19 ديسمبر، 2024 1:56 ص

هل نحن ننتخبُ حقا ؟؟

هل نحن ننتخبُ حقا ؟؟

من خبرتي  المهنية المتواضعة في آليات  الانتخابات العراقية  أجد إن الخلل الجوهري ليس في اجراءات المفوضية  المشرفة على الانتخابات او القوانين الحكومية العراقية  المرافقة لها .. فالاجراءات الميدانية والمهنية تبدو سليمة الى درجة معقولة تماما  وفي العلن وامام المراقبين الدوليين والمحليين ووكلاء الكيانات السياسية  ووسائل  الصحافة والاعلام  المختلفة .. ،كما ان الناخب الذي يُجرى له  غسيل دماغ  أو شراء ذمته  بكل السبل ..   سوف يكون في حلّ تام  ” عمليا” من كل  قيوده واغلاله الشكلية ,,  وهو ” الناخب” مهيأ تماما لاطلاق صرخته على البياض .. لا احد  يتدخل  .. تنتهي حالة الترغيب والترهيب معا  ” ميدانيا ”  والجميع   في كابينة الانتخاب  أحرار بالمعني المهني .. ..
إذن ماهي المشكلة ؟  لماذا يخذل المواطن  العراقي رغبة المجتمع الجمعية  في الخلاص من المفسدين والمجرمين والقتله ، ما هي علّة هذا الكائن العراقي ونهمه في انتاج حكّاما واولياء أمور ورمزا ؟؟
هناك اسباب  كثيرة  سأعرج على  أهمها من وجه نظري :
1- يبدو من  الواضح ان المجتمع العراقي  لحد الآن غير قادر على استيعاب التجربة الديمقراطية  كاملة وهذا منطقي لاننا في الصف الثالث الابتدائي  من الرؤية العالمية لمعني الديمقراطية .. لا زلنا نحبو  وربما سنصل .
2- الديمقراطية ليست مجموعة اجراءات   إدارية  أو قرارات سيادية  بوصف هذا  الشعب بالديمقراطي ام خلافه .. الديمقراطية  نشوء وارتقاء ، تجربة وخطأ   ، صراع بنيوي حقيقي بين الماضي والحاضر والرؤية المنضبطة للمستقبل .
3-  الشعب العراقي  لم يشهد  مثل هذه التجربة بأفقها العالمي  طوال  تجربة الدولة العراقية منذ تأسيسها عام 1921 .. وماعدا فترة الملكية وحتى نحرها  عام  1958  لم يتوافر العراقي على ثقافة  الانتخاب  والاستفتاء وإبداء الرأي . وكان العراقي  دائما مجيّرا  لحزب أو دين أو عشيرة أو عرق .. الخ .
4- هناك قصور كلي في التواصل مع مهد التجارب الديمقراطية في العالم  ” الذي  نستورد آليات عملها التقنية فقط” بسبب  انعزال العراق عن تجارب  الثورة الاتصالية .. في ظل حكم الديكتاتورية  السابقة ، فالعراقي لم يستفيد من عطاءات  ثورة الاتصالات  بكل ابعادها التواصلية  ذات التقنية العالية  ، إلا بعد سقوط الدكتاتور الذي هيمن على نمط الحياة العراقية  وصاغ نموذجها سياسيا وتربويا وتعليميا وقضائيا   لعقود طوال .
5-  البعد عن معطيات الإتصالات  أرغم العراقي على  اجترار وعيه الفردي والجمعي بخصوص الاشخاص ودور الفرد في الحياة  السياسية والاجتماعية ..  فلابد من رمز  .
6- الفترة التي سقط فيها حكم الديكتاتور  لم تتح  للعراقي فردا ومؤسسات واحزابا  ان  يتكاشفوا بشكل طبيعي وأمام  محاكم عادلة على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري .. بل شهدت حقبة السقوط ميل فطري لدى العراقي لتهديم الحياة برمتها ، وهذا واقع انساني  عام ، فعندما تغيب الدولة  ممثلة بالعقد الاجتماعي والنظام تبرز الفوضى بكل تجلياتها . فقد شهد العراق عودة “الفرهود”  بوضوح وفي كل الحقول ..
7-  لقد ساهمت الدول الغربية ممثلة براعية التغيير أمريكا وحليفاتها  وبشكل  مقصود احيانا ، أو بشكل عشوائي  تارة أخرى في حماية الخراب  العراقي لضمان مصالحها الوطنية  والاستحواذ على  منابع الثروة العراقية  المادية والبشرية  / لكي تبرر لشعوبها: ان مغامراتهم في   عالم الشرق البعيد ” وتحديدا في عالم الف ليلة وليلة ”  لم يأت مجانا ,
