أحدث انخفاض اسعار النفط العالمي وما ترتب عليه من سلبيات على الموازنة العامة للبلاد موجة عارمة من ردود الفعل على كل المستويات، وقد سبقه نقاش واسع على أكثر من مستوى بين مؤيد لسياسة تقليص النفقات والتقشف وإعادة ترتيب الاولويات، على انها الحل الوحيد للخروج من الازمة الاقتصادية التي يعاني منها العراق وبين معارض على اساس ان هذه الاجراءات لن تستهدف الا الشرائح الفقيرة التي تعيش حالة تقشف دائم اصلا ولن تمتد الى رواتب كبار المسؤولين والمدراء وامتيازات النواب والرئاسات، الخ.. وأمام غياب البدائل والحلول لمواجهة التحديات والظروف الأمنية التي يمر بها العراق كونها تولي المجهودات الحربية امتيازا وأولوية بنيت موازنة عام 2015 على اسس تقليص النفقات الجارية وتأجيل بعض المشاريع التي عليها أعباء مالية كبيرة، واقتضت الضرورة أن ينظر إلى أساليب التقشف من أجل ترشيد النفقات المرصودة لكثير من القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية واستغلال الموارد المادية وعقلنة تدبيرها ، وطبيعي ان تعصف مثل هذه الاساليب الصارمة في التعامل مع اموال الدولة بالتعليم العالي والجامعات خصوصا بعد ان تم قطع مليارات الدنانير من موازنة التعليم العالي. وفي ظل هذه الاجواء كان من البديهي ان ينعكس تقليص النفقات سلبا على العملية التعليمية ، ومنها ما يتعلق بالابتعاث للدراسة في الخارج والمشاركة في المؤتمرات والإيفادات ومخصصات الاساتذة ورواتب طلبة البعثات وعدد الدرجات الوظيفية المخصصة للجامعات، والإجازات الدراسية والمشاريع الجديدة وتلك التي هي تحت الانجاز. ولا بد لنا من التذكير ان 80% من ميزانية الوزارة هي رواتب للموظفين والتدريسيين مقارنة بمعدل 50% من الميزانية التشغيلية في الجامعات الغربية بالرغم من ان رواتب الموظفين والاساتذة اقل مما هي عليه في الجامعات الغربية مما يدل على التضخم الهائل في عدد الموظفين والتدريسيين. ومن غرابة الامور ان يعكس هذا التضخم صورة ايجابية في نسبة التدريسيين الى الطلاب الذي هو احد معايير جودة التعليم في العالم مع ان هذه النسبة ليست لها علاقة بنوعية ومستوى التعليم والتعلم في الجامعات العراقية ولا بحاجة حقيقية للتعليم والتدريس والبحث العلمي.
ومع انه كما يبدو ان الوزارة لا تعاني من ازمة مقترحات للبحث عن حلول لتقليل عجز الموازنة إلا اني مع ذلك اجد فرصة مناسبة في هذه الظروف لطرح ثلاثة خيارات يكمن فيها حل ملائم لأزمة عجز الميزانية من دون التضحية بالمستوى الاكاديمي. الخيار الاول هو إلغاء كل مشاريع انشاء الجامعات الجديدة، والثاني تحقيق الهدف الستراتيجي في منح الجامعات استقلاليتها المالية، والثالث اعادة التركيب التنظيمي للكليات والاقسام.
إلغاء مشاريع الجامعات الجديدة لن يوفر فقط اموالاً هائلة للوزارة والدولة، وانما سيؤدي ايضا الى ترسيخ وتمتين دعائم التعليم العالي، بالاضافة الى ضروريات واسباب عديدة منها:
1- هناك خمس جامعات عراقية شبه معطلة، والمهمة الحالية استيعاب طلبة هذه الجامعات ومنحهم المعرفة والتدريب الذي يستحقونه في جامعات اخرى.
2- الجامعات الحالية لها الامكانات الكافية لاستيعاب طلبة الثانويات من المؤهلين حقا للتعليم العالي.
3- الزيادة في عدد طلبة الجامعات ستؤدي الى زيادة في البطالة نتيجة الفشل في ربط اهداف الجامعات بحاجة السوق.
4- زيادة عدد الخريجين سيؤدي الى زيادة الطلب على الوظائف الحكومية نتيجة تراجع النشاط الاقتصادي الخاص.
5- جامعة البنات التي كان مقررا افتتاحها في بغداد تم نقلها الى الفرات الاوسط. مثل هذا القرار ينفي هدف وسبب انشائها.
6- بعض الجامعات الجديدة تقرر انشاؤها بسلخ كليات واقسام من جامعات مماثلة ومن دون توفر المستلزمات البشرية والمباني الضرورية او الحاجة الحقيقية لها كجزء من سياسة التوسع غير الواقعي.
7- عدم توفر هيئات تدريسية متخصصة في مواضيع حافات العلوم والمواضيع الحديثة وتلك التي تهم تطوير الاقتصاد العراقي.
