19 ديسمبر، 2024 12:10 ص

هل مات الأدب الروسي؟

هل مات الأدب الروسي؟

سؤال مدو علّقه الناقد الأدبي والمترجم جودت هوشيار على غلاف مؤلفه الموسوم ( الكتّاب الروس تحت المطرقة البلشفية) وسعى على مدى صفحاته لإثبات حيوية صنوف الأدب الروسي المتنوع، كاسرًا جدران القمع ومعسكرات الاعتقال. حين ضحى آلاف المبدعين بحياتهم في مقاومة العسف، بأقلام عارية الا من الحقيقة.

عشية ” بيريسترويكا” آخر رئيس سوفيتي، ميخائيل غورباتشوف، سأل الروائي الروسي فالنتين راسبوتن ،في مؤتمر اتحاد الادباء السوفيت، معلقا على طعون النقاد السلطويين؛؛
“يريدون ان نكتب أدبا ورديا، كيف يستوي الامر والحياة هنا رمادية؟”

يمثل صاحب رواية( عِش وتذّكر) راسبوتن جيلا من الكتاب السوفيت؛ لم يُعرف عنهم معارضتهم للنظام بعد حقبة القمع الستاليني؛ لكن الكاتب السبيري الكتوم، لم يكن مفضلا لدى سدنة الكرملين في حياة خروشوف أو بريجنييف ومن اعقبهما.
يستعرض جودت هوشيار؛ العارف المتبطن بالادب الروسي الكلاسيكي والمعاصر، مصائر أبرز كتّاب روسيا ما بعد استيلاء البلاشفة على السلطة العام 1917.
وخلافا للنمطية التي اتسمت بها مؤلفات عربية مؤدلجة؛ يميط الكاتب الضليع باللغتين الروسية والانجليزية؛ اللثام عن مسلسل القمع وممارسات العسف بحق المع ممثلي الكلمة الروسية الرفيعة.
وإذا كإن القارئ العربي ملمًا أو مطلعا على أعمال بوريس باسترناك الذي أعتذر عن قبول جائزة نوبل للادب، بضغط من الكرملين؛ فان قلة، ربما، تعرف جوانب يضيئها كتاب الدكتور هوشيار عن حياة واعمال صاحب الرواية الشهيرة
” دكتور جيفاغو ” التي حُولت عشرات المرات الى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية؛ كان آخرها في وطن باسترناك الأم ليس قبل عام 2005، فيما قدمت الشاشات العالمية متقدمة على روسيا باربعة عقود الفلم بسيناريوهات مختلفة منها الفلم الشهير بطولة عمر الشريف؛ الاكثر شيوعا في العالم ولدى عشاق السينما العرب.

في الفصل المخصص لبوريس باسترناك، يكتشف القاري آفة الوشاية التي تفشت في الأوساط الثقافية ومدى جبن أسماء كبيرة في اتحاد الكتاب السوفيت؛ طعنوا باسترناك في الظهر واضعين تواقيعهم على بيان تجميد عضويته في الاتحاد.
يتعرف القاري، على ملهمة باسترناك و صورة أبطال ” دكتور زيفاجو” الحقيقين في الحياة ومصائرهم والنهاية المأساوية للحائز على نوبل الذي توفي عن عمر قصير نسبيا.

قد يصاب عاشقو. “الدون الهادئ” بالصدمة ؛ حين يتعرفون على اللقب الحقيقي لمؤلف الثلاثية الرائعة، ومقتله على يد البلاشفة،والاستيلاء على مخطوطة الرواية، وطبعها ونسبها زورا وبهتانا الى الكاتب المغمور ميخائيل شولوخوف الذي لم ينه المرحلة الابتدائية في الدراسة؛ وكان عاجزا عن صياغة جملة مفيدة في حياته المعمرة التي قضاها مخمورا. لكنها أوامر الحزب الواحد القاهر!

الى جانب الوقائع الماساوية في حياة باقة من أروع الكتاب والشعراء الروس، غير المعروفين ، على نطاق واسع للقارئ العربي؛ يمتعنا جودت هوشيار بنقل وقائع حفل ادبي للشاعر التركي ناظم حكمت حضره شخصيا في العاصمة موسكو مطلع ستينيات القرن الماضي ويحدثنا عن خيبة أمل الشاعر التركي الطريد في نظام عادل كرس حياته واشعاره مدافعا عنه ومات غريبا في العاصمة السوفيتية؛ رغم احتفاء الأوساط الروسية بشاعر تركيا الذي بات أردوغان ؛ العدو اللدود للشيوعية يتغنى بقصائد حكمت و اعيدت له الجنسية بعد وفاته بعقود.
يعّرف الناقد والباحث جودت هوشيار، القارئ على كتّاب روس لفوا بأجنحتهم العالم منذ عقود، لكن القرّاء العرب لم يطالعوا اعمالهم الثرية؛ أمثال سيرغي دوفلاتوف و أرتسيباشيف وإسحق بابل وآنا أخماتوفا وغيرهم. ويصل في الختام الى السؤال::
هل مات الأدب الروسي؟

لا يتنطع الكاتب والناقد الأدبي جودت هوشيار لإجابة قاطعة على السؤال، بيد انه يؤشر بقوة على العصر الذهبي للأدب الروسي بابداعات غوغل( الذي يكشف هوشيار عن اصل مقولة أن الأدب الروسي خرج من معطفه) و تولستوي و دوستويفيسكي و ليرمونتوف و تشيخوف وعشرات، بل مئات الروائيين والكتاب الذين لم يرحمهم النظام القيصري.

يؤرخ هوشيار لعصر الأدب الروسي الفضي، بعد استيلاء البلاشفة على السلطة وخلال الحقبة السوفيتية التي منحت الأدباء امتيازات لم يحصل عليها أقرانهم في بقية دول العالم، بما في ذلك بناء قرية خاصة لسكنهم؛ لكنها في ذات الوقت، فرضت قيودا على الأعمال المخالفة لسياسات الحزب القائد.
قاوم أدباء روسيا بقوة الإبداع محاولات السلطات المتعاقبة لفرض الوصاية، وواجهوا لعقود طويلة وعبر القرون، بأقلام حادة النصل القمع والعسف، وصولا الى ما بعد الحقبة السوفيتية التي توصف بانها منحت الناس، بمن فيهم الكُتاب، فضاء واسعا للحرية والغت – كما يفترض- كل القيود على الإبداع ؛ الا أن هذة الحقبة الممتدة الى يومنا لم تنتج ادبا خلّاقا، ينتمي الى البريق الساطع للعصرين الذهبي والفضي!
تحول الادب بعد انفراط عقد الاتحاد السوفيتي الى سلعة تجارية، ونتاجات ضارة على نسق ( فاست فود) المملحة بالجنس والبذاءة والانحطاط عموما.
لكن هذه الصور المشوهة لن تغطي على اللوحة المبهرة للأدب الروسي المرصع بالجواهر.