تركيا والقضية الكُردية و إسرائيل
تحتمي تركيا اليوم بإسرائيل من خطر بات قاب قوسين أو أدنى من تركيا، بسبب عقابيل الحرب الروسية الأوكرانية التي لم تتمخض بعدُ نتائجها لتظهر للعلن، وبسبب أمور أخرى كثيرة داخلية وخارجية مزمنة. لكن عقابيل الحرب الروسية الأوكرانية، ستصيب تركيا بالمصاب الذي أسقط دولا كثيرة في التأريخ المعاصر، وما علينا سوى إنتظار النتائج. دأب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان العمل على الرأي العام الإسلامي المضاد لإسرائيل في التعامل مع “إخوانه الكُرد” الذين تم هضم حقوقهم كاملة في تركيا منذ أكثر من قرن، في حالة شاذة، لا مثيل لها في المنطقة والعالم. فتركيا مازالت تنكر وجود شئ إسمه كُردستان، بل وهناك إنكار واضح للهوية الكُردية، وما زالت إجراءات هذا الإنكار سارية في تركيا على المستوى الرسمي والشعبي أيضا. وهذا الإنكار شئ مؤسف، لأن ما يربط الشعب التركي بالشعب الكُردي من وشائج القربى وعرى العلاقات الدينية والثقافية والتأريخية، أعز من أي إنحدار نحو العداوة والأحقاد. منذ عام 1991، لا شغل لطائرات ومدافع تركيا سوى قصف وإبادة سكان القرى في إقليم كُردستان، دون رادع من إيمان أو ضمير إنساني. وكل ذلك يجري بإسم محاربة حزب العمال الكُردستاني. ومنذ تكوين إقليم كُردستان المعترف به رسميا من قبل العراق، لم تستكن تركيا يوما ولم يقر لها قرار. فكلما عبّر الشعب الكُردي عن نفسه بكلمة أو فعل من أجل حقوقهم، قامت تركيا تنكر الهوية الكُردية، وتكرر وتعيد شعار الأخوة الإسلامية ونبذ التعصب القومي والعرقي، مع أن تركيا تكاد تكون الدولة الوحيدة التي مازالت تتأسس على عنصرية عرقية واضحة.
لم تنس تركيا في أمس قريب أن تذكر المسلمين في بقاع الأرض، أن إسرائيل هي التي تقف خلف الشعب الكُردي، وما يُطرح من مفاهيم تتعلق بحقوق كُردستان كوطن والشعب الكُردي كقومية هضمت حقوقها. فحين أجرى إقليم كُردستان الإستفتاء في عام 2017، قام الرئيس أردوغان يتحدث عن علاقة إسرائيل بالكُرد، وأنها هي التي تقف وراء الإستفتاء وعملية دفع الشعب الكُردي ضد الدول والشعوب الإسلامية في المنطقة، مع أن هذا الإدعاء كان بعيدا جدا عن الواقع. ورافقت تصريحات الرئيس أردوغان، جعجعة إعلامية تركية، وإسلامية صاخبة لخليط من الجماعات والحركات الإسلامية والقومية، لإدانة إفصاح الكُرد عن أنفسهم من أجل حقوقهم. ومن المفارقات الغريبة أن أحد المواطنين في الإقليم كان يلّوح بعلم إسرائيل في مهرجان جماهيري كبير أثناء الإستفتاء، كتصرف شخصي، عرفاناً لموقف إسرائيل غير الرافض للإستفتاء، فقام الإعلام التركي يكبّر الصورة ويستدل بها على العلاقة بين إسرائيل والإستفتاء في إقليم كُردستان. لكن الرئيس أردوغان تجاوز قبل يومين هذا المواطن الكُردي، برفعه علم إسرائيل في أنقرة إلى جانب العلم التركي، في جميع الميادين والساحات التي وردها الرئيس الإسرائيلي. وكانت صورة العلم الإسرائيلي فوق الحصان التركي الأبيض شامخاً بيد الحرس الرئاسي الخاص للرئيس أردوغان.
