..هناك الكثير من المفكرين والعلماء تحدثوا وكتبوا عن الكرم، وهنا انقل بأمانة ما كتب عن الكرم بشكل يسير. وفي آخر هذه البحوث المنقولة *ليس لي اي اسهام إلا نقل ماكتب* لكنني الذي اريد كتابته هو كرم عائلة عراقية يشهد لها التاريخ بكرمها.
ومن دواعي سروري ان اكتب عن كرم أهل البيت عليهم السلام، وأن افضل قصة يقال أنها روية عن الامام الحجة ابن الحسن عجل الله تعالى فرجه الشريف وعليهما السلام بخصوص كرم الامام الحسين عليه السلام… فهل هناك قصة افضل نبتدأ به؟؟ كرم الامام الحسين عليه السلام يقال ان المهدي (عجل الله تعالى فرجه) قد التقى شيخا حائرا واقف امام باب مسجد السهلة، وكانت ليلة الجمعة مصادفة للنصف من شهر شعبان المبارك (وهي زيارة مختصة بمسجد السهلة) اما المتعارف عليه عند محبي أهل البيت عليهم السلام، أن زيارة الحسين مستحبة في كل ليلة جمعة. لذلك كان الشيخ محتارا.. هل يذهب ليزور الحسين عليه السلام أم يزور الحجة (عجل الله فرجه)، فاذا زار الحجة يفوته الوقت لزيارة الحسين عليه السلام، واذا زارة الحجة يفوته زيارة الحسين عليه السلام.. وهو في هذه الاثناء من التفكير والحيرة.. اتاه رجل لباسه أبيض لحيته بيضاء عليه علامات الوقار يشع من وجهه نورا.. وقال له: يا شيخ لماذا انت واقف محتار في امرك.. فقال له الشيخ: أزور الحجه أم أزور الحسين عليهما السلام. فقال له الرجل: تعال لنسير واروي لك قصة…فذهبا معا. في طريقها وهما يسيران بعيدا عن مدينة الكوفة.. قال: سوف أروي لك قصة… في قديم الزمان، احد الملوك ذهب مع حاشيته للصيد فصادفتهم عاصفه قوية جعلتهم في تيه، حيث لا يرى الرجل صاحبه من كثرة الرمال وظلام المكان. وبعد ساعات انتبه الملك لنفسه ليرى من حوله دون ان يجد احد من اصحابه ولا حتى فرسه. لكن شاهد بصيصا من نور على بعد، فزحف تارة ومشى تارة على الاربع، لكي يصل لذلك النور. واذا بالنور نار اوقدتها امرأ عجوز قربة خيمة في صحراء قاحلة. فأغمي عليه. وبعد برهة جاء ولد المرأة من المرعى حيث ملكيتهم ثلاث معزات. فعند مشاهدته الظيف المغمى عليه ذبح معزة وزاد النار حطبا وشوى المعزة ثم ايقض الضيف لكي يأكل، لكن الملك المغمى عليه فاقدا لوعيه أخذ قطعة صغيرة من كبد المعزى ووضعها في فمه ثم أغمى عليه مرة ثانية. وفي اليوم الثاني ذبح الولد معزة أخرى وشواها ثم ايقض الضيف ليأكل ففعل الملك كما فعل بالآمس ثم أغمى عليه ثانية. وفي اليوم الثالث ذبح الولد المعزة الآخيرة وشواها ثم ايقض الضيف والملك فعل كما في المرتين السابقتين ثم أغمى عليه. وفي الصباح الباكر استيقض الملك وقد تحسنت حالته للافضل… وهو ينظر من حوله… وتسائل مع نفسه، ثم ألتفت للولد وأمه وقال: لماذا ذبحتم معازكم الثلاث وأنتم لا تملكون غيرها. أجابه الولد: أنت ضيف ومن طبائعنا إكرام الضيف. فنزع الملك خاتما من اصبعه ووضعها في يد الولد وقال له: اذا احتجنم في يوم ما، فما عليك إلا أن تأتي بهذا الختام للمدينة لبيعها حتى تحصلوا على مال وفير، ثم رحل بإتجاه مملكته… ومضت أيام حتى أكل الولد وأمه ما تبقى من المعزات الثلاثة حتى لم يبقى لديهم شئ يتقوتون عليه ومنه، فقرروا الذهاب للمدينة لكي يبيعوا الخاتم عسى ان يحصلوا على ما ينفعهم. لكن الملك حينما عاد لموطنه اوصى الجميع بان خاتمه قد سرق، ومن يقبض على السارق ومعه الخاتم له جائزة. بعد وصول الولد وامه العجوز وهما يعرضان الخاتم للبيع على اول محل للمجوهرات اجلسهم صاحب