حتى قيام ثورة 14 تموز 1958 كان العراق مكتفياً ذاتياً بالمواد الغذائية.. فكان القدر الغذائي العائلي عراقي 100% .. ويرجع ذلك ليس لتقدم الزراعة في العراق.. بل لأسباب في مقدمتها النظام الإقطاعي السائد في كل العراق..
هذا النظام الذي جعل من العشيرة والقرية فلاحين مجبرين على العمل لشيخهم (المحفوظ) في الجنوب والوسط.. أو (الأغا) في المناطق الكردية.. نظام صارم في العلاقات الاجتماعية وعلاقات العمل.. وعلى الرغم من انه نظام بغيض واستغلالي بشع.. لكنه كان يدر إنتاجاً وفيراً.. بالرغم من بدائية الزراعة.. وبدائية الأجهزة المستخدمة فيها..
بعد ثورة 14 تموز 1958جرى تطبيق قانون الإصلاح الزراعي الذي شرعته حكومة هذه الثورة.. للتخلص من الإقطاع وإقامة العدالة الاجتماعية بين المواطنين.. وتم توزيع الكثير من أراض الإقطاع على الفلاحين.. لكن الدولة لم توفر ابسط مستلزمات الزراعة للفلاح.. التي لا يملكها الفلاح.. ولا يستطيع توفيرها فهو معدم مادياً.. وهكذا فشل تطبيق اًلإصلاح الزراعي.. واهتز وضع الغذاء العراقي..
بالمقابل فإن قيام الثورة كان مناسبة لهروب وهجرة جحافل من الفلاحين من سلطة الإقطاع.. فحدث اكبر نزوح للفلاحين الى بغداد وبعض المدن العراقية الأخرى.. صحيح استغل الكثير من الإقطاعيين فشل قانون الإصلاح الزراعي ليعيد سيطرته على الأرض والزراعة بشكل أو آخر.. لكن الأوضاع اختلفت.. ولم تعد سلطة الإقطاع كما كانت.. فانخفض الإنتاج الزراعي.. وبالرغم من تحديد الدولة لأسعار المواد الغذائية الأساسية.. لكن ذلك لم يستمر طويلاً..
ظهرت حالات نقص في بعض المواد الغذائية.. لكنها لم تخلق أزمات كبيرة.. فقد كان الوضع ألمعاشي لعموم الموطنين ضعيفاً جداً.. فلم تكون متطلبات غذائه كبيرة ومتنوعة.. كما إن عدد سكان العراق كان قليلاً.. لا يتجاوز السبعة ملايين نسمة.. بالمقابل بدأ استيراد المواد الغذائية بشكل أكبر، خاصة السكر والشاي.. والمعلبات.. والموز.. والتفاح اللبناني بلونيه الأحمر والأصفر.. لكن لم يصل الأمر الى استيراد المواد الغذائية الأساسية..
بدأت أولى حالات النقص الغذائي أواخر العام 1966عندما شح البصل من الأسواق وغاب تماماً.. وهو أهم مادة غذائية في الطبخ العراقي.. وارتفع سعره.. وأصبح سعر كيلو البصل ب 400 فلساً.. أي أغلى من سعر التفاح اللبناني المستورد الذي كان سعره 120فلساً.. ويبدو إن الحكومة استوردت البصل وانتهت الأزمة.. كما استوردت الحكومة بذور محسنة للبصل ووزعتها الى المزارعين بسعر مدعوم.. لكن ذلك لم يمنع غياب البصل اليابس في فترات نهاية موسمه.. ليسد الحاجة عنه البصل الأخضر الى حد ما..
بعد انقلاب 17 تموز 1968 والانفتاح على القوى السياسية الأخرى.. والعفو عن السياسيين وعودتهم من خارج العراق.. وإعادة المفصولين السياسيين الى وظائفهم.. وقيام الحكومة بتعيينات كبيرة للبعثيين القدامى والجدد.. انتعشت القوة الشرائية للمواطنين خاصة بعد ارتفاع أسعار النفط الخام بعد حرب تشرين العام 1973.. فبدأ الإنتاج الزراعي العراقي لا يكفي حاجة السوق.. خاصة الإقبال على الطماطة ومعجون الطماطة.. والبصل.. والأسماك.. والدواجن.. والبيض وغيرها.. لكن مشكلات الغذاء كانت واضحة في قلة الأسماك والألبان والبصل
والطماطة.. الى درجة إن الطماطة ومعجونها فقدت من السوق لمدد طويلة.. وبالرغم من إن معظم العوائل العراقية تصنع معجون الطماطة في البيوت خلال موسمها.. لكن ذلك لم يكفي..
