كان حكام العراق الجديد (الديمقراطي) قد وعدونا، وهم في المعارضة، أيام مقاهي لندن وعمان ودمشق وطهران، بأن يكونوا أفضل من صدام حسين.
صدقنا تلك الوعود، وقلنا: نعم يستطيعون، إذا تمكنوا من تشغيل ضمائرهم الوطنية، ونظفوها من نوازع العصبية الطائفية والميول الدفينة المتعطشة إلى الانتقام من الفقر والضعف والفاقة، ولم يحولوا الدولة الى مزرعة للأتباع والمريدين. رغم معرفتنا بأن بعضهم لن ينعدل.
ولكن الذي جرى ويجري في العراق الجديد (الديمقراطي) خيبة أمل وندامة. فصدام حسين كان واحدا. ولأن بقاءه في السلطة كان الشيء الوحيد الذي يقيس به الأمور والأشخاص والدول والمصالح والمعادلات، فلم يكن طائفيا ولا عنصريا، بل كان صداميا منقطع النظير. من يخدش عرشه، من أية ملة وأي مذهب أو دين، يندم، ومن يخدمه يفوز فوزا عظيما.
أما أصدقاؤنا، حكام اليوم، فمئة صدام، وخلف كل صدامٍ منهم مئات من عدي وقصي، وعشرات الهيئات والمنظمات والجمعيات والمليشيات، لا يبطشون بمعارضيهم، وحدهم، بل بالموالين أيضا، وبأبناء الطائفة والحزب والقبيلة. الكبير يغدر بالكبير، والكبير بالصغير، والصغير بالصغير. معمعة وجلجلة ومذابح لا تنتهي، سمكٌ يأكل بعضه.
فقد ساحت الأمور على بعضها، واختلط الحابل بالنابل، وتم طرد العاقل العادل الأمين، وأصبح الجاهل قائد التربية والتعليم، والحرامي حارس أموال الوطن، والشلاتي قائدا عسكريا، حتى وإن لم يخدم ساعة واحدة في الجيش.
وبرغم كل حملات التلميع الباهرة التي رافقت الإعلان عن عهد (التغيير) الجديد، بعد ثماني سنوات عجاف من حكم نوري المالكي، فلا أحد رأى ولا أحد سمع أن رأسا كبيرا واحدا تم سوقه لعدالة، فقط موظفون صغار يحالون على التقاعد، أو يحاكمون ويسجنون، لأنهم صغار. أما الكبار فلأنهم كبار فلا يحاسبهم أحد، يتسامرون ويمرحون ويبيعون ويشترون مع الكبار.
في الدول الحقيقية التي تحترم أهلها ونفسها جرت العادة على أن تُعطى الحقائب الوزارية لمن يناسبها ويستحقها بجدارة. فوزارة النفط، مثلا، تمنح لخبير فيه، له باتع طويل في شؤونه المحلية والإقليمية والدولية، وأعطى المكتبة مؤلفات عدة عن صناعة النفط أو تجارته.
وتعطى وزارة الصحة لأفضل الأطباء وأكثرهم كفاءة، والزراعة لأهم علماء الفلاحة والبيئة، والداخلية لشرطي قضى ثلاثة أرباع حياته في شؤون الأمن وهمومه، والخارجية لأفضل الناس لباقة وشياكة وديبلوماسية، وأكثرهم قدرة على صنع الأصدقاء بما قل ودل من كلام، وأعمقهم تضلعا في العلاقات الدولية والقانون الدولي وتاريخ الأمم وآدابها وفنونها وصناعاتها وأسرار عداواتها وصداقاتها وعقدها المتوارثة.
وفي دول من هذا النوع يكون أمرا اعتياديا أن يستدعي البرلمان رئيس وزراء أو وزيرا أو قائدا عسكريا متهما بانه اتخذ قرارا خاطئا ألحق ضررا بالدولة أو بمواطنيها،أو اختلس، أو اعتدى
على أحد، فيكرم إذا كان بريئا، ويعاقب بالسجن أو الغرامة أو بكليهما، أو على الأقل بالاستقالة، إن ثبت عليه الجرم.
وعادةً أيضا ما يُهرع المسؤول، مهما كان موقعه ومقامه، حين يطلبه البرلمان ليدافع عن نفسه، فيُكرَم أو يهان، بلا تفاهمات ولا صفقات وراء الكواليس بين رؤساء الأحزاب والكتل النيابية، فلا يعرف المواطنون، خارج البرلمان، شيئا من الحقيقة.
كل هذا يحدث حين تكون الدولة دولة، والرئيس رئيسا، والحكومة حكومة، والبرلمان برلمانا، بحق.
أما عندنا فلا يتوقف الحديث الرسمي الحكومي والبرلماني، علنا، ودون حياء، وعلى شاشات التلفزيون، عن مليارات مسروقة، وعن آلاف الموظفين الفضائيين، وعن رشوة أو استغلال وظيفة، او استحواذ على أرض حكومية بقوة السلاح، أو شراء مبنى حكومي دون مزايدة علنية وبسعر مغشوش، أو تنفيع أحد الأقارب أو المعارف أو المحازبين.
ولا تُرفع عن أحد من الكبار حصانة، ولم يطلب أحد من الكبار لمواجهة برلمان أو قضاء لتقول فيه العدالة كلمتها، بعد محاكمة شفافة ونزيهة وعادلة.
وفي زمن رئيس جهوريتنا المعصوم، وفي عهد زعيم التغيير حيدر العبادي، يُكرَم المشكوك بأمانته ونزاهته وذمته، فيُعين نائبا أول لرئيس البلاد والعباد.
وعندنا، يغادر الوطن، علنا ومن مطار العاصمة، ويودع بمراسم توديع مهيبة في صالة الــ VIB مسؤول كبير مطلوب للعدالة.
وعندنا، أيضا، يلحس القضاء أحكاما أصدرها سابقا، هو نفسُه، على نائب بأكثر من جريمة.
وعندنا لا يعود الحرامي المعفو عنه إلى الوطن مكسور العين فيستر نفسه في منزله خائفا أو خجلا من جرائمه وفضائحه السابقة، بل تعيد إليه الجهات العليا الاعتبار، وتُقحمه إقحاما على البرلمان، نائبا محصنا من كل مساءلة، حتى بعد أن ترشح وفشل في الحصول على أصوات تمنحه النيابة والحصانة.
ليس هذا فقط ،بل يتصدر هذا الحرامي المعفو عنه شاشات الفضائيات مدافعا عن النزاهة والشرف والوطنية، وباكيا بحرقة على المال العام، وشاكيا من مسؤولين كبار خانوا الأمانة، واستغلوا الوظيفة، وتلاعبوا بالمشتريات.
وفوق كل ما تقدم يُضم هذا الحرامي المعفو عنه، بأمر من رئيس برلمان التغيير، إلى لجنة النزاهة. فهل هناك نزاهة أكثر من هذه النزاهة؟
***
حاولت كثيرا وجاهدا أن أمنع قلمي عن الكتابة الجارحة عن مضحكات وطني المبكيات، تقديرا لظروف مأزقه مع داعش، واحتراما لفضيحة إفلاسه المعيب، فلم أستطع ولن أستطيع. أما أحلامي بعودة الوطن إلى أهله، وعودة أهله إليه، فأحلام عصافير. هل يدخل إبليسٌ جنة؟؟!