استبشر العراقيون قاطبة خارج وداخل الوطن بهذا الحراك الجماهيري الذي انتظروه طويلا بعد أن فاض بهم الكيل وتأكدوا حد اليقين بأن ضمائر المسؤولين في شتى انتماءاتهم وكتلهم ومناصبهم وطوائفهم قد وضعت في مجمدات جيدة الصنع ومحكمة الاغلاق وسدوا كل مجساتهم إزاء ما يسمعون وما يقرأون وما يصل إليهم من تذمر واحتجاج وعدم رضى من شرائح مجتمعية متضررة بسبب إشاعة فساد ما شهده ولا مر به العراق حتى في زمن الطاغية وحكم البعث الزائل، لأن البعث الخائب قد أهدر أموال العراق في حروب عبثية أحرقت الأخضر واليابس، ناهيك عن صرف الملايير من البترودولار لشراء الذمم واستحكام قبضته الظالمة والمؤسَسة على كثبان رمل على كل مفاصل الدولة، سرعان ما تهاوت أمام أول تهديد حقيقي، ليأتي بعده أناس صفّق لهم واستبشر بهم العراقيون بحذر لانتمائهم لأحزاب دينية بمرتكزاتها الطائفية والمذهبية والإثنية ، وصعود آخرين بعضهم أو العديد منهم من بقايا النظام المندثر، فكانت ولادة المراهنة على آمال مشلولة إلا من رحمة الله وسعي البعض لتعويض الناس شيئا مما كانوا يتأملونه وتصحيح الأوضاع المخربة رغم صعوبة المهمة، ولكن تبين لاحقا عدم وجود النوايا الحقيقية للانطلاق في إعادة وضع العراق على سكة البناء والاعمار وترميم، على أقل تقدير، ما خربه البعث وما سببته حروبه الحمقى وما تركه الاحتلال من استهدافات لبنية العراق بالكامل. وظل العراق يعيش حالات كارثية، والعراقي يعاني من أوضاع مزرية لا تحتكم على أدنى احترام ومعايير العيش الآدمي. فظلت منظومات الدولة ومرتكزاتها الأساسية في تخبط وفوضى وغياب سلطة الدولة والقانون، وانطلقت ايادي لا نعرف كيف امتدت ومن أين جاءت، لتطال المال العام وتخلق نظام فاسد ولصوصي تهافت عليه كل منعدم ضمير وذمة
ووطنية وعديم إحساس واختلط الحابل بالنابل، فلا سياسي شريف ولا معمم يعرف الله وحدوده، ولا موظف فيه ذرة من وطنية وحرص على المال العام، والأخطر من كل هذا، عدم وجود قضاء نزيه وقضاة شرفاء يقفون سدا بوجه هذا التسيب والشطط الفاضحين، وهيئة نزاهة ليس لها إلا الاسم، ومن جهة أخرى وإزاء هذه الأوضاع الموبوءة والمستنقع العفن الذي سعى إليه نتن العصر، وجد الإرهاب ومشاريع قتل العراقيين الأرضية الخصبة لإشاعة الدمار والموت اليومي، لان دولة بهذه المواصفات وهذا التفكك، لا شك أنها تشجع كل الخارجين عن القانون والمتصيدين لدفع العراق إلى الإحتراب والقتل والتصفيات وتشكيل مليشيات هي أخطر من المافيات بشراستها وبلطجيتها وتحكمها برقاب العباد وتخريب البلاد، فماذا يبقى للعراقي المسحوق والمتضرر والذي داست كرامته بكل دونية كل هذه الأطراف مجتمعة، سوى الانتفاض وبقوة إزاء هذا الوضع المتوحش والسادي الصادر من أناس كلفهم العراقيون بإدارة البلاد بتفويض انتخابي على أمل أن تحصل النقلة النوعية في حياتهم وهم الخارجون للتو من محارق صدام وحماقاته، ليحصل العكس تماما؟ وهنا ينبغي أن نستثني القليل والقليل جدا من السياسيين الذين ظلوا يجاهدون عكس التيار حتى انهارت قواهم وسلموا أمرهم للواقع المرير ومستنقع الخراب.
لا نريد أن ندخل في تفاصيل الفساد وملفاته التي فاقت ملفات هيئة الأمم المتحدة بأطنانها عبر سنوات طويلة، ولا من محاسبة ولا من ملاحقات ولا من دغدغة ضمائر اللصوص وبقيت دار لقمان غير الحكيم على حالها المخيف والمزري.