العداوات البدائية في منطقتنا وتركيا نموذجا
قبل الربيع العربي بوقت طويل، وبعد الربيع العربي وحتى الآن، تقوم سياسات دول منطقتنا على لا عقلانية مفرطة، تتشكل جداولها من عرى العداوة البدائية، ومفردات التشنج والإنفعال القبلي الغابر الذي يصوره لنا عنترة بن شداد في قصائده. وتركيا هي الدولة التي تتأسس سياساتها وفق هذا النمط، مع أقنعة كثيرة تخفي زيفاً متراكماً. هذه الأقنعة تزود هواة العنتريات في منطقتنا بالكثير من النشوة، على غرار المسلسلات التركية الترفيهية. فعلى أقل تقدير، تعامل تركيا عشرات الملايين من الشعب الكُردي، داخل وخارج تركيا، على أساس إنكار وجود هويتهم وكينونتهم التي خلقها الله سبحانه بإرادته. وهي تستعمل جميع الأسلحة ضدهم، لتشويه سمعتهم والمضي في إنكار حقوقهم. فإذا استدعى الأمر الترويج لعمالة الكُرد لإسرائيل وأمريكا، لم تتردد تركيا للحظة في بث الإشاعات الإعلامية، بقذف أمة بالعمالة حتى لو كان الدليل مواطنا عاديا لوّح بعلم دولة ما. أما إذا تطلب الأمر ضرب الأبرياء الكُرد بالسلاح الأمريكي والروسي، وتدمير بيوتهم ومساجدهم، وإفقارهم وتحويلهم إلى مشردين، فلن تدخر تركيا جهداً في سبيل ذلك. وإمعانا في محاربة هويتهم، قامت تركيا أخير بوضع مادة اللغة الكُردية الإختيارية في إزاء مادة الدين، في المدارس. ومع أن ظاهر هذه المبادرة جميل، لكنه في الواقع يعكس مدى الخبث العنصري الذي يتململ في خلايا القومية التركية. فالحكومة التركية تضع التلاميذ الكُرد من الأطفال أمام إختيار إجباري بين أخذ مادة اللغة الكُردية أو مادة الدين، ولا يمكن إختيار كليهما معا. ومن هنا فإن الحكومة التركية تستغل تدين الشعب الكُردي وتضعهم أمام فاصلة غير مسبوقة، وهي وضعهم وجها لوجه أمام الدين و هويتهم القومية، على أن يختاروا واحدا من الإثنين، لتغرس في عقولهم أن هويتهم الكُردية معادية للدين الإسلامي! وهذا الفعل في الواقع يخدم الحركة الإلحادية المضادة للدين بين الشعب الكُردي، والتي تشجعها تركيا ومن ورائها الحركات الإسلامية التركية، لإظهار الشعب الكُردي بمظهر الإلحاد والكفر (راجع إن شئت مقال كاتب هذا المقال: لعبة الأتراك الإسلامية مع الشعب الكُردي).[1]
كما أن المنطقة تقبع بشكل عام تحت ثقل تراكم عدائي خاطئ بين مكوناتها المختلفة، أدّى إلى تشرذم وإنقسام أضعف الجميع، مما حدا بكل دولة أن تحتمي بالخارج من جيرانها، وعليه فإن كل دولة من دولنا خسرت المئات من المليارات من أموالٍ، كان من الممكن إقامة نهضة عظيمة بها لشعوب منطقتنا. وهذا الأمر معروف لدى الجميع لا حاجة لذكر تفاصيله. ما يهم هنا هو أن تركيا، حين أسقطت طائرة روسية في عام 2015، هددها الرئيس الروسي بشكل جدي، وفهم أردوغان موقف روسيا وشعر بالخوف الحقيقي، فهرع مسرعا يقدم إعتذاره الشديد، ثم زار موسكو يقدم إعتذاره وتعويضه، ودخل في إثرها في علاقة متينة مع موسكو، بعدما تخلى عنه أعضاء الناتو (الدول الأوروبية وأمريكا)، أثناء التصعيد الروسي مع تركيا في إثر سقوط الطائرة الروسية. لكن تركيا اليوم أصبحت أمام روسيا وجها لوجه في محاربة علنية.