المحل وذهب لخبر شرطة وحراس الملك بان سارق الخاتم موجود في المحل، وبعد هنيئة جائوا حراس الملك والقوا القبض على الولد وامه، وقاداهما للقصر حيث دخلى والوزراء محيطون بالملك في مجلس كبير… لكن الولد والام لم يتعرفا على الملك على انه هو ذات الشخص الذي كان مغما عليه لثلاثة ايام. حين رأى الملك دخول الولد وأمه وقف قائلا: ايها القوم اتذكرون يوم الصيد والعاصفة فرقتنا وكنت تائها لثلاثة ايام… ها هو الولد وامه العجوز استضافاني، وذبحا معزاتهم الثلاثة وهو كل ما يملكا.. ألا يقول لي احدكم ويفتي كيف اجازيهما.. فقال احدهم: اعطه خزينة المللكة.. وقال آخر: أعطه نصف ما تملك.. وهكذا نطق البعض.. لكن الملك ألتفت للامام المعصوم في ذلك الزمان وقال له لماذا لا تفتنا في هذا الامر… فقال له: هلا أخذت باحدى الاراء… فأكد الملك على سماع فتواه.. فقال الامام عليه السلام: ان الولد وامه أعطوك كلما ملكوا فلوا أعطيتهم كل ما تملك لما فعلت شيء إلا انك عادلت عطائهم… فألتفت الامام الحجة عليه السلام للشيخ الذي سار بجانبه حين كان حائرا بين ان يختار زيارة مسجد السهلة او زيارة أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وقال: ماذا أعطى الحجة لحد الآن…؟؟ لكن الامام الحسين أعطى كل ما يملك في سبيل الله، فقد قتل أولاده وأخوانه وأصحابه وسبيت بناته ونسائه واخواته… لقد أعطى كل غال ونفيس… فكيف يمكن ان نفكر بان الخيار بين زيارة الحسين عليه السلام والحجة. ثم قال علسه السلام: يا شيخ لنزر الامام الحسين وبدأ… السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله السلام عليك ياوارث نوح نبي الله السلام عليك ياوارث ابراهيم كليم الله… وهم قد وصلوا لكربلاء وشاهدوا منارة مرقد الامام سيد الشهداء عليه السلام… وحين انتهى من الزيارة التفت الشيخ ليشكر صاحبه.. واذا به قد اختفى.. فعرف حينها انه كان الحجة عليه السلام. لقد انطوت لهم الارض… عزيزي القارئ.. انظر كم من الوقت تحتاج لقراءة هذه القصة القصيرة… وقد بدئوا مسيرهم على الاقدام من مسجد السهلة الى كربلاء…. وهذا الكرم الذي قدمه الامام الحسين عليه السلام في سبيل الله وفي سبيل احياء دين محمد صل الله عليه وآله وسلم هو غاية الجود. هذا هو الكرم اللامنتهي هو هو العطاء الاكبر… وقد تعلم من سيرت الامام الحسين عليه السلام الكثيرين من احباه والنسل المنتمي لتلك الشجرة الطيبة التي اصلها ثابت وفرعها في السماء. ولدينا قصة للكرم والعطاء في زماننا، وفي ظل قساوة الطغاة والطامعين والبخلاء بكل معنى الكلمة. عشيرة النوري من السادة المعروفين في العراق على مد ازمنة، وفي مناطق متعددة خصوصا في محافظة العمارة ثم انتقالهم لمدن مثل بغداد والنجف وكربلاء ومدن أخرى ثم انتشارهم في ارجاء العالم نتيجة البطش والظلم الصدامي. فلقد قدمت عائلة المبرقع وهم ينتمون للسادة (النوري) حيث اعدم جلاوزة صدام مئتان وسبعة وثلاثون سيدا عام 1979 وقد اعطت هذه العائلة الشهداء يوما بعد يوم حتى بعد تغيير النظام الصدامي، عندما كنا في فاتحة احد اولاد هذه السلالة الطيبة وبعد دقائق يأتنونا بخبر قتل اخي الذي اقيمت الفاتحة له. في نفس اليوم قتل اثنان من بيت السيد النوري في مدينة الصدر وهم يعطون الارواح والانفس في سبيل العراق وشعبه لانهم في غاية الكرم والجود.. والسيد محسن النوري هذا الرجل الذي عرف في زمانه بالشخص الذي يلجئ إليه كل العشائر حين تتكاثر المشاكل وهو