عندما استمعت لحديث القاضي الفاضل (رحيم العكيلي) الذي افتقدته بسبب مرض العصر عدم التواصل، في ستوديو التاسعة، وتركيزه على حماية المال العام وبرؤية مهنية تحسب له كما عهدته، رجعت بعدها لنص المادة 27 من الدستور والتي تنص على ((أولاً: للأموال العامة حرمة، وحمايتها واجب على كل مواطن…)، وأقول:
الدولة هي المالك للمال العام نيابة عن الشعب، والقانون ينظم الأحكام القانونية الخاصة بحفظ الأموال العامة وحمايتها، والحماية القانونية المقررة للأموال العامة هي حماية قانونية خاصة تتناسب مع طبيعتها كونها مخصصة للنفع العام، وتتمثل هذه الحماية بمظهرين أساسيين، هما الحماية المدنية ويراد بها القواعد والأحكام التي تضمنها القانون المدني لحماية المال العام تحقيقاً للمنفعة العامة التي خصص لها، والحماية الجزائية فيراد بها، القواعد والأحكام القانونية التي تضمنها قانون العقوبات او القوانين ذات العلاقة، التي تجرم اي فعل او اعتداء يطال المال العام، وذلك لضمان استمرار المال العام في تحقيق المنفعة العامة.
قضايا الفساد في العراق دائما عبارة عن تصفية حسابات، وعبارة عن لعبة تتغير حسب الوقت وحسب الولاءات، لأنه لا وجود لعدالة مضبوطة وقوانين جارية ومفعلة في هذا المجال، والحكومة الحالية تغيب عنها الإرادة الحقيقية لمحاربة الفساد، ورئيس الحكومة الحالية لديه رزنامة كاملة بأسماء الفاسدين والسراق والمختلسين من اكبرهم الى اصغرهم كونه رئيس اللجنة المالية البرلمانية في الدورات السابقة ووزير سابق ويعرف مديات عصابات الفساد بدقة، لكن الإرادة الحقيقية لديه لا تتخطى رؤى الحزب الحاكم، والحزب الحاكم استباح ميزانية 2014 بدون قانون ورئيس الحكومة والبرلمان متفرج وخانع ولا يعمل شيء لان تقاسم الكعكة متساوي حسب ما صرحت به النائبة حنان الفتلاوي، الحكومة السابقة استباحت المخزون النقدي الاستراتيجي لدى البنك المركزي العراقي واقالت محافظه المهني صاحب الاختصاص الحصري المالي بعمل البنوك المركزية لأنه عارض ذلك؛ وتم تنصيب شخص ليس له أي اختصاص لا مالي ولا اقتصادي بعمل البنوك المركزية(معروف عمله خارج العراق)التي تتطلب ان يكون محافظها خبير بالأطر والسياقات المالية والنظم الاقتصادية ذات العلاقة؛ لان الموضوع يتعلق بمال عام، الذي يعد الرصيد الاستراتيجي للبلد، وقوته ومناعته امام أي هزة او نكسة مالية هو ان يكون هذا الرصيد او المخزون معافى، ورئيس الحكومة الدكتور العبادي ومعه الدولة العراقية لم تفعل شيء تجاه استباحة المخزون النقدي للعراق، الى ان اصبح العراق يعاني من ازمة مالية ستصل لمديات أسوء في السنتين القادمتين، ومع كل هذه الاستباحة وسقف الأرقام العالي للسرقات والاختلاسات وبالدولار والشعب ساكت خانع لا يعرف ما يجري وراء الستار وتحت الطاولة، وما نراه من الحكومة من قرارات وخطب جوفاء، هو فقط تهريج اعلامي.
لذلك فقضايا سرقة المال العام واختلاسه دائما ما يكون متورطا فيها مجموعة من الأشخاص والشخصيات على قدر مسؤولياتهم، ولا يمكن لسارق أن يسرق لوحده، ومن تم محاكمته كان انتقائيا، ومثل هذه الانتقائية لا يمكنها أن تحارب الفساد وتقضي عليه، يقدم شخص للمحكمة لأنه لم يعد مطيعا ضمن مجموعة لصوص ومفسدين آخرين، هؤلاء يشتغلون على شكل مافيات، فلا يعقل أن موظف في مؤسسة بنكية او مصرف او دائرة أو أي مؤسسة عمومية يمكنه أن يختلس لوحده، يجب أن يرضي رئيسه، ويرضي التابع له في سلم المسؤولية.
تشبه ملفات الفساد في العراق وبعض المحاكمات التي تتم بخصوصه إلى حد كبير سيناريوهات برنامج «الكاميره الخفية»، ذات الحبكة والإخراج المعروف مسبقا، فما إن يشد انتباه المشاهدين ويتركز ذهنهم على توقع القادم، حتى يبتسم الضيف ملوحا سعيدا.
بالعودة إلى الحكومة الحالية، كل ما قامت به وتقوم به في مجال محاربة الفساد والنظر في الملفات الكبرى، لا يتجاوز خطابات، رصيدها حتى الآن في محاربة الفساد لا شيء، كما لا توجد دلائل على عزم الحكومة على محاربة الفساد، وما نلحظه في قناة البغدادية من كشف لملفات الفساد، يشير ويؤكد ذلك.