حرب أوكرانيا والسياسات الخاطئة في منطقتنا
اليوم تقف تركيا في الجبهة الأوكرانية ضد روسيا. وتشهد تركيا أزمات إقتصادية ومالية جمة. حتى أن طوابير الناس في إنتظار الحصول على الزيت، بدأت تذكر الناس بما حصل في العراق وسوريا، أثناء الحصار الإقتصادي. إن مخاوف تركيا اليوم كبيرة، وهي تتشبث بأرداء إسرائيل، للحيلولة دون وقوع الكارثة الحقيقية في خضم ما ستفرزه حرب أوكرانيا من نتائج، قد تكون وخيمة على تركيا. فإذا توقفت الحرب ودخلت الأطراف المفاوضات، وتمت تسويات سياسية، فإن الضحية القادم والمرشح بقوة هو تركيا. وفي حال انتصر طرف وانهزم آخر، بغض النظر عمن هو المنتصر أو المنهزم، فإن الضحية القادم سيكون أيضا تركيا، لأسباب موضوعية وتأريخية. فالعالـَمان الغربي الأوروبي-الأمريكي (ذي الإرث الكاثوليكي-البروتستانتي-الإستعماري)، والروسي (الآرثوذوكسي-القيصري-السوفيتي)، لديهما عداوات وحسابات تأريخية كثيرة مع تركيا ذات الإرث الإسلامي العثماني. علماً إن تركيا محاطة بدول ذات أكثرية مسيحية آرثوذوكسية-شرقية مثل اليونان، أرمينيا، جورجيا، وكذلك دول لديها عداوات تأريخية مذهبية-سياسية مثل إيران والعراق (والآن سوريا وفق الحسابات الجيوسياسية). الجار الوحيد لتركيا الذي من الممكن أن يكون ظهيرا للأتراك، وحاميا لهم، هو الجار الكُردي. لكن تركيا منذ أكثر من قرن تصب جام غضبها وحقدها على هذا الجار، وتحاول بشتى الطرق إبادته ومحوه من الوجود، رغم أن الكُرد كانوا هم المسيطرين على الجيش العثماني ويقودونه، لقرون طويلة، في الذود عن منطقتنا، فضلاً عن هيمنة تامة لهم على القيادات العلمائية. فمعظم علماء الفقه والشريعة، في تأريخ الدولة العثمانية، خرجوا من بين أظهر الشعب الكُردي. لذلك، فإن من أولى المهمات التي قام بها أتاتورك هو القضاء على العشرات من الألوف من علماء الكُرد في مناطق كُردستان، قتلا ونفيا وتشريدا. ومن أبرز هؤلاء العلماء يأتي الشيخ سعيد بيران الذي أعدم في عام 1926، وبديع الزمان سعيد نورسي الذي قضى حياته كلها في التشريد والنفي والمعتقلات.
تركيا والحقد على الشعب الكُردي: التضحية بعموم السوريين من أجل القضاء على تطلعات الكُرد
منذ أكثر من ثلاثين عاما، فإن الشغل الشاغل لتركيا هو قصف المدنيين العزل في قرى وأرياف إقليم كُردستان، بحجة محاربة حزب العمال الكُردستاني الذي تستعمله تركيا كأداة لتحقيق مآرب سياسية متعددة. من هنا، فإن أبرز ظاهرة في السياسية التركية يكمن في الإزدواجية والتضليل الماكافيللي. وعليه، فإذا كانت تركيا ضللت في أمس قريب الرأي العام العربي-الإسلامي، بإبراز مواطن كُردي كان يرفع علما إسرائيليا صغيرا، في حشد جماهيري من عشرات الألوف، فهي اليوم ترفع علم إسرائيل على صهوة حصان أبيض وسط عاصمتها أنقرة، لأن المصلحة السياسية تقتضي ذلك وعلى المكشوف!