وحين فاض الكيل بالمتضررين تحركت الحمية العراقية التي تبين أنها مهما صبرت فسوف لن يهدأ لها بال إلا بتصحيح المثالب الخطيرة والتجاوزات التي فاقت التصور، من فساد ومحاصصة وتوزيع الكعكة العراقية حتى وصلت إلى عظم الفقراء والمحرومين، والساسة في بروجهم العاجية لا يهشون ولا ينشون، والسنتهم أطول من أياديهم
وأوسع من عقولهم المتحجرة، وهم يطلون علينا في كل لحظة بأشكالهم المقززة، وعبر فضائياتهم التي اسسوها من أموال العراقيين بعد أن كانوا من الفقراء والمتسولين على أبواب الدول التي كانت تؤويهم، إبان الحكم الصدامي، وهم يتكلمون عن الفساد والتجاوزات والتطاول على المال العام، وكأنهم يتكلمون عن قوى غيبية متحالفة مع الشيطان (وحاشى للشيطان أن يقارن بهم، لأنه أشرف وأنقى وأكثر صراحة واحتراما لمواقفه، حين اعترض على الإله المبجل ورفض السجود لنجاسة الأرض) وهذه النجاسة العراقية متمثلة بأحزابها وكتلها وألوانها وتشكلاتها وهي (تخمط وتلهط) أموال اليتامى والأرامل والشهداء والمقاتلين والمسحوقين، ومن يبحث عن قوته اليومي في القمامة، فهل كان الشيطان بهذا القدر من الانحطاط والسفالة؟
ما نريده من المتظاهرين الذين بدأوا حراكهم المبارك لأسابيع مضت، ألا يضعفوا أو يتهاونوا أو يضحك عليهم اللصوص بإصلاحات مزعومة ومفبركة، لأن من غير المنطقي أن يجتث الفاسد نفسه، وكل اللصوص من ذات المؤسسة، تربطهم علاقات مبنية على المحاصصة والنهب ولا يمكن أن يقدموا مصلحة الناس المتضررين على علاقاتهم التي تتحكم بها الحزبيات والعلاقات المتداخلة والمصالح المصيرية وسواها من حالات الاشتباك التي يصبح من العسير تفكيكها، فهل من الممكن ان يصدر العبادي والمؤسسة القضائية المشكوك بنزاهتها، أمرا باعتقال المالكي والمحمود والحكيم والسامرائي والسوداني وبقية جوقة الفاسدين وخونة الوطن والشعب، والعلاقات التاريخية والمصيرية هي التي تتحكم بقربهم، البعض للبعض الآخر، والدفاع عنه والتستر على الجرائم الخطيرة والتجاوزات التي بلغت مديات كان من المفروض أن يودع الجميع قفص الاتهام لينالوا جزاءهم باسم الشعب وعدالة الأرض والسماء. لأن اللصوص إذا ما شعروا بأي خطر يداهمهم يتحولون إلى “أشهى من السمن على العسل ولكن السم في الدسم”
أن محاولات التسويف والمماطلات وتفريغ الحراك من أهدافه سيكون من مخططات هذه الفئة الضالة وسيوظفون كل حيلهم وما ملكوا من مواهب في النصب والكذب والنفاق من أجل تعطيل هذا الحراك وبالتالي الالتفاف على رؤوس الفتنة “كما يسمونها” من خلال إطلاق الكلاب الضالة من مليشيات القتل والخراب والجريمة المنظمة، والتفرغ لها وارتكاب أبشع الجرائم، ولهم في ذلك من سوابق الإجرام وانتهاك الحرمات والتجاوزات، ما يعزز ذلك.
لم يعد أمامكم أيها الأحرار إلا الانتصار ولا سواه، لكنس هذه المخلوقات التي لا صلاح فيها ومنها، وإلا ستجدون أنفسكم في غياهب السجون والمعتقلات لأن هذه المخلوقات لا يهمها أبدا، لا حقوق إنسان، ولا ديمقراطية، ولا احترام حرية التعبير، ولا أي شيء يتعارض ومشاريع الفساد التي باتت منهجا وسلوكا وعملا يوميا وقبل هذا وذاك مسألة وجود، فلا تتصوروا للحظة واحدة أن هذه الحثالات ستتنازل عن كل امتيازاتها وبالتالي تعرض نفسها للمساءلة.
إنهم ببساطة من دعاة المبدأ سيء الذكر “دوني والطوفان”
والحر تكفيه الإشارة