولوجي .
فلو بحثنا في نشأة الفساد في دولة العراق الحديثة التي تأسست عام 1921 لجائنا عبر الزمن صدى صوت الشاعر والمفكر العراقي معروف الرصافي في كتابة “الرسالة العراقية ” متصديا لظاهرة الفساد بقوله ” وكانت الرشوة فاشية ، فكان الصعلوك اذا تسنم منصبا فلا تمر عليه أيام الا وقد أصبح من أهل الثراء . وكانت الأمور لا توسّد الى أهلها ، فلا الكفاية ولا المقدرة ولا الاستقامة ولا الصدق والأمانة ..انما توسّد بأحد عوامل ثلاثة ” المنسوبية ” و” المحسوبية ” و ” الرشوة ” . ولا استطيع ان اتصور حكومة تفشى فيها الارتشاء والاختلاس اكثر من حكومة العراق” ولعل اكبر القضايا الجنائية التي شهدتها سوح القضاء العراقي عام 1948 والمتعلقة بقضايا فساد مالي هي القضية المعروفة بقضية (عدس) والتي اتهم بها التاجر اليهودي (عدس) بتوريد اسلحة فاسدة للجيش العراقي اثناء الحرب بين العرب والكيان الصهيوني
ومع دخول العراق مرحلة الازدهار الاقتصادي بدات بوادر الفساد الاداري تبرز على الساحة وترددت اتهامات الفساد في بعض مشاريع مجلس الاعمار .

ومع انقلاب عام 1958 واستفحال ظاهرة اعطاء المناصب الحكومية لمن لا يستحقها من غير ذوي الكفأة تفاقمت ظاهرة الفساد الاداري مع ازدياد عائدات النفط الى ان وصلت الحال بحزب البعث ان يصدر قرارا له قوة القانون عام 1976 يستقطع بموجبه 5% من كامل ايرادات العراق لتوضع في حسابات خارج العراق لا يتصرف بها ولايعلم بها سوى صدام حسين يتصرف بها بدون رقيب او حسيب . واستمر تفاقم تلك الظاهرة في المجتمع العراقي بعد عام 1980 نتيجة للانهاك الذي اصاب الاسرة العراقية مع الحروب العبثية والمغامرات الطائشة . ومن المفارقات التي حصلت في العراق خصوصا بعد عام 1990 ان النظام كان يظهر على شاشات التلفاز والصفحات الصحف اليومية اطفال العراق وهم يبكون من قلة الزاد وفقدان الدواء نتيجة للحصار الذي فرض على العراق في نفس الوقت الذي يظهر احتفالات اعياد الميلاد ليتنافس صناع الحلويات في صناعة اكبر كعكات الميلاد للقائد! .

بعد عام 2003 لم ينجح من تولوا المسؤولية في خلق نموذج يمكن ان يعيد الثقة بين الشعب والحكومة فقد توزعوا الغنائم فيما بينهم محاولين التعتيم على رواتبهم وامتيازاتهم تاركين المواطن البسيط في موضع حيرة بين فرحته بالتخلص من الدكتاتورية وخيبة امله وهو يشاهد من كانوا يعيشون على رواتب الرعاية الاجتماعية في المنافي وهم يمتلكون القصور والفنادق والمولات في دول المهجر التي جاؤا منها دون ان يكلفوا انفسهم حتى ان يستثمروا تلك الاموال في العراق مما خلق شعور بالحيف لدى المواطن البسيط الذي عانى الامرين من طحين الحصة ايام الحصار نتيجة للفرق الشاسع الذي لمسه مابين الرواتب البسيطة التي يحصل عليها والامتيازات التي لا يعرفها على وجه الدقة ولكن يشعر بضخامتها نتيجة لمايراه من التغير في الحالة المادية للمسؤولين الذين يعمل معهم فلم تعد الوظيفة العامة تكليف لاتشريف كما كان يقال بل اصبحت طريقة للنهب والاستيلاء على المال العام .

