واحد من أهم التفسيرات التي توضح سبب الازدواجية لدينا اليوم هو حالة التناقضات التي نراها في المشهد السياسي . وفي خضم الصراعات التي نعيشها منذ عقود تتصاعد هذه التناقضات ، بفعل فاعل ، لتغشي الأبصار وتعمي العقول وتحيد الفكر عن رؤية الحقيقة كما هي . وأضرب مثلا على ذلك : مفهوم الفساد ، فبإمكان أي متبصر أن يضع تعريفا محددا لهذا المفهوم على ضوء المعايير التي وضعها العقل البشري وقيم الحضارات الإنسانية المتعاقبة . سواء كان الفساد في القيم والعقائد أو في السلوك ، في النظرية أو في التطبيق . ولكن المشكلة لا تنتهي بتعريف مفهوم الفساد وبيان أنواعه ، حيث لا يختلف على ذلك اثنان إلا ما ندر، المشكلة هي في تحديد من هم الفاسدون ؟ هنا يأتي دور التعمية والتمويه ، وان يوضع المواطن مجبرا أمام حالة من التناقضات والتشويهات المبرمجة لحالات معينة بسبب كثرة وجود الأقنعة الزائفة ، وعدم الثبات في الموقف ، وعدم الصدق ، والمراوغة والدهاء وأسلوب تبادل الادوار، الخ . وهي وسائل مؤثرة في خلق التناقضات التي تجعل معظمنا غير قادر على معرفة حجم الفساد الحقيقي في مفاصل الدولة ، ولا نعرف حقيقة لحد الآن من هو الفاسد ومن هو المصلح ؟ من هو اللص ومن هو الرقيب ؟ من هو الشريف ومن هو الفاجر ؟ والمشكلة تزداد تعقيدا اذا ما اقترن الفساد في التخطيط مع الفساد في السلوك ، والكل يستخدم بطولات الأنا في الهجوم والدفاع ، وبات الوضع مرتبكا ومربكا في ذات الوقت . والسؤال الذي يتبادر الى الذهن مرارا وتكرارا : هل نركن الى الصمت أم نسعى الى التغيير ؟ وما هي أداة التغيير النافعة سلميا عندما لا ينفع استخدام القوة ؟ هل ان الانتخابات القادمة كفيلة بعدم عودة الفاسدين الى الحكم والادارة ؟ وهل يجدي نفعا ان نشارك في الانتخابات بمنتهى الحرية والوعي وحسن الاختيار؟ وهل يمكن ان نتجنب الاصطفافات الضيقة بعيدا عن مصلحة العراق ؟ ومن يضمن عدم حصول تزوير في الانتخابات القادمة مثلا ؟ هل بالإمكان تغيير الوجوه الحالية ، أم ان المحاصصة التي تسبق الانتخابات شر لابد منه ؟ وهناك من يجزم دائما بان عدم المشاركة بحد ذاته سيترك فراغا كبيرا سرعان ما يملأه الفاسدون.
في حقيقة الامر هناك إشكالية كبيرة في تقبل مفهوم الديمقراطية في العراق ، وربما في عموم العالم العربي أيضا ، وذلك لتناقضات البناء السايكولوجي مع متطلبات التجربة الديمقراطية وتقاطعاتها مع إفرازات الموروث الحضاري القائمة على أساس تقديس الصورة النمطية وحكم الفرد الواحد . أن تأثيرات التعددية السياسية الزائفة والصراعات المستديمة بين المحافظة على الموروث والرغبة باللحاق بركب الحضارات التقدمية ألقت بظلالها بشكل لافت على طبيعة الأنظمة السياسية الحاكمة لدينا . أضف الى ذلك فان الشعب العراقي كان قد وضع مجبرا أمام قوى وتكتلات وأحزاب سياسية محددة مسبقا وعليه ان ينتخب او يختار منها من يعتلي الكرسي أيا شاء . أية ديمقراطية هذه التي تجعلك تنتخب المنتخب ؟ واية ديمقراطية هذه التي تجعلك تدور في نفس الحلقة كل أربع سنوات ؟ لا أدري هل ان الديمقراطية الحقيقية هي ان يفرض الناخب ارادته في الصندوق أم يتنازل ويخضع لإرادة المرشحين ومن يقف وراءهم ؟ وبالرغم من وجود وعي كبير لدى الناس بحجم المشكلة واساسها ولكن تبقى هناك مساحة كبيرة من الارادات المعطلة التي تساهم فعليا في صعود الفاسدين مرة أخرى الى سدة الحكم ومنصة القرار تجعلنا في دوار دائم لا نعرف له حدود .
المشكلة ان الأحزاب السياسية الحاكمة في العراق تعمل على اختزال العملية الديمقراطية بصيغتها المستوردة الى جزئية واحدة هي حكم الأغلبية وتترك باقي الجزئيات التي تدعم صعود الكفاءات والنخب الى سدة الحكم وتساهم بخلق جو من التحرر والوعي والتخطيط ومواكبة تطور العالم في شتى المجالات . ومن الطبيعي جدا أن تجد الأحزاب السياسية سوقا رائجا لبضاعتها القائمة على أساس الاصطفافات العرقية والدينية والمذهبية المدعومة من قبل قوى خارجية . وبالرغم من تنامي شعور الناس بالإحباط الا ان الأغلبية الساحقة للمشاركين في الانتخابات السابقة والقادمة يصدقون بالكذبة الديمقراطية الكبيرة تحت تأثير عامل التعددية السياسية المؤثر في استقطاب الناس بقوته المتوزعة على الجميع ، ولكن لن يقدم لنا أي شيء سوى التراجع والتدني والانحدار.