عندما غادرت العراق في بداية عام ١٩٧٧ وتنقلت بين الدول العربية وصادف ان دخلت من الحدود البرية لإحدى الدول العربية، وإذا بألضابط في تلك الحدود والذي تزين كتفيه مجموعة من النجوم خاطبني بشكل واضح طالباً مني ان ادفع له إكرامية، والحقيقة هالني هذا الموقف ووقفت كألمدهوش امامه، لأني لم يصدف طوال عمري في العراق مع كثرة مراجعاتي لدوائر السفر والمرور والتجنيد والتربية والتعليم والجنسية والأحوال المدنية أن دفعت فلساً واحداً لتمشية أي معاملة من هذه المعاملات، وهنا انا واقف امام ضابط يحمل عدة نجوم يقوم بعمل روتيني لختم جوازي لدخول الحدود، لم اعرف كم ادفع له، فدفعت له مبلغاً من المال لا أتذكره، فلما دخلت ذلك البلد وأخبرت من كان في إستقبالي، قال إن المبلغ الذي دفعته له كبير جداً، فقلت له ولكني لم اتخيل ضابطاً بهذه الرتبة يطلب إكرامية حيث لا يمكنني أن أتصور أن مثل هذا الأمر يمكن أن يحدث في العراق ليس مع ضابط بل حتى مع أصغر موظف في أي من دوائر الدولة. هكذا كان العراق وهكذا كان المواطن العراقي في سبعينات القرن الماضي. وعندما رجعت إلى العراق بعد عام ٢٠٠٣ وجدت أن هذا العراق الذي كنت أعرفه قد تغير؛ ولعل مقولة الإمام علي (ع) تنطبق في هذه الحالة إنطباقاً كاملاً (إذا أقبلت الدنيا على أحد أعطته محاسن غيره، وإن ادبرت عنه سلبته محاسن نفسه)؛ فقد سلبت عنا محاسن انفسنا.
فما الذي حدث ؟؟؟؟
هناك حدثان: الأول فترة الحصار؛ حيث أصبحت الرشوة ضرورة لكي يعتاش الناس عليها، فلا يكفي معاش الموظف، كما إن المقبور صدام طلب بشكل علني أن يدفع المواطن هدية للموظف على عمله، وبذلك شرعت الرشوة.
ولكن الآن تغيرت الأمور، واصبح راتب الموظف يكفيه ولا يحتاج إلى أي مبلغ إضافي، ولكن لماذا إستمرت الرشوة، بل تجذرت، وأصبحت أمراً طبيعياً، وثقافة متعارفة بين الناس، وأصبح الشخص الذي يرفض الرشوة هو الإنسان الشاذ وهو الإنسان المحارب.
هنا كان الحدث الثاني: يقال أن ملكاً سأل أحد الحكماء، كيف ترى الزمان؟ فأجابه الحكيم: أنت الزمان إن حسنت، حسن الزمان؛ وإن أسأت ساء الزمان.
إذاً سبب الفساد هو الفئة الحاكمة فإن صلحت وحاربت الفساد قضي على الفساد، وإن ساءت وانغمست بالفساد تفشى الفساد وإستشرى كما هو حالنا الآن.
ولكن، وهنا نطرح اللكن بخط كبير وعريض، هل إن الفئة الحاكمة مضطرة للفساد ؟؟؟
الجواب : إنها مضطرة ما دامت متصدية للعمل السياسي .
ونتساءل؛ لماذا الإضطرار؟؟؟
الجواب: إن الفئة الحاكمة متصدية للعمل السياسي، فلها مراكز ولها أتباع، وتعقد المؤتمرات والأجتماعات ويضطر افرادها للسفر لأغراض سياسية وتقام المآدب لأغراض سياسية ايضاً، وتتصدى للإنتخاب، فتطبع البوسترات وتنشر الإعلانات، والمال ضرورة لهذه الفعاليات، كما إن لها واجهات إعلامية من قنوات فضائية وإذاعية وصحف ومواقع في الإنترنت. كما إنها تضطر لدفع مبالغ للمعوزين والفقراء، كما إن لبعضها شهداء فتدفع مبالغ لعوائل هؤلاء الشهداء. كل تلك الفعاليات تحتاج إلى مبالغ وإلى اموال ، فمن أين تأتي بالأموال ؟؟؟؟؟
لقد وجدت الفئة السياسية ثلاثة طرق للحصول على الأموال:
طريق التبرعات: إن هذا الطريق يجلب اموال ولكنها مبالغ محدودة وعادة تكون ضئيلة مقارنة بما تتكبده من مصاريف عالية.
طريق الدول: إن هذا الطريق كان متوفراً ولازال ولكن اصبح بشكل أضيق من السابق لأسباب لسنا بصدد ذكرها، ولكن هذا الطريق يعني ألإنقياد لسياسة الدول الدافعة، ويعني إرتهان الجهة السياسية لمصالح دول قد تتعارض مصالحها مع مصلحة العراق، وبالتالي تضطر الجهة السياسية الى تحقيق مصلحة الدولة الخارجية على مصلحة العراق. وهذا امر سيء وغير مقبول.
طريق الإستفادة من المؤسسات التي تهيمن عليها هذه الجهات السياسية من وزارات ومجالس محافظات وهيئات وغيرها وذلك من خلال العقود والمشاريع والإتفاقات وكافة طرق الفساد المتعارفة؛ وهنا الطامة الكبرى؛ وهنا سبب التدهور والتراجع وتفشي الفساد على اوسع المستويات وإنتشار الإرهاب ودمار البلد.
لماذا الطريقة الثالثة تؤدي إلى هذه النتائج الكارثية؟؟؟
لتقريب الصورة نأخذ المثل التالي:
إذا كان الوزير على سبيل المثال يريد أن يحصل على أموال من عقدما لتمويل جهته السياسية فإنه مضطر للقيام بما يلي:
اولاً: يبدأ بالتفتيش عن العقود التي يمكن أن تجلب له مبالغ مالية كبيرة، ولكنه سيواجه معضلة، حيث إن تعليمات إجراء العقود تضع مجموعة من الشروط بحيث لو طبقت هذه الشروط بحذافيرها فإنه لا يمكن أن يحصل أي فساد وبألتالي لا يحصل على أي مبلغ، لذلك يجب عليه أن يجد متعاونين من الوزارة لتمشية العقد من دون الإلتزام بالضوابط والتعليمات، كوكيل الوزارة او مدير عام فضلاً عن المفتش العام ولجان فتح ودراسة العقود، والدوائر القانونية والمالية في الوزارة وغيرهم؛ طبعاً هذه الجهات ليست مستعدة للتعاون مع الوزير إلا بعد ضمان حصتها من المبالغ المترتبة من عملية الخروج على الضوابط والتعليمات ومخالفتها؛ كما إنه في كل مكتب من مكاتب هذه الجهات، كمكتب الوكيل او مكتب المدير العام او مكتب المفتش العام او مكاتب الدوائر القانونية والمالية وغيرها هناك مجموعة من الأفراد الذين ستنكشف لهم عمليات الفساد تلك، ولإسكاتهم إما أن يعطون حصة وإما أن يسمح لهم بألإفساد ضمن دائرتهم، فيبدؤا بمطالبة المواطنين والمراجعين والشركات المختلفة بالرشاوي، وليس هنالك اي رقيب او حسيب عليهم، بل لا يستطيع أي مواطن تقديم أي شكوى عليهم لدى أي شخص في هذه الوزارة، فألكل يسكت على الكل لأنهم جميعاً مشتركون بالفساد، والشخص الذي لا يدفع الرشوة تغلق عليه جميع الأبواب.
المشكلة التي سيواجهها المفسدون هو وجود مجموعة من النزيهين الذين لا يقبلوا بهذه الأوضاع وبهذا الفساد، هؤلاء عادة أقلية، فإما أن يسكتوا ويغضوا الطرف، وإذا أراد أحدهم أن يواجه المفسدين فيحارب ويزاح من موقعه أو يطرد من الوزارة أو تفبرك له تهمة فيدفع ضريبة نزاهته. وبمرور الوقت تفرغ هذه المؤسسات من الأشخاص النزيهين ويسيطر عليها المفسدين.
ثانياً: إن هذا الوزير المفسد عادة لا يشتغل للجهة السياسية التي يعمل لها فحسب، بل إنه يعمل لنفسه أيضاً، فلنفترض أن الجهة السياسية التي يعمل لها تطلب منه عشرة ملايين دولار، فمن الطبيعي أن يحقق ربحاً بخمسة عشر مليون فيأخذ خمسة له ويترك عشرة للجهة التي يعمل لها، هذا إذا كان منصفاً، أما إذا لم يكن منصفاً، فلعله يعطيهم عشرة ويأخذ لنفسة عشرة او عشرون او حتى مئة، فمن يحاسبه، فألأمر يتم بسرية، وعليه أن يرضي أشخاصاً آخرين داخل الوزارة. ولذلك نرى إن الجهات السياسية دائماً تغير وزرائها لأنها لم تحصل على ما كانت تتوخاه، أو أنهم علموا أن ما حصله الوزير يفوق كثيراً مما أعطاهم إياه، وهكذا تنشأ إقطاعيات مالية من قبل أشخاص معدودين لأنهم كانوا يشغلون منصباً وزارياً أو ما شابه.
ثالثاً: هناك مشكلة كبيرة تحصل مع الشركة التي تحصل على العقد؛ وفي هذا المجال أحب أن أذكر الحادثة التالية وهي حادثة واقعية حدثت معي؛ حيث عندما توليت الوزارة للمرة الثاية نهاية عام ٢٠١٠ فأول عمل قمت به طلبت من جميع الشركات العاملة مع الوزارة عمل تعهد مصدق لدى كاتب العدل تذكر فيه الشركة إنه إذا تبين إنهم دفعوا أي رشوة لأي موظف في الوزارة من درجة وزير فما دون، فيتم إلغاء العقد وتدفع الشركة غرامة بمقدار ٣٠٪ من قيمة العقد وتوضع على اللائحة السوداء وتمنع من العمل داخل العراق لفترة ثلاث سنين. بعد أن أصدرت هذه التعليمات وبدأت الشركات تعمل هذا التعهد، جاءني ممثلوا شركة (ألكاتل Alcatel ) الفرنسية وهي من اكبر شركات الإتصالات في العالم وقالوا لي بالحرف الواحد (نحن الآن نشعر أن هناك عدالة في التعامل مع الشركات) فتعجبت وقلت لهم (لماذا؟) فقالوا(كما تعلم نحن شركة مساهمة كبرى [PLC] ولا نستطيع أن نخالف القوانين الفرنسية، وإذا دفعنا أي رشوة للحصول على أي عقد فنعاقب من قبل حكومتنا وندفع غرامات باهضة جداً تبلغ مليارات الدولارات حسب القانون الفرنسي، أما الشركات الصينية فإن الحكومة الصينية تسمح لهم بدفع الرشاوي ولا تحاسبهم عليها، ونتيجة لذلك فإنهم كانوا يدفعوا الرشاوي في وزارتكم قبل مجيئك على مختلف المستويات داخل الوزارة، وبذلك خسرنا مجموعة من العقود لأنها وضعت بطريقة ومواصفات غير عالمية بل مواصفات خاصة بشركات صينية محددة نتيجة لدفعهم رشاوي إلى مجموعة من الموظفين، فتم استبعادنا مع العلم إن مواصفاتنا أفضل من مواصفاتهم وأسعارنا أقل من أسعارهم)، وبعد أن توليت الوزارة إستطاعت شركة الكاتل الحصول على عقدين من الوزارة بسبب توقف عمليات الفساد.
المثل الذي ذكرته أعلاه لا يمثل حالة مأساوية لأن مواصفات الشركات الصينية اصبحت قريبة من مواصفات الشركات الأوربية، أما المأسات حينما يكتشف الوزير أن الشركات العالمية لا تستطيع أن تدفع الرشوة، فيبدأ بالتعاقد مع الشركات العراقية غير المؤهلة، بل إنه يختار الشركة ليس إستناداً إلى كفاءتها بل إستناداً إلى مقدار ما تدفعه له من مبالغ، لذلك تأتي أسوأ الشركات، وبما أن هذه الشركات تدفع مبالغ كبيرة جداً للحصول على العقد بحيث في النهاية تجد إنها لن تربح شيئاً أو إنها ستخسر فتضطر للتوقف وعدم إكمال المشروع، فيكون مشروعاً متلكئاً؛ وإنك لا تجد دولة في العالم فيها هذه النسبة العالية من المشاريع المتلكئة غير العراق؛ وإني أستطيع أن أقول بكل ثقة أن أكثر من ٩٩٪ من المشاريع المتلكئة هي مشاريع فاسدة لم يتم فيها أختيار الشركة المنفذة التي تتمتع بكفائة وبخبرة سابقة أو أنها قامت بإنشاء مشاريع مشابهة في السابق؛ أو قد تكون الشركة قد دفعت ألدفعات الأولية التي إستلمتها كعمولات للوزير ولم يتبق لهم من المال ما يكفي للقيام بالمشروع كما حصل مع بعض المشاريع.
نستنتج مما ذكر أعلاه أن ما نعانيه اليوم من فساد مستشري على كافة المستويات وتوقف عملية الإعمار هو بسبب نزوع الطبقة السياسية الحاكمة لأختيار الطريق الثالث للحصول على الأموال، للأسف غدا هذا الأسلوب ثقافة متبناة من قبل أكثر ألجهات السياسية، بل بدأت هذه الجهات السياسية بتشكيل لجان إقتصادية تتعامل بشكل علني مع موظفي الوزارات ومع الشركات للحصول على الأموال بطريقة غير شرعية، هذه الثقافة أدت إلى ألإيغال في الفساد وإلى تعميق الفجوة بين الطبقة الفقيرة والطبقة الغنية، وإلى زيادة معاناة الطبقة الفقيرة بشكل يفوق التصور، كما أدى إلى إستفحال الأعمال الإجرامية من سرقات وخطف وغيرها، كما كان من أحد ألأسباب التي أدت إلى إلتفاف الكثير من المعوزين حول التنظيمات الإرهابية، فألإرهابيون مع عقيدتهم الباطلة ولكنهم مقتنعون بها فلديهم دافع كبير للقتال والتضحية بارواحهم، أما الجهات العسكرية والأمنية فغدوا مترددين في التضحية بأرواحهم من أجل وطن لا يتنعمون هم والمستضعفون من ابناء شعبنا بخيراته، بل أكثر من يتنعم بخيراته هم طبقة سياسية موغلة في الفساد، وأدى ذلك إلى فشل هذه الجهات في مقارعة الإرهابيين في الكثير من المعارك بين الطرفين، كما إن هذا الواقع أدى إلى فقدان الشعور بروح المواطنة، فأصبح هم المواطن العادي مغادرة البلد والهجرة إلى أرض الله الواسعة، وأصبح لسان حال المواطن بحق الوطن أنه (لا خير في وطن تحكمه فئة سياسية موغلة في الفساد كألفئة السياسية الحاكمة في عراق اليوم)، وأصبح الكثير من المواطنين ومن أبناء شعبنا محبطين من إمكانية إصلاح البلد.
ولكن هل هناك إمكانية لإيجاد حلول بديلة لتمويل الجهات السياسية لإيقاف عملية التمويل من خلال مؤسسات الدولة؟؟؟
العراق ليس بدعاً من الدول، والعملية الإنتخابية ليست منحصرة بالعراق، والأحزاب السياسية وإحتياجاتها للتمويل ليس أمراً خاصاً بالعراق؛ فماذا فعلت الدول الديمقراطية الأخرى أمام هذا الواقع المشابه للعراق؟؟؟
دخلت العملية السياسية في العراق عام ٢٠٠٥ حيث اصبحت عضواً في مجلس النواب، وتوليت وزارة الإتصالات عام ٢٠٠٦ ثم رجعت إلى مجلس النواب في نهاية عام ٢٠٠٧ ومن خلال إتخاذي لهذه المواقع وعلاقاتي الوثيقة مع كافة الأحزاب السياسية ومعرفتي بالكثير من التفاصيل وخبايا الأمور، وجدت أنه لا مناحة من أيقاف تمويل الجهات السياسية بطرق غير مشروعة سواء كانت من دول او إعتماداً على العقود الفاسدة، كما أنه يمكن بكل سهولة الإستفادة من تجارب الدول الأخرى لوضع منهج لتمويل الأحزاب والجهات السياسية العراقية إعتماداً على نموذج مشابه في دول عريقة بنظامها الديمقراطي وعريقة في تشريع القوانين؛ واحدة من أهم الدول في العالم العريقة بالقانون ولديها واقع سياسي شبيه نوعاً ما بالعراق من أحزاب سياسية متعددة تتنازع المقاعد البرلمانية هي فرنسا، كما إن القانون الفرنسي لا يسمح بتبرعات كبيرة للأحزاب السياسية، ويخصص مبالغ من موازنة الدولة للأحزاب السياسية حسب عدد من يمثلهم بمجلس النواب، ولا تدفع هذه المبالغ للحزب وإنما تدفع لمصاريف الحزب بعد التأكد من صحتها، كمراكز الحزب ومعاشات للحزبيين المتفرغين ووسائل الإعلام وغيرها من المصاريف.
إستناداً للواقع أعلاه قمت بالإتصال بالدكتور محمد سعيد الشكرجي (دكتور في العلوم السياسية من فرنسا ومتخصص بالقانون الدستوري) وهو الآن سفير العراق في كينيا، ليبعث لي دراسة بشأن تمويل الأحزاب السياسية في فرنسا، وقد بعث لي هذه الدراسة مشكوراً، فأرسلتها بدوري للشيخ همام حمودي رئيس لجنة التعديلات الدستورية في ذلك الوقت في مجلس النواب العراقي في الشهر الثالث عام ٢٠٠٨، لتضمينها في التعديلات الدستورية ، ولكن التعديلات الدستورية لم ترى النور حتى يومنا هذا، ولذلك قمت بطرح تلك المقترحات في مجلس الوزراء عام ٢٠١١ عند قراءة مسودة قانون الأحزاب السياسية ، فلم يثبت في القانون من تلك المقترحات غير مسألة تمويل الأحزاب السياسية من موازنة الدولة ، وتحقيق هذه الجزئية في قانون الأحزاب السياسية أمر مهم، ولكنه يحتاج إلى ضوابط وتعديلات من قبل مجلس النواب، ولكن للأسف الشديد لم يقر قانون الأحزاب السياسية منذ عام ٢٠١١ حتى يومنا هذا .
إن قانون الأحزاب السياسية يجب أن لا يتضمن تمويل الأحزاب من خزينة الدولة فحسب، بل يجب تشريع قوانين صارمة لمنع الأحزاب السياسية من تمويل نفسها من خلال الوزارات التابعة لها، وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق بشكل كامل إلا بترشيح وزراء تكنوقراط كفوئين وغير حزبيين أو حزبيين ولكنهم تكنوقراط كفوئين ونزيهين، حين ذاك فقط نستطيع أن نقول أن الحكومة بدأت تسير على الطريق الصحيح، وأن هناك إمكانية لتحسن الوضع والقضاء على الفساد وقيادة البلد إلى شاطيء الأمان والتقدم والإزدهار.
ولكن ذلك لا يكفي وحده لإصلاح الوضع، بل يجب أن يتزامن ذلك مع إعلان حالة الطواريء، ولكن ليست حالة طواريء امنية وعسكرية، بل حالة طواريء ضد الفساد، تحدد ساعة الصفر وبعدها كل من يفسد من موظفي الدولة يعاقب بأشد العقوبات، وتفتح خطوط ساخنة بين المواطن وهيئة حكومية خاصة تنشأ لهذا الشأن للتبليغ عن أي حالة فساد أو رشوة في الدولة، وبعد التأكد من قيام أي موظف في الدولة بأخذ رشوة يفضح في وسائل الإعلام، ويفصل من دائرته ويسجن لفترة لا تقل عن ثلاث سنوات، وتطبق نفس الآليات بحق الشركات التي تدفع الرشوة للحصول على العقود الفاسدة بطريقة مخالفة للقانون؛ قد يستمر بعض الموظفين في الدولة بالفساد حتى مع هذه الإجراءات الشديدة، ولكن هؤلاء لا يمكن أن تتجاوز نسبتهم ال ٢٪ إلى ٥٪، يجب التضحية بهؤلاء ، فهؤلاء ليس مكانهم دوائر الدولة، بل مكانهم السجن.
الإضطرار بالميزان الشرعي: ذكرنا في بداية المقال أن الجهات السياسية مضطرة للإفساد لتمويل فعالياتها السياسية وللتصدي للعمل السياسي، ولكن ما هو تقييم الإضطرار في مثل هذه الحالات بالميزان الشرعي؟؟؟ هنالك مصطلح فقهي يتمثل بالتنازع بين ملكة الوجوب وملكة الحرمة، فإذا كانت ملكة الوجوب اكبر من ملكة الحرمة فيمكن حينها إرتكاب الحرام من أجل غاية أهم وأسمى، فلا يجوز في الشرع إستخدام ممتلكات أي شخص إلا بإذنه، ولكن إذا وقع شخص امامك بسبب جلطة قلبية وكان قربك هاتف وصاحبه غير موجود فبإمكانك إستخدام هذا الهاتف للإتصال بالإسعاف من دون إذن صاحبه، لأن ملكة الوجوب في إنقاذ حياة إنسان أكبر من ملكة الحرمة في إستخدام ممتلكات الغير من دون إذنهم. ولكن هل ينطبق هذا الأمر على الأحزاب الإسلامية الملتزمة بالشرع حين تجيز لنفسها الفساد من أجل الوصول إلى الحكم؛ ألجواب كلا وبسبب بسيط؛ لأنه لا تنازع في هذه الحالة بين ملكة الوجوب وملكة الحرمة، بل هو تنازع بين ملكتين للحرمة، فوصول الحزب الإسلامي إلى الحكم وطرحه أشخاصاً مفسدين لتولي السلطة هو أمر مخالف للشرع وحرام، كم إن إستخدامه أساليب للتمويل تترتب عليها كل ما ذكرناه من سلبيات على المجتمع وعلى البلد هو حرام أيضاً.
للأسف أقول هناك جهل كامل بألشرع حتى لمن يدعي أنه يمثل حزباً إسلامياً؛ إن جميع المشتركين في في عمليات الفساد تلك يتحملوا مسؤولية كبيرة امام الله في هذه السياسة التي دمرت البلد ودمرت المجتمع، وإني أدعو جميع الجهات السياسية التي تدعي إنها تلتزم بالشرع لمراجعة مواقفها وإتخاذ سياسة جديدة تلتزم بمنهج جديد لا يخالف الشرع، والسعي لتشكيل حكومة على المعايير المذكورة أعلاه، وإسناد منهج يستطيع إنتشال البلد من حالته السيئة بسبب هذه السياسات الفاسدة إلى حالة صحية وسليمة خدمة لأبناء شعبنا ووطننا.
إني مطمئن أن وعي الشعب سيقودنا في النهاية إلى تشكيل مثل تلك الحكومة، وتبني المناهج الإصلاحية والسليمة، كما إني مطمئن أيضاً إننا سنشهد مثل هذا اليوم لكي يحيى المواطنون العراقيون مثل باقي أغلب سكان الأرض في راحة وسلام وإطمئنان وتقدم وإزدهار………