لم تعالج الدولة موضوعة الإنتاج الزراعي بشكل علمي.. وكان الاستيراد والتصدير حكراً على الدولة.. ووجهت أجهزتها الحزبية لمحاربة غلاء أسعار المواد الزراعية التي تباع بأغلى من أسعارها بالقوة وبمصادرة المواد وحتى باحتجاز الباعة.. لكن مشكلة الطماطة ظلت قائمة كل سنة.. بالرغم من التوسع في زراعتها.. والبدء بإقامة البيوت الزجاجية لزراعتها في غير موسمها.. والتوسع باستيراد كميات منها من الخارج.. استمرت أزمة الطماطة..
حدثت اخطر أزمات الطماطة في شتاء العام 1971 واستمرت لتغيب الطماطة ومعجونها من الأسواق تماماً لفترة طويلة.. وخلال الحرب العراقية الإيرانية توقف استيراد أكثر المنتجات الغذائية.. فعادت أزمة الطماطة من جديد.. وأصبحت أزمة مستديمة..
وفي خريف العام 1980 وأنا أودع الوفد الاقتصادي العراقي في مطار روما العائد الى بغداد.. اندهشت وأنا أشاهد رئيسة الوفد ـ رئيسة اللجنة الاقتصادية في مجلس الوزراء وهي تحمل معها صندوقي طماطة طازجة الى بغداد .. واستمرت الأزمة..
في العام 1987 نشر الدكتور محمد مهدي صالح المدير العام في وزارة التجارة مقالة في إحدى الصحف العراقية.. عن حل أزمة الطماطة مؤكداً فيها: إن الحل يجب أن يكون عراقياً.. وذلك بعودة العائلة العراقية لعمل معجون الطماطة في بيوتهم خلال موسم الطماطة.. مثلما كانت أمهاتنا وجداتنا تصنعه في البيوت (على حد تعبيره).. مكرراً ذلك خلال مقابلة تلفزيونية معه حول أزمة الطماطة..
يبدو إن الرئيس صدام أعجبته فكرة الراوي.. فأصدر مرسوماً جمهورياً بتعينه وزيراً للتجارة.. وافتتح الوزير الجديد عمله بمنع استيراد الطماطة ومعجون الطماطة تماماً.. و لم يستطع أن يفرض على العوائل العراقية صنع معجون الطماطة في بيوتها.. فالعائلة العراقية كانت منشغلة بضيمها في الحرب مع إيران.. التي أكلت كل شبابها.. وهكذا فشل الحل السحري للسيد الوزير لأزمة الطماطة.. وجاء الحصار الاقتصادي على العراق العام 1991 ليحل أزمة الطماطة، فانشغل العراقيون بالحصار.. وأصبح الغذاء الرئيسي اليومي للعائلة العراقية الباذنجان (شوياً.. أو قلياً).. وأصبحت الطماطة في ظل الحصار سلعة ترفيهية..
بعد العام 2003 حُلت مشكلة غذاء المواطن بفتح الاستيراد على مصراعيه.. وهكذا لم تحدث أزمات في غذاء المواطن.. زادها سهولة تصاعد نسب الفقر والبطالة في العراق.. وبعد انخفاض أسعار النفط منذ ثلاث سنوات بدأت مطالبات المزارعين العراقيين بحماية الإنتاج الغذائي الوطني بتقليل الاستيراد.. فكانت هذه السنة.. الأولى في تطبيق منع دخول الطماطة الأجنبية للسوق العراقية.. فوقع الفأس بالرأس.. وعادت حليمة الى عادتها القديمة..
بقيً أن نقول أن كل الحكومات المتعاقبة منذ تأسيس العراق الحديث لم تقم بواجبها الحقيقي في تأمين الأمن.. والحياة.. والغذاء.. والتعليم للمواطن العراقي.. تريدون حكومات ما بعد 2003 تؤمن الطماطة.. هيهات..