يبدو إن غياب الموازنة العامة أو تأخر صدورها تحول إلى حالة مزمنة إعتاد عليها البعض ممن يعنيهم الأمر ، فقد شهدت سنوات الحصار والحروب ( 1991 – 2003 ) غيابا شبه كامل لصدور الموازنة العامة للدولة والسبب إن الموازنة هي أداة تخطيطية ورقابية يتم من خلالها تخمين الإيرادات والنفقات وتحديد العجز أو الفائض ثم مقارنة ذلك مع الحسابات الختامية لتحديد الفروقات بين المخمن والفعلي وتحليل الأسباب ومحاولة معالجتها قدر الإمكان ، وخلال السنوات التي اشرنا إليها أعلاه لم تكن هناك إيرادات بعد حظر تصدير النفط بموجب القرارين 660 و661 وحصره لاحقا باتفاقية النفط مقابل الغذاء استنادا لقرار مجلس الأمن الدولي 986 ، ولأن اغلب الإيرادات هي من تصدير النفط المتوقفة فلم تكن هناك حاجة للموازنة بالأساس ، وبعد سنة 2003 وانتقال السلطة تدريجيا من الحاكم ( المدني ) تم الشروع بوضع الموازنات الاتحادية والتي غلبت عليها مجموعة من القواسم ، أولها تاخر إصدارها لما بعد بداية السنة المالية المعنية وثانيها عدم استنادها إلى الحسابات الختامية للسنة المالية السابقة وثالثها تعمد وضع العجز في تقديراتها بشكل يتطلب إصدار موازنة تكميلية في كل سنة مالية ورابعها خضوعها إلى صفقات واتفاقات على أسس قومية وطائفية ومناطقية وخامسها تكرار أسلوب إعدادها بطريقة copy – paste فهي عبارة عن موازنة أبواب وأقسام وفصول وبعيدة كل البعد عن الطرق الأكثر ملائمة المتبعة في اغلب دول العالم بخصوص إعداد الموازنات ، وسادسها صعوبة تمريرها والمصادقة عليها مما يضطر الكتل والكيانات إلى عقد الصفقات أو إدخالها إلى سلة القرارات ، آذ يتم إصدار مجموعة تشريعات بقرار واحد بحيث يكون لكل طرف نصيبه من ( الكعكة ) لإشباع مصالح معينة أو لإرضاء شريحة من الجمهور أو لإعاقة الحكومة في تحقيق الأهداف ، وتزداد حمى هذا التوجهات عند الاقتراب من مواعيد الانتخابات المحلية أو البرلمانية ، وبسبب الخلافات الكثيرة على الموازنة ومحاولة توجيهها إلى مصالح محددة فان حركة التنمية تشهد تراجعا وتزداد المشكلات الاقتصادية تعقيدا كبيرا رغم إنفاق مئات المليارات من الدولارات ضمن تلك الموازنات كما إن ذلك أدى لبقاء البلد بدون موازنة عام 2014 .
وقد استبشر العراقيون خيرا عندما صادق مجلس النواب على موازنة 2017 في بداية شهر كانون الأول من عام 2016 حيث اعتقد البعض إن ذلك هو بداية لإنهاء حالة التأخر في إصدار الموازنات ، إلا إن آمال المتفائلين سرعان ما تبددت عندما قام رئيس مجلس الوزراء بتقديم طعونات ببعض مواد الموازنة لدى المحكمة الاتحادية وقد برر تلك الطعون بان مجلس النواب قد تجاوز بعض صلاحياته وغير من أهداف ومعالم الموازنة وزاد من الأعباء المالية عليها دون مراعاة ظروف القصور في الإيرادات بعد الانخفاض الكبير في أسعار النفط ، وقد عادت متلازما تأخير صدور قانون الموازنة عند تقديم مشروع قانون الموازنة الاتحادية لسنة 2018 فقد أحال مجلس الوزراء مشروع القانون إلى مجلس النواب في الموعد المحدد قانونا إلا إن مجلس الوزراء طلب سحب المشروع لان هناك مناقشات طور الانجاز مع صندوق النقد الدولي ، وفي بداية كانون الأول الحالي أعيد عرض مشروع قانون الموازنة على مجلس النواب مرة أخرى ألا إن الأخير تمتع بعطلته التشريعية بعد أن اجلها لشهر بانتظار قدوم الموازنة ، ولغرض تدارك التأخير فقد تمت دعوة مجلس النواب للانعقاد بجلسة طارئة وتم عقد الجلسة بالفعل ، وتباينت الآراء بعد الاطلاع على مشروع قانون الموازنة فالكرد لم يتقبلوا فكرة تخفيض حصة الاقليم من 17% إلى 12% وممثلو المحافظات المنتجة للنفط اعترضوا على تخفيض حصتهم من إنتاج وتكرير النفط وتصدير الغاز ، والمحافظات التي تعرضت إلى احتلال داعش استصغرت المبالغ المخصصة لإعادة الأعمار وعودة النازحين ، وفي ظل تلك الآراء وغيرها أخفق مجلس النواب في الحصول على النصاب القانوني لقراءة مشروع قانون الموازنة قراءة أولى ولهذا خول اللجنة المالية لإجراء مفاوضات ومناقشات مع مجلس الوزراء لإزالة تحفظات النواب وبما يكفل المصادقة على الموازنة دون الطعن بموادها بالمحكمة الاتحادية من قبل رئيس مجلس الوزراء ،
