18 ديسمبر، 2024 7:49 م

هل مشكلة اربيل مع بغداد فقط ؟

هل مشكلة اربيل مع بغداد فقط ؟

على طول الخط، كانت-ومازالت-مشاكل وازمات اقليم كردستان العراق تصنف على ثلاثة مستويات، الاول يتمثل بالداخلية منها والمحصورة في نطاق حدود الاقليم، والتي تمتاز بأبعادها وخلفياتها التأريخية، تحديدا بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وغريمه التقليدي الاتحاد الوطني الكردستاني، الى جانب مشاكل وازمات هذين الحزبين مع الاحزاب الكردية الاقل حجما ذات التوجهات الاسلامية واليسارية.

والمستوى الثاني، يتمثل بالمشاكل والازمات مع السلطات المركزية في بغداد، وهي مشاكل وازمات ذات جذور عميقة، بعضها ربما يعود الى العهد الملكي، لتتنامي وتتسع وتمتد الى الحكم الجمهوري بمختلف محطاته ومراحله، دون ان تنتهي وتضمحل بعد سقوط نظام حزب البعث في عام 2003.

والمستوى الثالث، يتمثل بالمشاكل والازمات مع الفضاء الاقليمي المجاور للعراق من جهة الاقليم، وبالتحديد ايران وتركيا. تلك المشاكل والازمات التي غالبا ما كان ايقاعها يتصاعد ارتباطا بطبيعة الحراك الاقليمي وملفات الصراع والتنافس في المنطقة.

ولعل السمة الغالبة لعموم التفاعلات الحاصلة بكل الاوقات، هو تداخل وتشابك المشاكل والازمات والملفات في المستويات الثلاثة المشار اليها الى حد كبير، حتى يبدو من الصعب في بعض الاحيان رسم وتشخيص الحدود الفاصلة فيما بينها.

ولذلك التداخل والتشابك اسبابه وظروفه وعوامله، التي من بينها، عدم وجود رؤى ومواقف سياسية موحدة ومنسجمة للقوى السياسية الكردية العراقية، ناهيك عن مواقفها المتناقضة والمتقاطعة مع عموم مواقف القوى السياسية الكردية في الدول المجاورة. وبالتالي، تعدد وتفاوت وتباين ارتباطات واجندات الاحزاب والقوى الكردية، سواء على الصعيد الداخلي او الاقليمي او الدولي. والسبب الاخر يكمن في طبيعة طموحات ومشاريع الاستقلال الكردية، التي كانت تصطدم دوما بحسابات ومصالح الدول التي يتواجد فيها الاكراد، بصرف النظر عن اوضاعهم وظروفهم الخاصة ومساحة الحرية السياسية، والحقوق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الممنوحة لهم.

ولان الاوضاع والظروف في العراق، اتسمت في الغالب بالارتباك والاضطراب وعدم الاستقرار، بمختلف المراحل، فمن الطبيعي جدا ان ينعكس كل ذلك على المشهد الكردي العام من النواحي السياسية والامنية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث انه لا حصول الاقليم على الاستقلال شبه التام منذ عام 1991، ولا انفتاحه السياسي اقليميا ودوليا، ولا الموارد المالية الجيدة، ولا وجوده ومشاركته في السلطة الاتحادية، ساهم في تحقيق قدر معقول ومقبول له من الاستقرار العام رغم النهضة الواضحة على صعيد البناء والاعمار والتنمية مقارنة بباقي مدن وسط وجنوب العراق.

وما دامت المشاكل والازمات مركبة ومتداخلة ومتشابكة، ومادامت الظروف والاوضاع العراقية، وكذلك الاقليمية تلقي بظلالها على اقليم كردستان، فان تلمس الحلول والمعالجات الحقيقية الجذرية، يبدو امرا صعب المنال، والوقائع والاحداث والتفاعلات الراهنة تؤشر الى ذلك.

داخليا، هنالك شبه قطيعة بين الحزبين الرئيسيين، لاحت معالمها وملامحها مع تصاعد حدة الخلافات حول منصب رئيس الجمهورية، الذي حسم في نهاية المطاف وفق منطق الامر الواقع، وتجنب كسر اي من الطرفين، استنادا الى قاعدة لاغالب ولا مغلوب، بعد استبعاد مرشحيّ الحزبين للمنصب، وهما كل من مرشح الاتحاد برهم صالح ومرشح الديمقراطي ريبراحمد، والقبول على مضض بالقيادي الكردي المخضرم في الاتحاد الوطني عبد اللطيف رشيد. دون ان تنتهي دوامة الخلافات بين الجانبين عند هذا الحد، بل امتدت الى التنافس والتدافع الحاد حول وزارتي الاسكان والاعمار، والبيئة، اللتين هما من حصة المكون الكردي في الحكومة الاتحادية الى جانب وزارتي الخارجية والعدل.

