لا أدري كم عدد الذين سيقرأون مقالاتي الثلاث حول الانتخابات، بعدما نشرت قبل أيام («المجرب لا يجرب» هل تحتاج إلى عبقرية؟)، واعدا بإلحاقها بمقالتين، ثم رأيت أن أجعلها ثلاثا. كما ولا أدري مدى تعويل قرائها على رأيي ونصيحتي، ولا أدري مدى تأثيري أو تأثير هذه المقالات على الناخبين. ولكني أحاول بها أن ألبي نداء الضمير، عسى أن نجنب العراق إِيالَهُ إلى ما هو أسوأ، إلم نستطع إجراء التغيير والإصلاح المتطلع إليه.
قبل أن أدخل في صلب ما أبغيه من هذه المقالة، رأيت ألّا بد من الإشارة إلى بعض المظاهر التي رافقت الحملة الانتخابية. فبعدما شهدنا في انتخابات ما بعد 2003 الأربعة ظاهرة المتاجرة بالدين ودعوى التدين، وبالمذهب ونصرة المذهب، وبمظلومية أتباعه، وبالرموز الدينية والمرجعية، نجد لا أقول تحولا من المتاجرة بما ذكر، بل إضافة متاجرات من نوع جديد، ومن أبرزها المتاجرة بالعشيرة. مع إن المتاجرة بالدين والمذهب ما زالت تمارس، وأمثلة ذلك تصريحات عامر الكفيشي، ونوري المالكي، وحسن الزاملي، وجاسم محمد جعفر، وموفق الربيعي وغيرهم، والحملة التكفيرية التي شنوها بدرجات مختلفة على المدنيين والعلمانيين والليبراليين.
كما نجد متاجرة من نوع آخر، هي من خصوصيات ما بعد داعش، ألا هي المتاجرة بالنصر على داعش، محاولين تمرير فكرة أن الذي أثبت كفاءة في ميدان المعركة ضد الإرهب، لا بد أن يكون مؤهلا لقيادة العراق، وتصدُّر العملية السياسية. ونحن نعلم إن الاتجاهات المتطرفة تكون غالبا شديدة في القتال، بسبب ما يبعث الإيمان المتطرف بالعقيدة أو الولاء من همة وإقدام في القتال والتضحية؛ لكن نفس الدوافع الآيديولوجية للقتال تكون على الأعم الأغلب ذات ضرر على الوطن، عندما يتبوأ قادة ساحات القتال مواقع القيادة السياسية، لاسيما إذا علمنا إن التطرف الآيديولوجي الذي شكل عقيدة القتال عند الكثيرين مقترن بالولاء لدولة أجنبية، ثبت أنها لا تزاول سياسة في نفع العراق، بل في ضرره الفادح.
والآن ولكون مواقف الناخبين تجاه انتخابات الثاني عشر من هذا الشهر ينقسمون إلى قناعات متفاوتة فيما يتعلق بجدوى المشاركة في الانتخابات، حيث اتخذ كثيرون قرارا بالمقاطعة، بسبب يأسهم من قدرة الانتخابات على إحداث أي تغيير. وهم قد يكونون محقين فيما يذهبون إليه وما يتوقعونه، فاتخذوا قرارهم في ضوء ذلك.
لكن دعونا نطرح على أنفسنا مجموعة أسئلة، ونتناول مجموعة احتمالات ممكنة، سواء كان الإمكان راجحا أو ضئيلا أو بنسبة متساوية تقريبا مع كل إمكان منهما وعكسه. لنفترض ونسلّم بأن مشاركتنا في الانتخابات لن تنفع، فنطرح السؤال على أنفسنا، ما إذا كان من الممكن بأنها صحيح على الأرجح لن تنفع، لكنها لن تضر. ربما سيجيب البعض بطرح ثمة ضرر محتمل، ألا هو إننا إذا شاركنا، وبقي الحال على ما هو عليه حتى الآن، أفلا يمكن أن نكون بذلك قد منحنا العملية السياسية الباقية على سوئها الشرعية عبر مشاركتنا الواسعة؟ سبق وذكرت في حوار على إحدى الفضائيات بأني شخصيا كنت سأدعو إلى المقاطعة، لو احتملت أن تحقق الدعوة استجابة واسعة ومؤثرة، ولكن لكوني أكاد أجزم إن هذا لن يحصل، فيعني أن الذين سيقاطعون هم الرافضون للقوى السياسية السيئة المتنفذة، وبالتالي سيمنحونها الفرصة أن تحقق فوزا، عندما لا يذهب إلى الانتخابات إلا المخدوعون بهذه القوى والموالون لها، ولو بسبب خوفهم من تضييع المكاسب المذهبية في إطلاق الحرية للزيارات ومواكب السير على الأقدام وإحياء الشعائر الدينية المذهبية، لأنهم يتصورون لو لم ينتخبوا المتاجرين بالدين والمذهب من طائفتهم، فسيأتي السنة أو العلمانيون، وكلاهما يبيّت لهم حسبما صُوِّرَ لهم حرمانهم من كل ما ذكر، إذا أمسكوا بالسلطة. فهذه الخدعة انطلت للأسف على جماهير واسعة من الناخبين لقوى الإسلام السياسي الشيعية بشكل خاص.
إذن احتمال أن تأتي المقاطعة بما فيه نفع للعراق ضعيف جدا، لكن يحتمل أن تودي المقاطعة إلى ضرر، قد يكون كبيرا جدا وخطيرا جدا، بينما المشاركة إذا ما لم تأت بالنفع الكبير، فالاحتمال كبير في أنها يمكن أن تحول دون مجيء الأسوأ، وعندها لن ينفع المقاطعين الندم. إذن علينا أن نذهب نحن المتطلعين إلى التغيير والإصلاح بكل قوة إلى الانتخابات، وأن نشجع كل من نستطيع أن نؤثر عليهم بالمشاركة.
أرجو ترقب المقالتين التاليتين «من ننتخب؟ من أي قائمة ننتخب»، و«هل ننتخب الجيد من قائمة سيئة؟»، حيث سأطرح فيهما الأسئلة المطروحة في عنواني المقالتين، محاولا الإجابة عليهما بما فيه صالح الوطن، حسب اجتهادي.