خلال زيارته الأخيرة لواشنطن لم يترك رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي جهة حكومية أمريكية إلا و تحدث إليها ، موضحا سياسة حكومته من الحرب على الإرهاب و الرغبة في تعزيز العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة و الانفتاح على دول الجوار.
و لم ينس العبادي المطلب الرئيسي الذي جاء من أجله و هو الحصول على الدعم العسكري و التسليح ضمن الاتفاق الاستراتيجي الموقع بين البلدين. لكن على الرغم من حصوله على تطمينات بخصوص تسلم العراق لطائرات أف – 16 إلا أن بعض الأصوات في أروقة السياسة الأمريكية ما تزال مترددة في تسليح الجيش العراقي. و ينبع هذا التردد من القلق بخصوص علاقة العراق غير الواضحة مع إيران و كشرط لإيجاد ما يسميه هؤلاء بالتوازن السياسي في العراق.
فالإدارة الأمريكية التي طالما أكدت أن العراق بحاجة إلى حكومة شراكة تشمل جميع الأطراف ، كانت و ماتزال تدعم حكومة السيد العبادي ، إلا أنها تتخوف من حدوث خلل ديموغرافي في العراق نتيجة عمليات التهجير و النزوح الكبيرة التي تسبب بها داعش في نينوى و صلاح الدين و الأنبار.
و ازداد الأمر تعقيداً مع دخول قوات الحشد الشعبي إلى بعض تلك المناطق و تحريرها و ما صاحب ذلك من انتهاكات فردية و زوبعة إعلامية حاول البعض الاستفادة منها لتحقيق مكاسب سياسية.
و على الرغم من محاولات الحكومة العراقية إرسال تطمينات إلى الداخل و الخارج من دور الحشد الشعبي و إلحاقه كهيئة رسمية بالقيادة العامة للقوات المسلحة إلا أن الإدارة الأمريكة ما تزال تشكك في قدرة العبادي على السيطرة.
لقد بدا واضحاً أن مفهوم الحشد الشعبي لدى الإدارة الأمريكية يختلف عما هو عليه لدى الحكومة العراقية. فالإدارة الأمريكية ترى في أن دور الحشد الشعبي ينحصر بمهام دفاعية عن العاصمة بغداد و المناطق الجنوبية و ليس للتواجد في المناطق الغربية ذات المكون السني ، في حين ترى الحكومة العراقية أن الحشد الشعبي هو لكل العراقيين على اختلاف انتماءاتهم و طوائفهم و هو قوة فعالة في القضاء على داعش في العراق. هذا ما جعل الحكومة العراقية تفكر في أن يكون الحشد الشعبي ضمن قوات الحرس الوطني الذي ما يزال قانون تشكيله نقطة نزاع في البرلمان العراقي.
لكن واشنطن تتخوف من أن يترتب على تحرير الحشد الشعبي للمناطق التي سيطر عليها داعش من دون مشاركة فعالة و كبيرة من قبل العشائر “السنية” تغيرات سياسية في مستقبل العراق. فالجانب الأمريكي يخشى من أن تطالب القوة التي تحقق انتصارات عسكرية على الأرض اليوم باستحقاقات سياسية غداً ما يعني مزيداً من النفوذ الإيراني من وجهة النظر الأمريكية.
بالمقابل من هذا تخشى الحكومة العراقية أن تؤدي عملية تسليح العشائر في المناطق الغربية إلى حدوث نفس الأخطاء مع الصحوات زمن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي ، حيث وصلت كميات كبيرة من تلك الأسلحة إلى عصابات إرهابية تقاتل اليوم إلى جانب داعش.
و لا يخفى على أحد أن التوقف المفاجىء لقوات الحشد الشعبي بعد العمليات العسكرية في تكريت لم يكن فقط لأسباب متعلقة بالخطط العسكرية و إنما لأسباب تتعلق بإرادات إقليمية. فإيران التي تترقب التوقيع على الاتفاق النووي مع الدول الست بدت غير ممتعضة من دور أمريكي أكبر في تحرير الأنبار و الموصل بمشاركة الجيش العراقي و العشائر في تلك المناطق.
لكن الدعم المقدم من قبل الجانب الأمريكي للحكومة العراقية ما يزال في إطار الشروط التي يقول عنها السيد عمار الحكيم رئيس المجلس الأعلى بأنها مرفوضة. ما يشير إلى خلاف واضح على مرحلة ما بعد داعش و ما سيتبع عملية تحرير الأراضي من حسابات سياسية.
من جانب آخر كرر السيد العبادي تأكيده في زيارته الأخيرة لواشنطن أن العراق يرحب بالدعم الدولي لمحاربة الإرهاب لكن ليس على حساب سيادة العراق. و سبق ذلك تصريح واضح من قبل المرجعية بأن سيادة العراق خط أحمر.
إلا أن سياسة إمساك العصا من المنتصف لم تعد مجدية بالنسبة للسيد العبادي ، فعلى الرغم من حرصه الشديد على التوازن إلا أن اختلال القوى من حوله قد يضطره للانحياز لطرف دون الآخر. و تصبح الأمور أكثر تعقيداً كلما تأخرت عملية تحرير الأنبار و نينوى و تصاعدت أعداد النازحين ، من دون أن يكون العراق قادراً على تحديد موقفه من السياسة الدولية التي لا دعم فيها بالمجان.
و في خضم الصراع الإقليمي يبرز الدور التركي الذي هو غير بعيد عن الساحة العراقية. فتركيا التي تشارك اليوم في تدريب عدد من العراقيين التركمان و رجال العشائر من المنطقة الغربية تحشد أيضاً قواتها بالقرب من الحدود مع الموصل و ذلك في إشارة واضحة على رغبتها في أن يكون لها دور في تلك المنطقة.
في الواقع ، سيكون مستغرباً جداً أن تبقى تركيا تنظر إلى التغيرات على الأرض من دون أن يكون لها مشاركة فعلية أو تواجد عسكري أكبر في معارك تحرير الموصل.
إن طبيعة المعارك على الأرض سوف تضغط بشكل أو بآخرعلى العلاقة بين حكومة العبادي والتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة من جهة و بين العبادي و إيران من جهة أخرى. فهل ينجح العبادي في إقناع المحيط الإقليمي بأن الحفاظ على السيادة الوطنية شيء و الحصول على الدعم الدولي شيء آخر؟ و هل سنشهد عراقاً بملامح جديدة في مرحلة ما بعد داعش؟ أسئلة ترسم علامات استفهام ليس على مستقبل العراق و حسب و إنما على مستقبل المنطقة و العالم برمته.