وقريبا من التنافس على المناصب في الحكومة الاتحادية، وربما بعيدا عنه، راحت الامور تتعقد وتتأزم اكثر فأكثر داخل حدود الاقليم. فنائب رئيس الحكومة الكردية المحلية قوباد الطالباني وعدد من الوزراء التابعين للاتحاد الوطني الكردستاني، قرروا منذ عدة اسابيع مقاطعة جلسات الحكومة، احتجاجا على ما قيل عن وجود مشاكل بين الاتحاد ومجلس وزراء الإقليم، او بعبارة اخرى بين الاتحاد والديمقراطي الكردستاني، بأعتبار ان الاخير هو من يسيطر ويتحكم الى حد كبير بالحكومة وقرارات مجلس الوزراء. في ذات الوقت تصاعدت بعض الاصوات المطالبة بأنشاء ادارة مستقلة في مدنية السليمانية عن حكومة اربيل المحلية.

وتؤكد اوساط سياسية كردية، ان تصاعد حدة الخلافات بين الحزبين الرئيسين في إلاقليم، جاء على خلفية عدة قضايا، بينها توزيع المشاريع على محافظات الإقليم والمناصب في الحكومة الاتحادية. وبصراحة ووضوح اكبر، يؤكد القيادي في الاتحاد الوطني غياث السورجي، “ان هنالك تصعيدا مستمرا بين الجانبين، ولم يتم إجراء أي اجتماع إو حوار إو اتصال، وحتى الان لم يتم مفاتحتنا بشأن زيارة وفد من الحزب الديمقراطي أو تحديد موعد لها”، في حين يؤكد المتحدث الرسمي باسم الحزب الديمقراطي محمود محمد، ان حزبه “أبلغ رسميا الاتحاد الوطني الكردستاني بالاستعداد لخوض حوار مشترك لمناقشة المشاكل والخلافات القائمة بين الجانبين، وان مكان حل المشاكل بين الأطراف السياسية هو الجلوس على طاولة الحوار وليس عبر وسائل الإعلام”.

ولاشك ان النظرة الواقعية للامور، تقول بأن خلافات وتقاطعات وصلت الى درجة المواجهات العسكرية المسلحة عدة مرات، على امتداد حوالي نصف قرن بين الديمقراطي والاتحاد، لايمكن ان تذوب وتتلاشى مع بقاء تراكمات الماضي وما خلفته وتخلفه من مظاهر عدم الثقة والتوجس وسوء النوايا المتبادلة، وتنامي الشعور بالغبن والحيف والاهمال.

وسواء في عهد نظام صدام، الذي كان يسعى دوما لاثار الخلافات وتأزيم الاوضاع بين الفرقاء الاكراد من اجل اضعافهم، وبالتالي اختراق صفوفهم وفرض ارادته عليهم، او في عهد النظام السياسي الحالي، وبوجود رغبات ومساعي لدى القوى السياسية العراقية المختلفة-كما يبدو من ظاهر الامور-لاحتواء الخلافات الكردية-الكردية، تجنبا لما يمكن ان تفضي اليه من نتائج واثار سلبية على مجمل الواقع العام للبلاد، فأن اسقاطات الواقع السياسي الكردي كانت حاضرة وملموسة دوما في العاصمة بغداد.

فعلى مدى تسعة عشر عاما، اتسمت العلاقات بين السلطة الاتحادية في والسلطة المحلية في اقليم كردستان بشمال العراق، بثلاثة امور:

الاول: غياب الثقة بين الطرفين، وطغيان اجواء الشك والريبة والتوجس لدى كل طرف حيال الطرف الاخر.

الثاني: العجز عن التوصل الى حلول حقيقية للاشكاليات والنقاط الخلافية بين الطرفين رغم ان قنوات الحوار على الصعيدين الرسمي وغير الرسمي لم تنقطع في يوم من الايام، حتى في ظل ذروة التازم والتصعيد.

الثالث: تأثر ايقاع ومسار العلاقات بين بغداد واربيل، بطبيعة العلاقات مع الاطراف المجاورة، وبتفاعلات الوقائع والاحداث في بعض مساحات وفضاءات المشهد الاقليمي العام.

ومع تشكيل كل حكومة عراقية جديدة يرتفع منسوب التفاؤل بتحقيق انفراجات كبيرة، وفك العقد الاشكالية القائمة، وحلحلة الملفات الشائكة، من قبيل ملف تصدير النفط من قبل حكومة الاقليم والية استخدام عوائده، وملف المناطق المتنازع عليها، وملف حصة الاقليم من الموازنة المالية الاتحادية، وملف المنافذ الحدودية الموجودة ضمن الحدود الادارية للاقليم، سواء الرسمية منها او غير الرسمية. وفي كل مرة ومع الدخول في التفاصيل والجزئيات بعد مرور عدة شهور على تشكيل الحكومة، تعود الامور الى ما كانت عليه، وربما تصل الى درجات ومستويات اسوأ واعقد.