 بعد هذا الاستعراض نعود الى سؤالنا الاول هل يستحق العراق ان يكون في ذيل قائمة مؤشرات الفساد في العالم ؟ لو استعرضنا الاوضاع في العالم واخذنا عينات من الدول المحيطة بنا نرى ان وجود العراق في هذا الموقع فيه غمط لكثير من الجهود التي بذلت وتبذل في مجال مكافحة الفساد الاداري ففي العراق هناك هيئة للنزاهة وهناك قانون لمكافحة الفساد الاداري وهناك ديوان للرقابة المالية وهناك دوائر للمفتشين العموميين وهناك قضاء  وجميعها تعمل بإصرار وجدية على مكافحة الفساد ومحاربته في جميع اوجهه ومن بينها تقليص فرصة والوسائل المؤدية اليه والعراق يمتلك منظمات مجتمع مدني رصينة قادرة على ان تؤدي دورا كبيرا في محاربة الفساد الاداري والمالي ان تم منحها الفرصة لذلك . اذن لماذا وضعت منظمة الشفافية الدولية العراق في ذلك الموقع المتاخر ؟ اعتقد الجواب يمكن استخلاصة من تصريح المدير التنفيذي لمنظمة الشفافية الدولية ديفيد نوسبوم  والذي تحدث عن النتائج قائلا ( هذه النتائج تشير الى ان الفساد في العراق متفاقم وهذا ليس فقط عائد لانهيار الامن كما يروج له بل ايضا للمعايير المزدوجه في المراقبة والتوازنات وتطبيق القانون وعمل المؤسسات الرسمية ) . لو نظرنا الى هذا التصريح بعيدا عن نظرية المؤامرة وان المنظمة تاخذ معلوماتها من مصادر غير موثوقة والحجج التي تتردد دائما كلما ورد تقرير سلبي من احدى المنظمات الدولية لوجدنا انه يضع اصبعه على الجرح وحدد المشكلة في المعايير المزدوجة في المراقبة ، التوازنات السياسية , تطبيق القانون و عمل المؤسسات الرسمية المسؤولة عن مكافحة الفساد الاداري والمالي .

 مما يؤسف له ان المنظمات المسؤولة عن مكافحة الفساد الاداري والمالي في العراق قد فشلت في بناء جسر من التعامل الشفاف مع المنظمات الدولية ومن ضمنها منظمة الشفافية الدولية من اجل ان تزيد من مصداقيتها امام تلك المنظمات من اجل ايقاف سيل المعلومات التي قد لاتكون دقيقة وا مجتزأة ولكنها في نفس الوقت الوحيدة المتوفرة امام المنظمة فاسلوب طمس المعلومات ومحاولة اخفائها او محاولة الالتفاف على المعلومة هو اسلوب غير ناجح في التعامل مع منظمات محترفة ولديها قدرات تمكنها من الوصول الى الحقيقة ولكنها الحقيقة التي قد تحمل وجهة نظر غير صديقة فعلى سبيل المثال ان تغيير اربعة رؤساء لهيئة النزاهة خلال فترة ستة اعوام وبقرارات صادرة عن السلطة التنفيذية مهما كانت الاسباب  لا يمكن ان يكون من وسائل خلق المصداقية امام المنظمات الدولية والذي كان من الممكن تداركه لو ان هناك قناة مباشرة للحديث مع تلك المنظمات تتحدث معها بلغة القانون والاحتراف بعيدا عن الشعارات والكلمات الطنانة التي قد تعطي صورة مغايرة عن ما اريد ايصاله من رسالة .

 نخلص مما تقدم انه بالرغم من وجود مشكلة فساد مالي واداري خطيرة يعاني منها العراق الا ان بامكاننا ان نحسن من ترتيب العراق على قائمة مؤشرات الفساد في العالم عن طريق التعامل المحترف والجاد مع اليات عمل منظمة الشفافية الدولية لبناء الثقة مرة ثانية بهيكل دولة العراق الحديث واعادته الى صفوف المجتمع الدولي ليحتل الموقع الذي يستحقه .