كما أن تركيا خدعت نفس الرأي العام العربي-الإسلامي أثناء الثورة السورية، حيث تظاهرت أنها تقف إلى جانب الثورة ضد النظام السوري، مع أنه في الواقع كانت تركيا تلعب لعبتها السياسية بالرغم من آلام الشعب السوري. ففي سوريا، كانت سياسة تركيا الأساس هي عدم قيام الفيدرالية الكُردية، للحيلولة دون نيل الكُرد الإعتراف الرسمي من قبل الدولة السورية. ثم كانت لتركيا أهداف أخرى سياسية وإقتصادية منها، لعب دور إقليمي من أجل مكاسب سياسية وإقتصادية عديدة، في مساومات مع دول الجوار والمنطقة كإيران ودول الخليج. وكذلك، عملت تركيا على إفراغ المنطقة الكُردية من سكانها الكُرد في سوريا، حيث ساهمت بقوة في تشريدهم إلى العراق وتركيا ودول الغرب. كما أن تركيا فتحت الحدود بوجه السوريين، ومعظمهم من العرب ومن أصحاب رؤوس الأموال والصناعات، فاستفادت تركيا منهم لدعم إقتصادها حيث نقل هؤلاء السورييون مصالحهم ومعاملهم إلى الداخل التركي. وحرصت تركيا على إسكان هؤلاء العرب في مناطق كُردستان بتركيا، من أجل ترسيخ عملية تغيير جغرافية السكان وخلق حساسيات بين الكُرد والعرب وتعميق الشرخ بينهم. فالدولة التركية منذ قرن تعمل على هدم القرى والأرياف الكُردية في كُردستان، وتهجير الناس إلى مدن تركيا الغربية، وهم مجردون من كل مال ودعم، لإجبارهم على الإنخراط في عبودية واضحة، وهي القبول بأخس الأعمال من أجل البقاء على قيد الحياة، إمعانا في كسر الشخصية الكُردية وتحطيمها. ومن هنا، نلاحظ أن تركيا استغلت الثورة السورية بنفعية شديدة لصالحها، متجاوزة كل المبادئ والمعاني التي تتعلق بالضمير والوجدان الإنساني ومبادئ الأخوة الإسلامية. ومن أجل القضاء على تطلعات الكُرد نحو حقوقهم الشرعية، ساهمت تركيا بقوة في القضاء على الثورة السورية وتمكين النظام السوري في عموم سوريا. وجاء تسليم حلب والمدن الأخرى السورية أثناء سيطرة الثوار عليها قبل أعوام كجزء من هذه الخطة التركية وهي عدم تبديل النظام السوري لكي لا تتحول سوريا إلى عراق آخر، فتقوم فيها فيدرالية كُردية تمهد لفيدرالية كُردية في تركيا.
فهل ستسعف إسرائيل تركيا إذا ما دخلت في أزمات خطيرة إقتصادية وسياسية، ومشاكل أخرى قد تتطور إلى حروب في المستقبل مع دول الجوار وأخرى أبعد منها؟ وهاجس تركيا من الخوف المتعاظم من الخطر الوشيك، هو الدافع وراء دنو الرئيس أردوغان من إسرائيل، والتشبث بالتطبيع معها. العنصرية القومية العرقية هي اللحمة الحقيقية لعرى المجتمع التركي، والإسلام فيها، ليس سوى ستار خفيف لإضفاء اللون القومي التركي للدولة والشعب. لكن هذا الداخل التركي في وقتنا الحاضر يمر بمرحلة شديدة التشرذم والإنقسام، لكنها لأسباب كثيرة لم تنفجر بعد، لتظهر على الساحة في نموذج شبيه بنماذج المجتمعات الشرقية كالعراق وسوريا وليبيا الخ. لكن لا وجود لضمانات لتركيا حتى وهي تتشبث بإسرائيل وغيرها، منذ أتاتورك وإلى أردوغان الذي هو بحق أراد الصواب من حيث أخطأ!
وعلى هامش ما يحدث، يدين الرئيس أردوغان ودولته التركية للشعب الكُردي وإقليم كُردستان بإعتذار رسمي، وتعويض محترم (مثلا الحصان الرئاسي الأبيض)، ليرفع الكُرد فوقه أعلامهم في المهرجانات، بشرط أن لا يرفعوا على صهوته علم إسرائيل!
[1] https://www.al-jazirah.com/2020/20201225/ar11.htm