يعد القطاع الصحي في العراق من القطاعات الصحية الضعيفة على وفق المعايير العلمية العالمية من حيث حجم الإنفاق وتوفر البنى التحتية والقدرة على تلبية كامل احتياجات السكان في الحالات الطارئة والباردة وتوفر الاحتياطات لمواجهة الازمات ، ويفتقر قطاعنا الصحي إلى اعتماده لأنظمة صحية معينة لأنه يتكون من مجموعة فعاليات وبرامج لا تعتمد بشكل كامل على الاستراتيجيات ، ويتم تسيير اغلب الفعاليات على ما تبقى من مقررات مؤتمر ألما آته العالمي المنعقد في ( الاتحاد السوفيتي ) عام 1978 وبعض النصوص التي وردت في قانون الصحة العامة رقم 89 لسنة 1981 ، وهي ن بقايا محاولات جادة بذلت في البلاد لإنشاء نظام صحي بلغت ذروتها في الأعوام 1988 – 1991 وتدهورت وأهملت بعد عام 1992 بسبب الحروب والحصار وضعف الإدارات ، وصحيح إن هناك برامج للرعاية الصحية الأولية في المراكز الصحية وخدمات علاجية في المستشفيات تقدمها ملاكات على درجة معقولة من الكفاءة ، ولكن نقص التخصيصات المالية وتقادم البنى التحتية وانتشار الفساد وتهاون الإدارات وهجرة الكفاءات يضعف من كفاءة وفاعلية تلك الفعاليات ، وفي ظل التدهور في القطاع الصحي الحكومي فقد انتعش القطاع الطبي الخاص وتحمل المواطن أعباء الأجور المرتفعة في الأجنحة الخاصة في المستشفيات الحكومية ، وعلى العموم فان أكثر ما يعانيه قطاعنا الصحي هو ضعف الهوية والانتماء نظرا لوجود تداخل كبير بين القطاعين الحكومي والأهلي مما يجعل المواطن من ذوي الدخل المحدود يواجه عدة مخاطر وتحديات وبعضها يؤدي إلى الاستسلام للقدر بسبب الفقر ، وبسبب وجود الإمراض المتوطنة في البلاد وتعرضه إلى موجات وبائية تكاد تكون منتظمة خلال المواسم كل عام ، فان خبرة القطاع الصحي في الجانب الوقائي أكثر شمولية من الفروع الأخرى ، آخذين بنظر الاعتبار إن بلدنا لايزال يتمتع بالدعم والمساعدات من المنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونيسيف في مجال اللقاحات بالذات ، بعضها ليست حبا بأبنائه وإنما لتجنيب الدول الأخرى الإصابة بالأمراض السارية والمعدية مثل ( السل الرئوي ، الكوليرا ، البلهارسيا ، الملا ريا ، شلل الأطفال ، الليشمانيا ، غيرها ) ، وهذا من حسن حظ العراقيين لان الخدمات الوقائية يتفرد بتقديمها القطاع الحكومي نظرا لارتفاع تكاليفها ولكونها مجانية وتتعلق بشرائح الشعب المختلفة وأكثرهم من الفقراء غير القادرين على دفع أجور القطاع الخاص ، ولولا هذه الميزة لانتشرت الكثير من الأوبئة السارية والمعدية بشكل رهيب داخل العراق وتتسلل إلى خارجه بيسر .
وان من العوامل التي يسرت التعاطي مع وباء كورونا nCoV-2019) ) هو التعامل معه كونه وباء ومعاملته بضوء البروتوكولات والإجراءات الدفاعية الوقائية من خلال إتباع مجموعة من السياسات القائمة على أساس الحظر والحجر والتحري الوبائي وإعطاء مساحات مكثفة للعلاج عند حدوث الإصابات بضوء الإمكانيات المتاحة ، وخبرة وإمكانيات قطاعنا الصحي في مجال الوقاية أوسع وأعمق وأكثر مناسبة كون بلدنا يمتلك خبرات متراكمة من أيام الطاعون والكوليرا وغيرها من الوبائيات ، وهي سياسات أثبتت جدواها وعبرت عن وعي وإدراك خلية الأزمة الصحية المشكلة بالأمر الديواني 55 لسنة 2020 لما يجب اتخاذه من إجراءات بالتنسيق مع الجهات الساندة في الدولة والمجتمع ، ولو لم تتبع هذه السياسات لحدثت مآسي لا تحمد عقباها لان الغطاء الصريري في البلد المكون من 43 ألف سرير في أحسن الأحوال لا يتناسب مع عدد السكان ، كما إن هناك نقصا واضحا في أجهزة التنفس وردهات ومتطلبات العزل والحجر والإنعاش والمختبرات المتخصصة حيث يتم الاعتماد على مختبر الصحة المركزي في بغداد باعتباره الجهة المختبرية المرجعية لكل المؤسسات الصحية في العراق ، ومؤخرا تمت إضافة مختبرات جديدة لزيادة عدد الفحوصات وتسريع ظهور نتائجها بما يضمن المباشرة الفورية بالعلاج لتقليل الوفيات ، كما يعاني البلد من ضعف الصناعات المتعلقة بصناعة الأجهزة والمستلزمات الطبية والصناعات الدوائية المحلية لا تنتج كل الأنواع والاحتياجات ، وكما تم إثباته من الناحية الفعلية فان الالتزام بغلق الحدود والتنقل بين المحافظات وحظر التجوال وان كانت متأخرة فإنها كانت ايجابية من حيث تقليل وحصر الإصابات ومنع انتشارها لان سببها فيروس ، فالمناطق الأكثر رصدا للإصابات تقع في محافظات ومناطق معروفة والتي تشكلت فيها بؤر تحتاج إلى جهود اكبر في الرصد والتحري والعلاج ، والجزء الذي لم يكتمل هو إهمال الإمكانيات التي تتمتع بها الجامعات والمراكز والمؤسسات البحثية وعدم ولوج حشد الإمكانيات التطوعية لتسريع إيقاع الإجراءات واستثمار المبادرات والإبداعات ، ناهيك عن عزوف الحكومة في تعويض المحظورين لتمكينهم في سد متطلبات الحد الأدنى من الاحتياجات المعيشية للعائلة والفرد وتشجيع التعاون والتعامل مع السلطات الصحية والمعنية بإيجاب .