8- على عكس انشاء جامعات جديدة اصبح دمج الجامعات ظاهرة عالمية لغرض ترشيد المصروفات وزيادة كفاءة المنتج التعليمي.
السؤال الذي نطرحه هو في ظل الظروف الحالية من تقليص النفقات واعادة رسم اولويات الانفاق ما هي اهمية انشاء جامعات جديدة لا تتوفر لها بنايات ولا هيئات تدريسية، ولا مرافق ومختبرات، ولا بيئة اكاديمية توفر التدريب والمعارف الضرورية لتأهيل الطلاب لسوق العمل؟
أما منح الجامعات استقلاليتها المالية والاكاديمية فاني اعتبره من الاولويات الستراتيجية المهمة ، لذا اعتقد انه من الضروري “لكي تتطور الجامعات العراقية وتلعب دورا فعالا في بناء الاقتصاد العراقي والاضطلاع بمسؤولياتها على نحو فعال، يجب ان تتمتع بدرجة عالية من الحكم الذاتي بالإضافة إلى توفير الحرية الأكاديمية لأعضاء هيئة التدريس. ويمكننا ان نستشهد على ذلك بأمثلة من بلدان عديدة حيث اظهر تقرير للبنك الدولي كيف يمكن للاستقلال المالي والإنفاق ان يكونا بمثابة حوافز لتحسين الجودة والكفاءة في مختلف نظم التعليم العالي ووفقا لتصنيف البنك الدولي فان أفضل الجامعات هي الجامعات المستقلة بدرجة كبيرة”.
منح الاستقلالية المالية للجامعات سيضعها امام مسؤوليات كبيرة لتبرير وجودها وتأكيد جودة منتجها مما يؤدي بالضرورة الى ترشيد إنفاقها، ويضع ادارييها وأساتذتها امام مسؤولية تدبير امورها المالية بأفضل الاساليب ولتحسين النوعية بدلا من الاهتمام بالتوسع الافقي والتجزئة التي ترافقها مناصب ادارية جديدة تتطلب موارد مالية باهظة. هذا بالإضافة الى ان الاستقلالية ستدفع الجامعات نحو التطور والرقي بصورة افضل من معاملتها من قبل جهة مركزية واحدة بصورة متساوية كأسنان المشط نتيجة المنافسة بينها لقبول افضل الطلبة ولتعيين خريجيها في افضل الوظائف، وستدفع الاستقلالية الجامعات للتنافس في سبيل الحصول على اموال البحث العلمي من مصادر داخلية وخارجية ماأدى الى رفع مستويات الانتاج العلمي، فضلا عن ان الاستقلالية ستدفع الجامعات كمؤسسات ذات اعتبار ذاتي الى البحث عن مصادر مالية خارجية وتنفيذ مشاريع انتاجية والارتباط بالسوق ومتطلباته كوسيلة لتقليل الاعتماد على اموال الدولة.
يتعلق الخيار الثالث بإعادة تنظيم الكليات والاقسام على اسس ادارية سليمة وذلك بدمج الكليات والأقسام المتشابهة وإلغاء تلك الاقسام التي لا يتوفر لها سوق عمل، والفائضة عن الحاجة، وتقليل عدد الاداريين من عمداء ورؤساء اقسام مصحوبة بترشيد للنفقات والاعتماد على الخبراء الاقتصاديين لرسم السياسات المالية. ففي معظم الجامعات العالمية لا يزيد عدد الكليات على 5-10 كليات، بينما يصل العدد في الجامعات العراقية الى اكثر من 20 كلية، وهو ما يرهق ميزانية التعليم العالي من رواتب ومخصصات لا ضرورة لها. من الشائع في الجامعات العالمية انه كلما قل عدد الكليات تحسنت ادارة الجامعة وارتفعت الكفاءة الاكاديمية وخفضت التكاليف، وفيها ايضا تنعدم الازدواجية في البرامج والشهادات ويكثر التعاون المشترك في التدريس والبحث العلمي. يختلف هذا التنظيم الاداري عن ممارسات الجامعة في العراق حيث ترى كثرة الكليات والاقسام ذات الاختصاصات المتشابهة فليس غريبا ان ترى في جامعة واحدة عدة اقسام متشابهة الاختصاص لها اجهزة ادارية متشابهة وترى كليات لها نفس الاهداف والبرامج بالاضافة الى مراكز بحثية تفتقر الى ادنى مستلزمات البحث العلمي. اؤكد بأنه لو تمت اعادة هيكلية الجامعات على صورة الجامعات الغربية لتم توفير مبالغ مالية هائلة، ولقضي على فوضى تعدد الشهادات، وانتهت برامج اكل الدهر عليها وشرب، وأنشئت برامج يحتاجها سوق العمل.
إن الأوضاع التي تمر بها البلاد عموما ووزارة التعليم العالي بالخصوص تتطلب انتهاج اساليب لا تساعد فقط في ترشيق الإنفاق وإنما ايضا في تطوير التعليم العالي، ومن دون ان يكون ضحايا تقليص النفقات الأستاذ والطالب.