ذلك الانسان الذي انقذ العديد من الاعدام والسجن والتعذيب لان له كلمة مسموعة.. وفي ذات المظيف الموجود في نهاية شارع الفلاح في مدينة الصدر تطرق القهوة كل يوم اثنين وجمعة ليجتمع الاهل والاحبة ويتبادلوا التحية والسلام والتطرق للمشاكل وايجاد حلها من خلال وجهاء هذه العائلة الكريمة وعلى راسهم السيد احمد السيد محسن النوري واخوانه والقريبين من كبار السن وصغارهم. لكن لهذه العائلة قصة سيد جليل هو السيد حيدر ابو سحلة. صك شط وشطك شي روفه شطينك شاخه من النوري هذه (هوسه) كما يقال بالعامية كانت في زمن الاتراك قصها لي احد السادة في المظيف. ان السيد حيدر ابو سحله شخصية معروفة ومؤثرة في ذلك الزمان (وقت احتلال الاتراك للعراق) ولحد الآن اللذين يعرفونه يتحدثون بشارته ومكانته. القصة أن الجيش التركي والعراقي التقيا عند السيد حيدر ابو سحله النوري، ولم تكن لدى السيد ابو حيدر الغذاء الكافي لهذان الجيشان. وقد امر السيد حيدر ابو سحلة النوري بجلب باريه – وسحبها في المنطقة بعد ان اسمع الجيشان والناس من خلال انطلاقته المشهورة – شطينك شاخه من النوري – اي اذا القائل بان الشط صعب الرواف فيه – صك شط وشطك شي روفه – فقال السيد حيدر ابو سحله النوري – شطينك شاخه من النوري – ولها معنيان واحدهما شطينك يقصد الجيش العراقي والتركي – شاخه من النوري – يعني فرع بسيط من شط النوري الذي كان وما زال يروي الكثيرين من كرمه وطيبه واخلاقه – اما المعنى الثاني شطينك شاخه من النوري – اذا كان لك كرم كالشط الذ يصعب روافه – فاثنين مثلهما لا يكون الا فرع من شط النوري. والله اعلم. وفي نفس الموضوع… بسم الله الرحمن الرحيم الكرم بين الجاهلية والإسلام إن الكرم من الأخلاق العريقة القديمة التي عرفها منذ الأزل أصحاب النفوس العظيمة فأكبدوها في تعاملاتهم ومدحوا بها ساداتهم وجعلوها دليل الرفعة والفخار وغاية المجد لما فيها من الإيثار وعلو الهمم والأقدار وكانت عندهم نقيض اللؤم والشنار وفى فقدها كل مذمة وعار فالكرم عادة السادات وشيمة الأحرار وعادة السادات سادات العادات وشيمة الأحرار أحرار الشيم. قال أحد الحكماء : أصل المحاسن كلها الكرم وأصل الكرم نزاهة النفس عن الحرام وسخاؤها بما تملك على الخاص والعام وجميع خصال الخير من فروعه. ولقد كانت الشجاعة والكرم من أبرز صفات المجتمع العربي الجاهلي وظهر منهم في كل عصر ومصر أقطاب اشتهرت بالكرم وروى عنهم مواقف عظيمة في الجود والسخاء وكان من أبرزهم وأشهرهم حاتم الطائي الذي كان مضرب المثل فيهم بالكرم ومما يؤثر عنه في ذلك ما ذكره التنوخي في المستجاد قال : إن رجلاً سأل حاتماً الطائي فقال يا حاتم هل غلبك أحد في الكرم ؟ قال نعم غلام يتيم وذلك أنى نزلت بفنائه وكان له عشرة أرؤس من الغنم فعمد إلى رأس فذبحه وأصلح لحمه وقدم إلى وكان فيما قدم الدماغ فقلت طيب والله فخرج من بين يدي وجعل يذبح رأساً بعد رأس ويقدم الدماغ وأنا لا أعلم فلما رجعت لأرحل نظرت حول بيته دماً عظيماً فإذا هو قد ذبح الغنم بأسرها فقلت له لم فعلت ذلك؟ قال يا سبحان الله تستطيب شيئاً أملكه وأبخل عليك به إن ذلك لسبه على العرب قبيحة فقيل يا حاتم فبماذا عوضته؟ قال بثلثمائة ناقة حمراء وبخمسمائة رأس من الغنم فقيل أنت أكرم منه قال هيهات بل هو والله أكرم لأنه جاد بكل ما ملك وأنا جدت بقليل من كثير. ومن الأجواد المشاهير في الجاهلية أيضاً عبد الله بن جدعان وكانت له جفنة يأكل منها الراكب على بعيره ووقع فيها صغير فغرق وذكر ابن قتيبة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال [لقد كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عمَىِّ] أي وقت الظهيرة وذكروا أنه كان يطعم التمر والسويق ويسقى اللبن حتى سمع قـول أميه بن أبى الصلت ولقد رأيت الفاعلين وفعلهــــم فرأيت أكرمهم بنـى الديــــان البر يلبك بالشهـاد طعامهم لاما يعللنــا بنــو جدعـــان فأرسل ابن جدعان إلى الشام ألفي بعير تحمل البر والشهد والسمن وجعل منادياً ينادى كل ليله على ظهر الكعبة أن هلموا إلى جفنه ابن جدعان فقال أميه في ذلك له داع بمكـة مشمعل وآخر فوق كعبتها ينادى إلى روح من الشيزى ملاء لباب البر يلبك بالشهاد ولقد أحب العرب الكرم واتخذوا له رموزاً وإشارات فكانت تسمى الكلب داعي الضمير ومتمم النعم ومشيد الذكر لما يجلب من الأضياف بنباحه وكانوا إذا اشتد البرد وهبت الرياح لم تشب النيران فرقوا الكلاب حوالي الحي وربطوها إلى العتمة لتستوحش فتنبح فتهدى الضلال وتأتى الأضياف على نباحها. 9. الكرم: الكرم ضد البخل، وهو: بذل المال أو الطعام أو أي نفع مشروع، عن طيب النفس. وهو من أشرف السجايا، وأعز المواهب، وأخلد المآثر. وناهيك في فضله أن كل نفيس جليل يوصف بالكرم، ويعزى إليه، قال تعالى: ((إنه لقرآن كريم))(الواقعة: 77). ((وجاءهم رسول كريم))(الدخان: 17). ((وزروع ومقام كريم))(الدخان: 26). لذلك أشاد أهل البيت(عليهم السلام) بالكرم والكرماء، ونوهوا عنهما بأبلغ تنويه: قال الباقر(عليه السلام): (شاب سخي مرهق في الذنوب، أحب إلى الله من شيخ عابد بخيل) (1الوافي ج6 ص68 عن الكافي والفقيه). وقال الصادق(عليه السلام): (أتى رجل النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله أي الناس أفضلهم إيمانا؟ فقال: أبسطهم كفا) (2 الوافي ج6 ص67 عن الكافي). وعن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (السخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة. والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، قريب من النار) (3 البحار م15 ج3 عن كتاب الإمامة والتبصرة). وقال الباقر(عليه السلام): (أنفق وأيقن بالخلف من الله، فإنه لم يبخل عبد ولا أمة بنفقة فيما يرضي الله، إلا أنفق أضعافها فيما يسخط الله) (4 الوافي ج6 ص 68). محاسن الكرم لا يسعد المجتمع، ولا يتذوق حلاوة الطمأنينة والسلام، ومفاهيم الدعة الرخاء، إلا باستشعار أفراده روح التعاطف التراحم، وتجاوبهم في المشاعر والأحاسيس، في سراء الحياة وضرائها، وبذلك يغدو المجتمع كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا. وللتعاطف صور زاهرة، تشع بالجمال والروعة والبهاء، ولا ريب أن أسماها شأنا، وأكثرها جمالا وجلالا، وأخلدها ذكرا هي: عطف الموسرين وجودهم على البؤساء والمعوزين، بما يخفف عنهم آلام الفاقة ولوعة الحرمان. وبتحقيق هذا المبدأ الإنساني النبيل[مبدأ التعاطف والتراحم] يستشعر المعوزين إزاء ذوي العطف عليهم، والمحسنين إليهم، مشاعر الصفاء والوئام والود، مما يسعد المجتمع، ويشيع فيه التجاوب، والتلاحم والرخاء. وبإغفاله يشقى المجتمع، وتسوده نوازع الحسد، والحقد، والبغضاء، والكيد. فينفجر عن ثورة عارمة ماحقة، تزهق النفوس، وتمحق الأموال، وتهدد الكرامات. من أجل ذلك دعت الشريعة الإسلامية إلى السخاء والبذل والعطف على البؤساء والمحرومين، واستنكرت على المجتمع أن