وحتى الان من غير الواضح فيما اذا ستختلف الامور مع الحكومة الاتحادية الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني، التي ولدت بعد مخاضات عسيرة، وعبر توافقات وتفاهمات الامر الواقع بين المكونات الرئيسية الثلاث، الشيعية والسنية والكردية، دون انكار دور القوى السياسية الكردية، وتحديدا الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود البارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة بافل الطالباني، ببلورة وتهيئة الظروف المناسبة لانهاء الانسداد والجمود السياسي، الذي كاد ان يعصف بالبلاد سياسيا وامنيا واقتصاديا. في ذات الوقت فأن قوى الاطار التنسيقي، والسوداني، ابدوا تجاوبا جيدا مع بعض المطالب والاشتراطات الكردية بشأن الترشيحات للحقائب الوزارية التي هي من استحقاقات المكون الكردي، وكذلك بذلوا جهودا مكثفة وجادة لتطويق الخلافات بين الفرقاء الاكراد وتقليص مدياتها الى اقصى قدر ممكن.

وكما يقولون، فان حسابات الحقل ليست كحسابات البيدر. والحوارات واللقاءات الدبلوماسية رفيعة المستوى بين بغداد واربيل تتسم بأستمرار بالهدوء والاريحية والتوافق على المباديء والخطوط العامة، بيد انه في الحوارات عند المستويات الادنى التي تخوض في تفاصيل الامور وجزئياتها، تطفو الخلافات والاختلافات، وتنحسر فرص ومساحات التفاهمات، وتطغي المساومات والاشتراطات والاملاءات. ولعل الاسابيع القلائل الماضية اشرت الى ذلك، من خلال مجيء رئيس اقليم كردستان نيجرفان البارزاني مرتين الى بغداد، وبوجود وفد من حكومة الاقليم يضم وزراء ومستشارين ومسؤولين كبار، لفترة غير قصيرة في العاصمة بغداد، لتحديد حصة الاقليم في الموازنة الاتحادية، وحسم الملفات المالية العالقة والمتراكمة من الاعوام السابقة، وطبيعة التنسيق بين قوات الجيش الاتحادي والبيشمركة الكردية فيما يتعلق بتأمين الحدود، وقضايا اخرى.

ويخطأ من يعتقد ان مخرجات حوارات اربيل مع بغداد، ستكون مثمرة مثلما يتطلع اليها اصحاب القرار الكردي، مع تأكيد كبار المسؤولين في الحكومة الاتحادية وفي مقدمتهم السوداني بضرورة الاحتكام الى الدستور، ومع وجود التراكمات الكبيرة والمعقدة. فضلا عن ذلك، فان جانب من الاستحقاقات في المشهد الاقليمي، لابد ان تلقي بظلالها على بعض الحراك بين بغداد واربيل، من قبيل عمليات القصف الايراني والتركي التي تستهدف مقرات وقواعد المعارضة الكردية لكل من طهران وانقرة المتواجدة على الاراضي العراقية ضمن حدود الاقليم، وما يتسبب فيه ذلك التواجد والقصف من اوضاع مضطربة، ناهيك عن ما يشاع عن وجود استخباراتي اسرائيلي في الاقليم، تتحس منه طهران كثيرا، ويحرج بغداد سياسيا.

ومن دون الاستغراق في دقائق وتفاصيل الامور، فأن مجمل التفاعلات في ميدان الاقليم لابد ان تلقي بظلالها الثقيلة على اجواء المباحثات والحوارات السياسية بين بغداد واربيل، وهذا شيء طبيعي جدا، خصوصا وان هناك ابعادا سياسية وامنية واقتصادية ومالية تخص الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم المحلية، وكذلك تخص طهران وانقرة من زوايا مختلفة، دون ان تكون واشنطن وعواصم اخرى بعيدة عن كل ذلك.

واذا كان العنوان الواسع والعريض لعموم الواقع هو (ازمة الثقة) او (غياب الثقة) بين مختلف الاطراف، فأن تلك العقدة لايمكن فكها او حلحلتها بيسر وسهولة وخلال وقت قصير. والابقاء على ذات السقوف والاشتراطات والمطالب والطموحات السابقة، يعني بقاء الامور على حالها، والجميع معنيون بذلك. بيد ان اربيل هي الاكثر، في حال ارادت ان تعيد خيوط الوصل مع السليمانية، وتحافظ على وجودها وحضورها المؤثر في بغداد، وتتجنب نيران صواريخ ومدفعية الحرس الثوري الايراني، ولاتقع بين كماشتي انقرة وحزب العمال الكردستاني المعارض(PKK).

—————————-

*كاتب وصحافي عراقي