أما على مستوى القوانين التي تنظم محاربة الفساد في العراق، فهي تظل قوانين مبتورة وغير كاملة لان هيئة النزاهة أصلا غير فعالة في محاربة الفاسدين والسراق الكبار، والقوانين تبدو للوهلة الأولى أنها قوانين براقة بفعل عناوينها، لكن على مستوى عمقها فهي قوانين فارغة ولا يمكنها أن تحارب الفساد والقضاء على المفسدين.
فهل يكون للمواطن دور في حماية المال العام في وقت عجزت الدولة العراقية عن حمايته نتيجة المجاملات السياسية في محاسبة السراق، واعتقاد بعض الموجودين في السلطة بأنهم أعلى من العراق والدستور والقانون والشعب العراقي؟
المال العام من أسباب قوة البلاد، فالواجب هو حراسة المال العام وصونه من الضياع أو إفساد المفسدين من العابثين.
ونظرا لدور سياسة الإفلات من العقاب، وغياب الديمقراطية الحقيقة، وضعف آليات الرقابة القضائية الإدارية،
فكل فرد بموجب نص المادة 27 من الدستور؛ سواء أكان مواطنا يحمل جنسية الدولة أم ً أجنبيا لا بد له ان يتأكد من مشروعية استعمال هذه الأموال، ووجود حماية فعّالة من شأنها أن تضمن حماية المال العام.
استنادا الى النص الدستوري المادة 27 يجد كل مواطن وكل منظمة مجتمع مدني ونقابة واتحاد سندا قانونيا للدفاع عن المال العام والمحافظة عليه ضد أي عملية هدر او اختلاس وبالاستناد الى هذا النص الدستوري؛ لا يقف الموضوع على كونه ميزة او حق يمنحها الدستور للأشخاص الطبيعية والمعنوية للحفاظ على المال العام بل يتجاوزه الى ان يكون واجبا ملزما على الجميع، ويستطيع النسيج المدني لمواجهة الفساد ونهب المال العام ومن ابرز اهداف النقابات والاتحادات وفي جميع انحاء العالم ضمانَ مصالح الشرائح التي تمثلها وتأمينها وليس هناك مصلحة لهذه الشرائح اكثر من حماية مالها العام الذي يتم هدره، واني ادعو نقابة المحامين العراقيين واتحاد الحقوقيين العراقيين لكونهما يمثلان رسالة العدل وملاذ المظلوم لدعوة الهيئة العامة واتخاذ قرارا بقيادة حملة حماية المال العام العراقي، والتزاما بنص الفقرة الاولى من المادة 27 من دستور جمهورية العراق، عليها إقامة دعوى في المحكمة الاتحادية العليا على الحكومة لأنها لم تقم بحماية المال العام واخذ الوصاية على المال العام من الحكومة؛ ولان المواطن معني بحماية هذا المال والمواطن بمفرده لا يمكنه إقامة الدعوى، كونه جزء من شعب والشعب عنصر من عناصر الدولة التي يجب ان تمثله وتعبر وتتصرف نيابة عنه والشعب لا يمتلك الشخصية المعنوية؛ لذا فنقابة المحامين واتحاد الحقوقيين والنقابات الأخرى معنية بإقامة هذه الدعوى نيابة عن الشعب، وان تعمل بجدية على تشكيل نسيج مدني لمواجهة الفساد ونهب المال العام ضمن إطار ديمقراطي من اجل استرجاع الثروات المنهوبة ووضع حد لسياسة الإفلات من العقاب، في إطار من الاستقلالية الفعلية بصياغة استراتيجية شمولية لمكافحة الفساد والحد من إهدار المال العام ونهبه .
ان نقابة المحامين واتحاد الحقوقيين تدرك قطعا؛ ان المال العام تعود ملكيته في الحقيقة الى الشعب وبذلك فان الجريمة تكون أكثر خطورة إن تعرضت إلى مصالح الشعب، وان المسؤولية في الحفاظ على المال العام هي مسؤولية نقابة المحامين واتحاد الحقوقيين وبقية النقابات والاتحادات وجميع المواطنين وقد عاقب المشرع العراقي في قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل على جرائم اختلاس المال العام والاستيلاء على المال العام والإضرار بمصلحة الدولة.
ان حماية الأموال العامة تتطلب العديد من الإجراءات الفعلية التي يجب ان تكون نقابة المحامين واتحاد الحقوقيين راس حربة في القضية، ومنها:
أولا: إن التشريعات التي تعالج حماية المال العام لازالت متشعبة في الكثير من القوانين وان الحاجة تدعو إلى إعادة النظر في تلك التشريعات بما ينظم حماية المال العام وكيفية الحفاظ عليه، وتعزيز مفهوم قدسية المال العام، من خلال وضع صيغ فعالة منتجة تؤكد على احترام بنود الدستور في الحفاظ على المال العام.
ثانيا: ضرورة انشاء هيئة وطنية لحماية المال العام، لمواجهة الفساد وناهبي المال العام، ويكون عملها بأشراف نقابة المحامين العراقيين واتحاد الحقوقيين العراقيين.
ثالثا: العمل على استحداث ظروف مشددة لعقوبة السرقة من المال العام في النواحي عديدة خاصة إذا وقعت السرقة على البنوك والمصارف العامة والدوائر ودور العبادة والمتاحف وغيرها مجاهرة وباستخدام القوة.
وأخيرا نختم مقالنا بقول لسيد البلغاء الامام علي عليه السلام: (ان هذا المال ليس لي ولا لك وانما هو فيء المسلمين وجلب اسيافهم فان شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم والا فجناة ايديهم لا تكون لغير افواههم).