يراهم يتضورن سغبا وحرمانا، دون أن يتحسس بمشاعرهم، وينبري لنجدتهم وإغاثتهم. واعتبرت الموسرين القادرين والمتقاعسين عن إسعافهم أبعد الناس عن الإسلام، وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم) (1 عن الكافي). وقال(صلى الله عليه وآله): (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع، وما من أهل قرية يبيت فيهم جائع ينظر الله إليهم يوم القيامة) (2 عن الكافي). وإنما حرض الإسلام أتباعه على الأريحية والسخاء، ليكونوا مثلا عاليا في تعاطفهم ومواساتهم، ولينعموا بحياة كريمة، وتعايش سلمي، ولأن الكرم صمام أمن المجتمع، وضمان صفائه وازدهاره. مجالات الكرم: تتفاوت فضيلة الكرم، بتفاوت مواطنه ومجالاته. فأسمى فضائل الكرم، وِأشرف بواعثه ومجالاته، ما كان استجابة لأمر الله تعالى، وتنفيذا لشرعه المطاع، وفرائضه المقدسة، كالزكاة، والخمس، ونحوهما. وهذا هو مقياس الكرم والسخاء في عرف الشريعة الإسلامية، كما قال النبي(صلى الله عليه وآله): (من أدى ما افترض الله عليه، فهو أسخى الناس) (1 الوافي ج6 ص67 عن الفقيه). وأفضل مصاديق البر والسخاء بعد ذلك، وأجدرها ـ عيال الرجل وأهل بيته، فإنهم فضلا عن وجوب الإنفاق عليهم، وضرورته شرعا وعرفاً، أولى بالمعروف والإحسان، وأحق بالرعاية واللطف. وقد يشذ بعض الأفراد عن هذا المبدأ الطبيعي الأصيل، فيغدقون نوالهم وسخائهم على الأباعد والغرباء، طلبا للسمعة والمباهاة، ويتصفون بالشح والتقتير على أهلهم وعوائلهم، مما يجعلهم في ضنك واحتياج مريرين، وهم ألصق الناس بهم وأحناهم عليهم، وذلك من لؤم النفس، وغباء الوعي. لذلك أوصى أهل البيت(عليه السلام) بالعطف على العيال، والترفيه عنهم بمقتضيات العيش ولوازم الحياة: قال الإمام الرضا(عليه السلام): (ينبغي للرجل أن يوسع على عياله، لئلا يتمنوا موته) (1 الوافي ج6 ص67 عن الفقيه). وقال الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام): (إن عيال الرجل أسراؤه، فمن أنعم الله عليه نعمة فليوسع على أسرائه، فإن لم يفعل أوشك أن تزول تلك النعمة) (2 الوافي ج6 ص61 عن الكافي والفقيه). والأرحام بعد هذا وذاك، أحق الناس بالبر، وأحراهم بالصلة والنوال، لأواصرهم الرحمية، وتساندهم في الشدائد والأزمات. ومن الخطأ الفاضح، حرمانهم من تلك العواطف، وإسباغها على الأباعد والغرباء، ويعتبر ذلك ازدراء صارخا، يستثير سخطهم ونفارهم، ويحرم جافيهم من عطفهم ومساندتهم. وهكذا يجدر بالكريم، تقديم الأقرب الأفضل، من مستحقي الصلة والنوال: كالأصدقاء والجيران، وذوي الفضل والصلاح، فإنهم أولى بالعطف من غيرهم. بواعث الكرم: وتختلف بواعث الكرم، باختلاف الكرماء، ودواعي أريحيتهم، فأسمى البواعث غاية، وأحمدها عاقبة، ما كان في سبيل الله، وابتغاء رضوانه، وكسب مثوبته. وقد يكون الباعث رغبة في الثناء، وكسب المحامد والأمجاد، وهنا يغدو الكريم تاجرا مساوما بأريحيته سخائه. وقد يكون الباعث رغبة في ما هو مأمول، أو رهبة من ضرر مخوف، يحفزان على التكرم والإحسان. ويلعب الحب دورا كبيرا في بعث المحب وتشجيعه على الأريحية والسخاء. استمالة لمحبوبه. واستدراراً لعطفه. والجدير بالذكر أن الكرم لا يجمل وقعه، ولا تحلو ثماره، إلا إذا تنزه عن المن، وصفى من شوائب التسويف والمطل، وخلا من مظاهر التضخيم والتنويه، كما قال الصادق(عليه السلام): (رأيت المعروف لا يصلح إلا بثلاث خصال: تصغيره، وستره ، وتعجيله. فإنك إذا صغرته عظمته عند من تصنعه إليه، وإذا سترته أتممته، وإذا عجلته هنيته، وإن كان غير ذلك محقته ونكدته) (البحار م16 من كتاب العشرة ص116 عن علل الشرائع). 