وهناك من يعتقد بان اللجنة المالية تواجه صعوبات في التنسيق مع الحكومة بهذا الخصوص لأسباب أبرزها إن الموازنة لم يتم قبولها من قبل مجلس النواب لأن القراءة الأولى لم تتم بعد وهي بمثابة الموافقة المبدئية على مضامينها ، كما إن الفصل بين السلطات يجعل من غير الممكن الوصول إلى تفاهمات لخلافات معمقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية بخصوص مشروع قانون الموازنة ، وتدل تصريحات الدكتور مظهر محمد صالح المستشار الاقتصادي لرئيس مجلس النواب ( التي مفادها إن الموازنة الاتحادية لعام 2018 تعد بداية الخطة الاقتصادية للبلد التي تمتد لخمس سنوات )، بان التغيير الجوهري بمشروع قانون الموازنة غير ممكن لأنها خطة اقتصادية وليست مجرد موازنة اتحادية كباقي موازنات الأعوام السابقة ، ولان مجلس النواب لا يزال يتمتع بعطلته التشريعية فمن المتوقع أن يتم عرضها على المجلس عند مباشرته بفصله التشريعي الأخير رغم ازدحام جداول أعماله بقانون انتخابات مجالس المحافظات وقانون انتخابات مجلس النواب وملف استجوابات الوزراء ورؤساء الكيانات ، والأمر الذي بات مؤكدا هو إن موازنة 2018 سوف يتأخر إصدارها لما بعد نهاية العام الحالي وسيتم تخويل وحدات الصرف بالإنفاق بنسبة 1 : 12 شهريا من مجموع الانفاق الفعلي لحين نفاذ قانون الموازنة الجديد ، والموضوع الذي بات يثير التساؤلات هو هل إن موازنة 2018 سيتم إصدارها أم إن حالها سيكون كحال موازنة 2014 التي لم تصدر قط للأسباب المعروفة للجميع ؟ ، ورغم قرب نهاية السنة المالية الحالية إلا إن موضوع تأخر إصدار الموازنة لم يأخذ حيزا من الاهتمام في تصريحات المسؤولين أو في متابعة وسائل الإعلام ، فهناك مظاهرات واحتجاجات بخصوص دعم الحكومة في متابعة الفساد والمطالبة بتأجيل خصخصة الكهرباء وغيرها من المواضيع التي تحظى باهتمام الناشطين والفقراء والمتضررين وغيرهم ممن يدعون إنهم مدنيون وبعيدون عن السياسة والأحزاب .
فعلى المستوى الشعبي لم تنكشف اهتمامات جوهرية بخصوص مواعيد تشريع قانون الموازنة وهل ستصدر فعلا أم لا ، والسبب إن غالبية المتابعين لقضايا الموازنة الاتحادية قد اطلعوا على موادها وجداولها أثناء وصولها إلى مجلس النواب وقد فهم الموظفون ومحدودي الدخل من خلالها إنها سوف لا تتضمن آية زيادة في الرواتب أو المدخولات ، كما إن الاستقطاعات الضريبية ونسبة الحشد ستبقى على حالها ( 8،3% ) دون زيادة أو نقصان وإنها تتضمن الاستمرار في إيقاف التعيينات وعدم الاستفادة من الدرجات الوظيفية ضمن حركة الملاك ، وان الدولة لا يمكن أن تزيد الإنفاقات لان أية زيادة ستتحول إلى مديونية داخلية وخارجية ، أما مواضيع الخلافات بشان حصة الاقليم وإعمار المدن وعودة النازحين وزيادة حصة البتر ودولار فإنها من وجهة نظر البعض مواضيع ( سياسية ) وتتكرر كل عام ويتم حلها بين الكتل بعيدا عن تدخلات وتأثيرات الجمهور ، ومما يضيف ( ملحا ) لموضوع الموازنة هو ما يرافق مراحل إعدادها من تصريحات مريحة منها إن رواتب الموظفين والمتقاعدين خطا احمرا وان الرواتب يتم تأمينها وان هناك خططا لتقليل الاعتماد على المديونية الخارجية واستثمار الزيادة في أسعار النفط عالميا لخدمة الديون وإطفائها وإعادة احتياطيات البنك المركزي إلى مستوياتها السابقة ، كما إن هناك تصريحات مطمأنة بالقضاء على الفساد وتجفيف منابعه ومحاسبة المفسدين وهي أمور تثلج صدور الكثير الذين يوجهون اهتمامهم لتامين معيشتهم دون الخوض في التفاصيل ، وهناك آراءا سائدة لدى البعض خلاصتها إن معيشتهم ستبقى على حالها سواء صدرت الموازنة أم لم تصدر ، فقلقهم يزداد كلما سمعوا عن التزامات جديدة قد تضعف قدراتهم الشرائية كفرض رسوم أو ضرائب أو أجور تنطوي على قدر معين من الالتزامات لا تناسب احتياجاتهم المعيشية ، وهذه ليست حالات جديدة وإنما تم توارثها منذ عقود وأدت إلى تحول الفساد من حالات وظواهر إلى منظومات تحتاج إلى جهود غير اعتيادية ووقت غير معلوم للقضاء عليه ، وفي كل الأحوال فان تشريع موازنة 2018 يجب أن يحظى باهتمام وبذل الجهود الكافية من قبل المعنيين لان اختلال وغياب الموازنة الاتحادية والحسابات الختامية ركنان أساسيان لتأسيس واستسهال الفساد .