وقد يعتقد البعض إننا نتكلم بهذه اللهجة الايجابية وكأن المعركة قد انتهت فالبعض يعتقد إن الرفع الجزئي او الكلي عن حظر التجوال الذي ستشهده الأيام القادمة سيعني سلامة بلدنا من ها الجائحة ، وهو اعتقاد مخطوء بشكل كلي لأننا نواجه وباءا عالميا يتم مروره عبر الحدود ومن المحتمل انه ينتقل بالهواء وان هذا الفيروس الناقل للوباء قابل لتطوير نفسه إلى أنواع وإشكال غير معروفة بعد ، والمسالة الأخرى ذات العلاقة بالوباء إن لقاحاته لم تنتج بعد وعند إنتاجها يجب إثبات كفاءتها قبل تطور الفيروس ، ويضاف لذلك إن بروتوكولات العلاج المستخدمة حاليا لم تحظى بمعوليه مطلقة لأنها في طور المحاولة بدليل ظهور العديد من الوفيات وعدم اعتمادها في كل البلدان ، وكما هو شائع في الوبائيات فان هناك احتمال وجود Carrier بين السكان وهم من فئة الإفراد الذين يحملون الفيروس ولكنهم قادرين على نقل العدوى للآخرين دون ظهور الأعراض عليهم مما يتطلب الكشف عنهم وإخضاعهم للعلاج ، والكشف عنهم يتطلب مسوحات شاملة ضمن إجراءات التحري وهي عملية مكلفة وشائكة وتصطدم بثقافة الجمهور ومدى تقبل فكرة إخضاعهم للفحص والعلاج في ظل غياب الأعراض ، وان تحديات بهذا الوصف تتطلب مزيدا من العناية بما يتطلبه الوباء وتمكين الملاكات المحلية في الانفتاح على تجارب الدول الأخرى التي أصابها الوباء إضافة للصين التي يتم التعاون معها ، كما انه من الضروري قيام الدولة بإسناد القطاع الصحي من خلال تخصيص المزيد من الأموال التي يتوجب حمايتها من الفساد لتوفير معدات الوقاية والعلاج ومنها مواد التعقيم وتجهيزات الملاكات الطبية والصحية وبقية العاملين وعموم المواطنين ، وان هكذا أمور لا يمكن تركها للتبرعات والمبادرات الفردية وإنما إدارتها مركزيا من خلال جهة محددة تتحمل كامل المسؤولية ، لان ما نشهده اليوم هو تشكيل خلايا متعددة فواحدة نيابية وأخرى للسلامة وأخرى صحية وخلايا فرعية في المحافظات ، رغم إن الوباء واحد والتصدي له يكون من خلال حزم معينة من الإجراءات وليس التشظي والتفرع والتقاطع في بعض القرارات ، وقضية الوباء ليست بالأمر الهين لأنه يحتاج إلى زمن قادم غير معروف قد يمتد لشهور في أحسن الأحوال مما يتطلب المراقبة الحازمة للمنافذ والحدود ، وما قطعه القطاع الصحي من خطوات تعطي نوعا من الأمل الذي يتطلب الحذر الشديد لان أي غفلة تحدث المأساة ، لذا فمن الضروري الاستمرار بهذه المهمة دون مصادرة الجهود ومحاولة البعض في استثمارها في غير أغراضها ، لان المطلوب هو دعم وتكريس الجهود الايجابية وحمايتها ودعمها وتحفيزها والثناء لنتائجها وعدم ترك أية ثغرات او حجج في أدائها لمهامها وتزويدها بما تحتاجه وتلك مسؤولية الدولة أولا وأخيرا .