10. الإيثار وهو: أسمى درجات الكرم، وأرفع مفاهيمه، ولا يتحلى بهذه الصفة المثالية النادرة، إلا الذين تحلوا بالأريحية، وبلغوا قمة السخاء، فجادوا بالعطاء، وهو بأمس الحاجة إليه، وآثروا بالنوال، وهم في ضنك من الحياة، وقد أشاد القرآن بفضلهم قائلا: ((ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)) (الحشر: 9). وسئل الصادق(عليه السلام): أي الصدقة أفضل؟ قال: جُهد المُقل، أما سمعت الله تعالى يقول: ((ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)) (2 الوافي ج6 ص58 عن الفقيه). ولقد كان النبي(صلى الله عليه وآله) المثل الأعلى في عظمة الإيثار، وسمو الأريحية. قال جابر بن عبد الله: ما سئُل رسول الله(صلى الله عليه وآله) شيئا فقال لا. وقال الصادق(عليه السلام): (إن رسول الله أقبل إلى الجِعرانة، فقسم فيها الأموال، وجعل الناس يسألونه فيعطيهم، حتى ألجؤوه إلى شجرة فأخذت برده، وخدشت ظهره، حتى جلوه عنها، وهم يسألونه، فقال: أيها الناس ردوا علي بردي والله لو كان عندي عدد شجر تهامة نعما لقسمته بينكم، ثم ما ألفيتموني جبانا ولا بخيلا…) (سفينة البحار ج1 ص607 عن علل الشرائع. والجعرانة موضع بين مكة والطائف). وقد كان (صلى الله عليه وآله) يؤثر على نفسه البؤساء والمعوزين، فيجود عليهم بماله وقوته، ويظل طاويا، وربما شد حجر المجاعة على بطنه مواساة لهم. قال الباقر(عليه السلام): (ما شبع النبي من خبز بُر ثلاثة أيام متوالية، منذ بعثه الله إلى أن قبضه) (سفينة البحار ج1 ص194 عن الكافي). وهكذا كان أهل بيته عليهم السلام في كرمهم وإيثارهم: قال الصادق (عليه السلام): (كان علي أشبه الناس برسول الله، كان يأكل الخبز والزيت، ويطعم الناس الخبز واللحم) (3 البحار م9 ص538 عن الكافي). وفي علي وأهل بيته الطاهرين، نزلت الآية الكريمة: ((ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا)) (الدهر: 8ـ9). فقد أجمع أولياء أهل البيت على نزولها في علي وفاطمة والحسن والحسين.. وقد أخرجه جماعة من أعلام غيرهم، وإليك ما ذكره الزمخشري في تفسير السورة من الكشاف. قال: وعن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضا، فعادهما رسول الله في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما، إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا، وما معهم شيء،فاستقرض علي(عليه السلام) من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعا، واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثروه، وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صياما، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم، وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك. فلما أخذ علي بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، قال: ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها، قد التصق بطنها بظهرها، غارت عيناها، فساءه ذلك، فنزل جبرائيل وقال: خذها يا محمد هَناك الله في أهل بيتك، فأقرأه السورة) (1 من الكلمة الغراء ـ للمرحوم آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين ص29 بتصرف وتلخيص). وقد زخرت أسفار السير بإيثارهم، وأريحيتهم، بما يطول ذكره في هذا البحث المجمل.