23 ديسمبر، 2024 6:50 ص

هل نحتاج الصمت وقت الكلام ؟ !

هل نحتاج الصمت وقت الكلام ؟ !

في تصعيد جديد في وتيرة الحركة الاحتجاجية المتنامية يوماً بعد آخر، للمطالبة باصلاح احوال البلاد وتغييرها على نحو يضمن استقرارها وتحقيق مستوى معيشي لائق لابنائها، ويغسلها من ادران الفساد والعبث والتلاعب بالمصائر البشرية والاقتصادية على نحو سيئ لم يسبق له مثيل في تاريخ البلاد المعاصر.
التصعيد الجديد هذه المرّة ، حيث كانت خيم الاعتصامات المنتشرة طوفان غضب امام بوابة المنطقة الخضراء مربع السلطة والقرار، وبانتظار مترقب باستجابة الحكومة للمطالب الجماهيرية بتحقيق الاصلاح بهمة وحزم يمنحان الثقة.
تنامي وتائر السخط الشعبي ، واستمرار الازمة بهذه الطريقة ، حيث يشتّد عود الاحتجاج فيما الحكومة تسير الهوين بمركب سلحفاتي غير منسجم مع طبيعة الحال والمآل، في مناخنا المشتعل اساسا بالتناقضات ، واسباب الشك والحيرة والقلق ، وتخبط السياسات الاقتصادية والاجتماعية وهول معاناتها.
الحكومة مطالبة ان تظهر وعيا لما يجري، وان تمسك بزمام المبادرة الوطنية الذي تملك في يدّها مفتاحه بغض النظر عن مشهد تشابك القوى وتعقيدات بعض الطروحات، التي هي جزء من اصل المشكلات بدل الحلول.
تناغم الحكومة مع الحركة المطلبية بشفافية وصدق الوعود من شأنها وضع مخرجات حلول الأزمة المتفاقمة مع توسيع دائرة المشاركة وعدم الاقتصار على القوى السياسية المشاركة في الحكومة، فالبلاد خسرت مع الاسف
احدى قواعد اللعبة الديمقراطية التي كانت مفعّلة لوهلة من الوقت في بداية مشوارنا السياسي الجديد ، الا وهي الاصغاء الى الآخرين، من قوى سياسية خارج لعبة السلطة ومنظمات المجتمع المدني برغم وضوح ضعفها وحدود امكانياتها، فالحديث الان انما عن التغيير والاصلاح وحدودهما راهنا.
الحكومة مطالبة الآن ، بالاقدام على خطوات ملموسة بعد كل هذه المدّة الممتدة لاعوام، التي شهدت تأكيدات المرجعية الرشيدة بضرورة ضرب المفسدين بيد من حديد ، وقد تعاظم شوق الجماهير لمشهد محاسبة المفسدين ، الذين هدروا مستقبله وطحنوه بالوان المحن، لكن توالي الايام كشف تعثر اجراء الاصلاحات برغم الوعود الحكومية المتكررة التي اكدت انها سترسم لطريق الاصلاح معالمه وإنْ بالتضحيات ولكن ما نيل المطالب بالتمني.
لجوء الحكومة الى صرف المزيد من الوقت بالتأخير، أزاء المدّ الصاعد من مختلف العوامل المادية والنفسية الضاغطة، ليس له ما يسوغه لاسباب واقعية مستقاة من مشهد تجاربنا المكررة من دون اعتبار، فمعظم القضايا الوطنية لم يجر عليها اتفاق الا بعد هدر وقت ، واحياناً لم يكن هذا الوقت المهدور في مصلحة البلاد وامنها وحجم مشكلاتها.
مع اية قضّية كانت قد طرحت منذ عام 2003 والى الآن على بساط البحث والنقاش الوطني ، تنخرط القوى السياسية في سجالات يمتد حدود بعضها الى نواح مجهولة غير مطلوبة، فالقضايا العامة تتطلب ايجاد مشتركات مع الآخرين ، لانها تطلب بطبيعتها تظافر الجهود فالمركب لا يسير لوحده .
وكثيرا ما احتدمت مشاوير المفاهمات مع عدد من الامور حد الازمة التي تظهر جلية، خاصة عند تشكيل الحكومات العراقية ما بعد التغيير، وبعد اجراء الانتخابات حيث يدور الخصام بخصوص كعكة السلطة ، وليس برنامج العمل العام الذي يهم الناس النائمين على زبد الوعود والذين انتخبوهم.
وبالتدقيق في مسار الحوادث ، تعطل تشكيل احدها مدة تقارب العام، وسط حيرة شعبية واجواء متاهة اقليمية دولية ، أوشكت البلاد دخولها لولا تدخل الرئيس بارزاني الذي اجمع كلمة القوى السياسية على وحدة كلمة الحكومة وهذا غيض من فيض. من المؤسف ان تكون القضايا الوطنية بما يصعب منها او يسهل ، محل مناقشات وسجالات عقيمة، تدور في الفراغ تطحن الوقت بلا حساب لقيمة الزمن المهدور وتداعياته على نتائج ما تم بحثه إن على الصعيد الموضوعي او حقائق الواقع المحركة للجماهير. ولا ادعي للاطالة هنا في الكلام عن ما جرى وهو كثير في اخطائه وهفواته ونواقصه وفشله وتعطيله لاحكام الدستور، الذي لو استظل بظلاله لكانت تجربة البلاد في منعطف تاريخي تمتلك فيه المقومات الذاتية للثبات والنماء.
والآن ، بعد الخراب والفشل والفساد المستشري ، الذي خلف كل هذه اليأس والقنوط والغضب، تحتاج الحكومة الى لحظة تاريخية محركة وسط الصمت والمساجلات المحيطة بها ، لتعلن الى الملأ الشعبي بدء مسارها التاريخي الموضوعي الجديد، كي يكون هو الرد بما تمتلكه على الاقل من سلطة قرار وهو واسع بلا شك ، فالرد على الانفجارات الشعبية السياسية بدواعيها الاجتماعية والاقتصادية، لابد ان يكون حازماً وعاجلاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً حتى تتوازن الامور. فمن بين الامور الممكن اجراؤها، اعادة هيكلة الدولة والتخلص من الفائض المفرط من المناصب والمسؤوليات
الحكومية من دون حاجة ودواع لها التي ترهّل مفاصل الحكومة وترهق ميزانيتها ويتحمل وزرها المواطن من قوته اليومي، فضلا عن دفع قضايا الفساد الى جهتها القضائية للبت فيها واسترداد الاموال المنهوبة.
تأخير الحكومة في الرد على الجماهير كل هذا الوقت ، يعطيها بُعد المناورة والخداع وهو ما يخلق الاحساس بالمرارة المشحونة بالشكوك ازاءها وقصديتها. فهذه الازمة لا يمكن التأمل معها ، الا بمنطقها الرافض لكل اشكال الفساد وسوء الادارة ونهب المال العام بذرائع المحايلة القانونية وانحسار الخدمات وتراجع دور الدولة على اكثر من صعيد وقضية. فالامتحان صعب والمرحلة مرهقة بأكثر مما تحتمل.
من شأن التأخير ايضاً ، خروج حدود الضبط بما يضاعف حمى الازمة ، ليدفعها باتجاه الحلول الامنية، وهي اشارات لابد ان تكون بعيدة عن ما يجري ، فهي تفقد شرعية اية حكومة منتخبة ، كما ان الانظمة الديمقراطية ليس من شأنها اقحام شرطتها وجيشها في التصدي لمطالب الشعب التي كفلها الدستور، وصانها القانون فالمؤسسات الامنية والعسكرية بعيدة عن المناخ السياسي العام ولا يجوز تسييسهما.
في حمى الازمة ، ينزوي البرلمان جانبا، حيث لاحراك له او صدى او اية دعوة لاسباب معروفة ، لكن المسألة هنا تتعلق بمصالح فئات وطبقات وشرائح مختلفة، هو يمثلها بعيدا عن منطق الانتساب لهذه الجهة او تلك ، فاذا صمت البرلمان وضعف المنطق الوطني فمن يكون صمام امان؟
ضاعت فرص كثيرة وافرة وواعدة في بناء التجربة الجديدة في البلاد ، بعد فرصة الاطاحة بالدكتاتورية لاسباب وعوامل عديدة، لعل اهمها الاتجاهات السلطوية ومفرداتها في الهيمنة على مفاصل الدولة لتحقيق ذلك ، ومحاولة اقصاء الآخرين في ممارسة لعبة قديمة في غير آوانها، فهي جزء من
ميراث الماضي الذي اطاحت به حقائق راهننا الدولي والمحلي الحالي، لان المناخ الديمقراطي مناخ تعايش ومفاهمات وحوارات ومعالجات ، وليس طريقاً لاشهار السلطة وحذف الآخرين بناء على مقدمات المصالح الضيقة الشخصية والمنافع الفردية ،بما يؤدي الى تناقضات تناحرية لا مفر منها ولا تحقق اية مصلحة لاية جهة كانت .
ومن مفارقات الفرص الضائعة، ان المكونات العراقية حظيت بمشاركة فعّالة في مستهل المشوار التغييّري بعد عام 2003 ثم جرى التضييق عليها لاحقا، عندما تحول المسار من مشروع بناء ديمقراطي الى مشروع بناء سلطة بما، يجره ذلك من كوارث تجد مأثوراتها في بطون تاريخنا المعاصر القريب المليء بأنواع الكوارث وتداعياتها.
الاخفاق في وجهه الآخر، تمثَّل بانعدام حالة التوازن المجتمعي المطلوب في تحقيق التقدم الاجتماعي ، الذي يضمن تضامنه توفير ارادة وطنية مرنة وقوية قادرة على صياغة وايجاد الحلول من خلال مشاركتها ودورها في تحمل المسؤولية المشتركة ازاء مصير البلاد وامنها، اذ ان ابعادها عن الساحة يؤدي الى شلل في القدرات الجمعية في البناء وتجاوز الازمات. لقد قدمت معادلة التوازن التي اتسم بها صدر التجربة العراقية نوعا من عوامل الثقة بالنفس ، وتوفير الامكانيات الذاتية الزاخرة لحل المشكلات الذي وجدت صداه في المشاركة الكوردستانية طوال مدة حرب تحرير العراق ثم المرحلة الانتقالية حتى اليوم، حيث ادى الطرف الكوردستاني دوراً عظيماً ومشهودا، ومن المؤسف ان يتم تجاهل هذا الدور لإلحاق الاذى والألم بمشاعر الشعب الكوردستاني. كوردستان بوابة السلام والثبات والموقع المتقدم في الحرية والتعددية وثقافة التسامح والديمقراطية بما يعطي كل ذلك من مكسب معنوي لمختلف معادلات البلاد.
حكمة الحركة الاحتجاجية ، تطرح حقائق سياسية تحاور بها الحكومة، التي عليها الخروج من قمقمها بحوار ناصح مستجيب، تقترب فيه من وجدان الناس وتلتقي مع آمالهم، بدلا من ان يتحول السخط الى مرجل يفور ليغلي مشاعر الناس اكثر ليدفعنا للمجهول.