7 أبريل، 2024 8:59 م
Search
Close this search box.

هل يتقاعد العراقي فعلا ؟

Facebook
Twitter
LinkedIn

كان شارع الكفاح في بغداد يشتهر في مقطع منه قرب ساحة السباع باحتوائه على محال عديدة لبيع الأدوات الصحية والمواسير وملحقاتها وخزانات الماء المصنوعة من الصفيح .. في منتصف الثمانينات توجهت يوما الى شارع الكفاح بصحبة السباك الذي كان يقوم ببعض التصليحات في منزلي لشراء قائمة من تلك المستلزمات… وحينما بدأنا بتمشيط الشارع لشراء جميع المواد حيث ان القاعدة آنذاك انه لا بد من وجود نقص او فقدان لبعض المفردات لذا ينتهي بك المطاف ان تبحث في كل الدكاكين قبل ان تتمكن من الفوز بالعثور على جميع المواد … وما أسعدك حين تصادف رحلة البحث هذه في شهر تموز او آب الحارق.. استرعى انتباهي ان صاحب احد هذه الدكاكين كان رجلا عجوزا تبدو عليه علامات الوهن  ويستخدم مقعداً ذو عجلات وعندما أبرزت له قائمة المواد المطلوبة بدأ ينادي على احد العمال لجلبها من الرفوف العديدة … وأثناء ذلك نادى على الچايچي من الشارع وطلب  استكان شاي ضيافة لي فأحببت ان أحاوره قليلا لاشكره على لطفه فسألته بود ان كان يفكر بالتقاعد من العمل فأجابني و ابتسامة كبيرة ارتسمت على محياه قائلاً:  ” اغاتي اذا تقاعدت عن العمل فسوف اموت خلال أسبوع” .  
ظلت جملة ذلك الرجل الطيب ترن في أذني منذ ذلك اليوم وأقيس عليها نظرة العراقيين نحو التقاعد بشكل عام .. حيث ان تعريف كلمة متقاعد بالمنظور العراقي تعني مت قاعدًا !!! كلنا سمعنا تلك الحكاية المتوارثة ان الشرطي حين يتقاعد يرتدي دشداشة ويضع على كتفه جاكيتة بدون ان يدخل ذراعيه في أكمامها ثم يجلس على مصطبة في مدخل المخفر الذي عمل فيه في العشرين سنة الماضية من حياته.
فكرت كثيرا عن أسباب عزوف الرجل العراقي عن التقاعد الكامل  واعتقد ان من جملة الأسباب هو عدم وجود وسائل حقيقية للتسلية تشغل وقته بالكامل اذا تقاعد،، وقد يخسر وجاهته الاجتماعية اذا لم يعد الآخرون بحاجة الى خدماته الوظيفية… كما وان الكثيرين منهم لا يمارسون هوايات معينة في حياتهم ينصرفون اليها بعد التقاعد .. بل ان البعض منهم ينظر الى الهوايات كنوع من “المزعطة” التي لا تليق بالرجل البالغ .  
يقال ان “الطبع يغلب على التطبع”..  أنا نفسي على الرغم من اقامتي الطويلة خارج العراق مازلت لا افهم كيف يفكر الرجل الكندي مثلا” بالتقاعد وهو ما زال في الخمسينات من العمر… وكلما يقول لي احد مراجعي عيادتي او معارفي من غير العراقيين انه يحب التقاعد مبكرا في الحياة اجد نفسي أقول في سري ” أوي عيني .. شدعوة هالنزاكة ” . 
وعلى العكس من ذلك فإن أصدقائي من العراقيين المقيمين في الخارج والذين هم من المهنيين كالأطباء والمهندسين والمحاسبين من الذين لم يحالفهم الحظ بمزاولة مهنتهم بسبب قوانين البلد المقيمين فيه ليس الا.. كلهم يتمنون ان يعودوا للعمل حتى وهم في الستينات والسبعينات من العمر . شعب عجيب لا تملك سوى ان تحترم هذه الشعلة الداخلية التي تبقي محرك الحياة في دوران مستمر… شعب يصح فيه قول المتنبي : وإذا كانت النفوس كبارا … تعبت في مرادها الأجسام 
شعب غير محظوظ بحكامه الذين جعلوا من خيرة مثقفيه ومهنييه طيورا مهاجرة تحن الى العمل الذي كانت تزاوله قبل ان تهجر أعشاشها … وزهرة شبابه الذين بقوا في الداخل يبحثون عن عمل فلا يجدون توظيفا او فرص عمل لائقة فانصرفوا الى مزاولة صغائر المهن .. 
يسألني دوما موظفي ومراجعي عيادتي ومعارفي  ان كنت أفكر في التقاعد.. فأنتفض قائلا كلا سأعمل مادام  في داخلي فؤاد ينبض… علما انه لدي الكثير من الهوايات التي أستطيع ان أمارسها بعد التقاعد وستشغل وقت فراغي بالكامل … ولكن كما قلت لكم قبل قليل.. الطبع يغلب على التطبع.. كل ما أتمنى عدم حدوثه في حالة تقاعدي وشيخوختي هو ان يدركني الزهايمر فأنسى نفسي فارتدي دشداشة وسترة معلقة على كتفي واجلس على مصطبة قرب مدخل عيادتي … اللهم أرجوك ان تأخذني الى ملكوتك ولا تريني مثل هذا اليوم[email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب