في غمرة احتفالات الشعب المصري بفوز المرشح (عبد الفتاح السيسي) في انتخابات الرئاسة ، التي جرت على مدى ثلاثة أيام اعتبارا”من يوم الاثنين المصادف 26 أيار الماضي ، يخالج البعض من بقايا العراقيين الذين ما برحوا متمسكين بعراقيتهم شعور غامر بالارتياح والغبطة ، ليس فقط لأنه بادر بقطع دابر التطرف الديني الأهوج الذي كاد أن يطيح بكيان مصر التاريخي والحضاري والإنساني ، مثلما يفعل الآن بالكيان العراقي الموشك على الانقراض فحسب ، بل وكذلك لأنه فضّل (الأمن) على ما يزعم أنها (الحرية) ، أو كما عبر بطريقة تهكمية خصمه في المنافسة (حمدين صباحي) ، في مؤتمره الصحفي يوم الخميس المصادف 29/5/2014 قائلا”(إن الشعب المصري اختار القوة بدلا”من الحقيقية) ، وكأن معنى القوة لا يأتي إلاّ مقترنا”بالشر المستطير ولا يتحصل إلاّ متلبسا”بالظلم المطلق . والحال لماذا نستبشر نحن الذين لا علاقة لنا بأحداث مصر وما يجري فيها حراك شعبي ، إلاّ من باب كونها دولة شقيقة يشدنا إليها الدين الإسلامي والهوية العربية ، ناهيك عن عوامل التاريخ وعناصر الثقافة وأرومة اللغة ؟ . الحقيقة إن ما يجعلنا ننظر بعين التعاطف مع هذه التجربة الفريدة ، ليس فقط كون الشعب المصري – وهذا بكفي بحد ذاته لتقدير مواقف هذا الشعب – أثبت انه من أكثر الشعوب العربية حرصا”على سلامة شخصيته الاجتماعية ، وأشدها تمسكا”بثوابت بهويته الوطنية / المصرية ، خلافا”لما لمسناه لدى بقية البلدان العربية التي ضربتها زوابع الربيع العربي كما يقال فحسب . وإنما – وهنا أتحدث كعراقي – لأنه أجاد التمييز وأحسن الاختيار ، حين وضع ثقته في قيادة أثبتت التجربة أنها شخصية صلبة لا غبار على وطنيتها ، مثلما لا خلاف حول غيرتها على وحدة الشعب المصري وحرصها الشديد في الدفاع عن مصالحه والمنافحة عن تاريخه . وبالتالي فان فوزه جاء بمثابة استجابة لرغبة دفينة ورغبة مقموعة توطنت في عقلنا اللاوعي ، حيال بزوغ شخصية عراقية – عسكرية أو مدنية فالأمر بالنسبة لنا سيان – من هذا الطراز القيادي الوطني ، الذي لا يبحث عن أمجاد شخصية لتخليد أسمه ولا يسعى خلف مكاسب آنية لتعظيم سلطانه ، بقدر ما يروم تحقيق أماني شعبه للعيش في بيئة إنسانية تنعم بالأمن والكرامة والاستقرار ، بعد أن يكون قد تخلص من كل مظاهر التطرف الديني والتعصب الطائفي والعنف الاجتماعي . والحال إذا كان من حق الإنسان أن يحلم ، فهل يا ترى لدينا الحق بأن نتجرأ للحلم بإمكانية أن يحظى العراقيين (بسيسي) آخر ، يمتلك جزء – ولا نقول كل – مواصفات (سيسي) مصر ، بحيث يجعل من أحلامهم حقائق ملموسة ومن أمانيهم وقائع معاشة ؟! . وإذا كانت هناك مؤشرات على وجود مثل هكذا قائد / زعيم في بيئة موبوءة بشتى مظاهر العنف والفوضى والفساد مثل بيئة العراق ؟ !، وهل يا ترى إن طبيعة المجتمع العراقي المحكوم بجدليات الهدم / التدمير الذاتي ، تسمح بميلاد وصيرورة ذلك المهدي المنتظر ؟! . وقبل أن نعطي إجابات قاطعة سواء بالنفي أو بالموافقة إزاء حقنا بالحلم والتمني ، فضلا”عن سماح أو ممانعة خصائص المجتمع العراقي لانبثاق مثل هذا النمط من القادة / الزعماء . فان قراءة سريعة للمسارات التاريخية والحضارية في كل من المجتمعين المصري والعراقي ، مرجح أنها ستساعدنا على حسم خيارنا لصالح هذه الإجابة أو تلك ، ولأن هذا الأمر يحتاج منا الكثير التفاصيل والمعلومات لإثبات هذا الرأي دون ذاك أو العكس ، الشيء الذي يتعذر علينا القيام به في إطار هذا الموضوع المبتسر على نحو فاضح . ولأجل ذلك فإننا نسمح لأنفسنا أن نشير على من يريد التوسع والتعمق حول هذه المسألة الحساسة ، الرجوع إلى كتبنا المتواضعة ((الهوية الملتبسة : الشخصية العراقية وإشكالية الوعي بالذات)) و(( أقنعة وأساطير : مقاربات نقدية حول سوسيولوجيا الثقافة العراقية )) أو (( استعصاء الإصلاح في العقل العراقي : مقاربة حول المعوقات والتوقعات )) ، حيث أشير إلى ما نعتقد أنها بعض الأسباب والعوامل التي جعلت من المجتمع العراقي يصل إلى هذا الدرك الخطير من المواقف الشاذة والسلوكيات المنحرفة . بيد إننا نكتفي هنا بالإجابة عن السؤال الأول فنقول ؛ انه من سلامة عقل المرء ونضج تفكيره عدم الإسراف في الأحلام والإمعان في التمنيات ، ذلك لأن بعض الأحلام – وحتى التوقعات إن لم تكن قائمة على معطيات ووقائع – تؤذي صاحبها أن لم تودي به إلى التهلكة ، لاسيما تلك التي تتخطى حدود حاجات الفرد باتجاه مصالح المجتمع ، أو تتجاوز حرية المواطن إلى مصير الوطن ، أو تعبر حقوق إلى سيادة الدولة . ولهذا فان كل المعطيات المنظورة وغير المنظور تشير إلى انه ليس هناك حاليا”– وللأسف الشديد – ما يخولنا إبداء التفاؤل أو حتى التوقع بإمكانية وجود حلم بهذا الحجم من الجرأة والجسارة . ذلك لأن عقود من عمليات القمع السياسي والردع النفسي ، فضلا”عن التنميط الثقافي والتحنيط الفكري ، جففت نسغ الوعي الوطني لدى الإنسان العراقي وأماتت لديه بواعث الشعور بالمسؤولية ، بعد أن مسخت شخصيته الاجتماعية ونسخت ذاكرته التاريخية وسطحت وعيه الجمعي . وفيما يتعلق بالشق الثاني من سؤالنا ، فان هناك جملة من المعوقات والإشكاليات التي تجعل من المستحيل على الشعب العراقي – في ظل هذه الظروف والأوضاع – إنجاب قائد وطني يرقى إلى مستوى التحديات المصيرية التي تعصف به من كل جانب . لاسيما وان هناك عدة عوامل مساعدة ومشجعة لا تفتأ تطق العنان لجدليات الهدم / التدمير الذاتي – خصصنا موضوع مستقل لشرح الكيفية التي من خلالها تمارس هذه الجدليات فعاليتها في المجتمع العراقي – التي من أبرز وظائفها نسف كل نوع من أنواع التفاعل على مستوى البنيات والمؤسسات ، وتقويض أي شكل من أشكال التواصل على مستوى الإرادات والعلاقات ، وتحطيم أي نمط من أنماط التكامل في الثقافات والسرديات ، وتعطيل أي فعل من أفعال التبادل على مستوى الخبرات والمهارات . بمعنى إن كل تجربة أو ممارسة ؛ سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية أم ثقافية أم حضارية ، لا تشرع من الأسس والأصول والقواعد التي سبق لغيرها من التجارب والممارسات أن وضعتها أو تركتها برسم التراكم المعرفي والتنضيد التاريخي والاكتناز الإنساني ، وإنما لابد – لكي تشعر القائمين بها بالرضا النفسي وينالوا القبول الشرعي – أن تبدأ من نقطة الصفر ، بعد أن تكون قد تركت حقل الثقافة يباب وميدان السياسة خراب . ولأجل أن لا نطيل في موضوع أريد له أن يكون مقتضب ولكنه دال نقول ؛ أيها البقايا والشظايا من العراقيين التعساء ليس من حقكم أن تحلموا كما ليس من حقكم أن تتمنوا ، فهذا وذاك من ترف المطالب وكماليات الحقوق . وحيث إن الترف يزيل النعم كما تعلمون ، فالواجب يقتضي تحذيركم من مغبة رهن مصيركم ومصير أجيالكم ، بأمل أن يأتي يوم يحكم فيه العراق زعيم / قائد من نمط (السيسي) المصري ، ذلك لأن رحم المجتمع العراقي الحالي بات عاقرا”عن إنجاب من يقوم بإصلاح شأن هذه الأمة الكافرة بدينها والناكرة لجميل وطنها . لا بل إن ذلك الرحم العقيم أضحى لا يصلح أن يكون سوى مأوى لمخلوقات العالم السفلي ، التي لا تستهوي العيش إلاّ في الجحور المظلمة ، ولا تفتات إلاّ على بقايا الجثث المتعفة !!! .
[email protected]