8- النموذج التي روجت له  امريكا في العراق ” الشرق الاوسط الجديد” اربك  حسابات دول الجوار  فآحتاطوا   له تماما  لذلك لم تحدث لحد الآن هزات عنيفة في المجتمع الخليجي  او الايراني  ، وهذا مما دعا  هذه الدول الى  تعاضد بشكل منظم وغير منظم  للدخول الى  ساحة العراق ميدانيا وبثقل كثيف استخباري وسياسي واقتصادي  للمحاولة الجادة في افشال النموذج الامريكي في المنطقة .
9- السياسي العراق  واحد من اهم ادوات فشل النموذج الديمقراطي بوصفه لاعبا فاشلا  ومزدوج الولاءات  .. فهو لم يقدم برنامجا وطنيا محضا . وظل معلقا  بالحاضنات التي رعته عربيا واقليميا ودوليا ..
10- هذه الاجواء  المرتبكة  وسيادة الظلام وقلة فاعلية العقل البشري  ستبدو النصرة للتيارات الدينية  مؤاتية تماما ـ لما تمتلك  هذه التيارات من  خزين  جمعي لتأليب خطاب المظلوية  دينيا  وطائفيا وسياسيا ..
11-  بهكذا  ظروف محلية واقليمية ودولية  وفراغ  حواري جاد    بين اطراف العملية السياسية الجديدة  لتشتت خطابها  وولاءاتها  وأولويتها مع تغييب تام وتعتيم على الصوت الوطني العلماني والحر المستقل  / سيكون الناخب العراقي  في حيرة من أمره  ، فهو غير  قادر على  إنتخاب الحاضر لانه خَبًره عمليا واثبت  عدم جداوه ولكن الذي يقلقه   هو المستقبل  .
12- هنا بدأ  التثقيف على ثقافة اليقين ، ثقافة  الأمثال  الشعبية ” الشين اللي تعرفه  خير  من الزين الليما تعرفه”   .. ولايوجد  اكثر من الدين والطائفة والعشيرة والعرق والنسب وسائل اكثر جدية لشيوع هذا المناخ الفردي   والانتصار بخطف الجماهير  كرعايا  موقوفين لخدمة المقدس .
13- ساهم رجال الدين وعلى اختلاف مشاربهم  وحوزاتهم  ومللهم ونحلهم في  التثقيف  لتأكيد ولاية الفرد والحزب  .
14- فقدان السياسي العراقي الى رؤية وطنية واضحة  أسقطه في بحر التحالفات السياسية القصيرة الامد محققا نظرية ” أغنم من الحاضر “.
15- الكتل السياسية الكبرى  والتي ساهمت في صياغة الدستور العراقي واشرفت على  التصويت عليه  اصبحت  متخبطة في تحالفاتها وشكوكها في   أولويات   مواد الدستور ، لان الدستور انما تمّت  صياغته برغبة  سياسية  وجعله ”  حمال أوجه ”  لغرض اختراقه  كلما تحين ساعة الانتخابات والاستحقاقات السياسية .,.
16- اعتماد  عامل المحاصصة السياسية  تحت غطاء الشراكة الوطنية  كان له الوقع  الفادح على النتائج الدراماتيكية في الوضع الامني والسياسي عموما ,
17- الفساد الانساني    وشيوع تمظهراته في الحياة العراقية  سياسيا وماليا واقتصدايا   وامنيا وصحيا .. الخ  قد أجبر الناخب العراقي   على إساءة استخدام  حقه  القانوني والطبيعي في  انتخاب من   يمثلونه حقا .
18- أخيرا  أن العراق  بكل هذه  المطبات والالغام  والأسلاك الشائكة . لا حل ّ أمامه سوى استثمار  الانتخابات بوصفها سلاحا مدنيا مضمونا  وبيد الجميع .. وعلى النخب السياسية والثقافية  والاعلامية وكل المهتمين بالشأن العراقي ان يجندوا  لتثقيف العراقي   بحقه في الذهاب  للإنتخابات  كنوع فعّال للمعارضة ، وكعلاج ناجح لإقصاء  المسؤولين  .. وان التداول السلمي للسلطة هو  النموذج  الذي سيعتمد في مجتمع يريد العيش بسلام وأمن وعيش رغيد.

أحدث المقالات

أحدث المقالات