العنوان فيه تعميم لكنه ليس هو مقصد مقالي فلا تتعجب من العنوان ولا تأخذك العزة بالإثم ربما لا تكون انت من ضمن الفاسدين، واعلم ان مقالي ينصرف فقط الى المواطن الفاسد والمفسد؛ فتعال معي لنتعرف على الذين يخاطبهم عنوان مقالي هذا، فهو يخاطب اصحاب الضمائر التي ماتت فقط.
شاركت في ورشة عمل لمعهد الشرق الأوسط(ميري) أقيمت يوم 22/6/ 2016 في أربيل بشأن استراتيجية الحفاظ على مدينة الموصل بعد تحريرها وكانت الورشة رائعة وقيمة وشارك فيها قناصل لعدة دول اجنبية ووكالات تابعة للأمم المتحدة ومسؤولين من محافظة الموصل وإقليم كوردستان، وتناولت الورشة الوضع الإنساني والاقتصادي وكيفية إدارة مدينة الموصل، وكان الفساد التحدي الأكبر وكان دافعا لكتابة هذا المقال.
لن اتحدث في مقالي هذا عن أباطرة الفساد(سياسيين ومسؤولين) فأمرهم محسوم ورفعت عنهم المسائلة، لتمكنهم من مفاصل الدولة، وأصبحت لديهم ترسانة قوانين(تصفية حسابات) تحميهم ودخلوا نادي الحصانة، ولا يخفى على الجميع ما طالعنا على الشاشات احد النواب، والذي قال بلسان فصيح (أنا أخذت رشوة، وكلنا فاسدون).
لكني سأتكلم عن الطرف الاخر وهو المواطن؛ حيث اننا دائما نتجاهل الحديث عن الراشي أو مشجعي الفساد، وكأنهم ليسوا الطرف الثاني المقابل للفاسد والمرتشي وغيره وننسى أنه لولا وجود الطرف الثاني، ما كان للطرف الأول أن يترعرع ويتغلغل وينتشر على جميع المستويات.
من ارتضى الفساد فهو فاسد:
الفساد في العراق استشرى حتى في حبيبات الرمل الناقلة للماء، كلنا نلعن الفساد والفاسدين ونصب جام غضبنا عليهم؛ غير أنه ما أن تلوح لأي منا فرصة ما فإنه سرعان ما قد يقتنصها، ويتحول في موقفه وسلوكه تدريجياً، وإذا ما سئل عن هذا التحول يهب ويقول (الكل تأخذ والوضع صار هيج وحتى انمشي شغل..).
وصلنا لدرجة أن أصبحت الرشوة وصور الفساد ضمن سياق حياتنا الطبيعة، فأية خدمة يراد إنجازها لن تتم سوى بالرشوة(الإكرامية)، تنازلنا عن حقوقنا في الحصول على الخدمات وهي حق أصيل لنا قانونا، لنجد مبرراً أخلاقياً في أن ما نفعله هو الصحيح.
= المحامي اصبح فاسد ويحتال على الموكل ويتفنن في استنزاف جيب موكله تحت عناوين(الرشوة والاكراميات والمنح والرسوم وغيرها) وبعضهم اصبح سياسيا ليكون نصاب سياسي بامتياز، واصبح يبتكر لك مبادئ وقواعد يسميها إنسانية ليبرر عمله السياسي الفاسد، والتجربة اكدت انهم وغيرهم كانوا اشد وطأة وايلاما من غيرهم في الفساد، ونسوا ان المحاماة هي الرحمة والخبرة ورسالة العدل والتضحية بأسمى معانيها.
= القاضي أصبح فاسد عندما يحرف القضاء ويحوله من محطة لتحقيق العدالة وضبط الاعمال الجرمية وغيرها ومكافحتها الى سوق لبيع وشراء حقوق وحريات الناس وأموالهم وأعراضهم، فالقاضي عندما يعمل لصالح جهات سياسية ولا يجسد العدل في عمله فهو فاسد.= المقاول والمهندس أصبح يغش في عمله ويزوِّر تقريراً باستلام مشروع لم ينفَّذ أصلاً، فهو فاسد.= الفقير الذي يتسول في الشوارع او امام باب الجوامع والمراقد فهو يتفنن في اظهار مظاهر الحاجة واختلاق الأكاذيب لأجل دفع المواطن ان يضع يده في جيبه لدفع مبلغ من المال له فهو فاسد.= شيخ العشيرة أصبح فاسد وأداة بيد السياسيين وباع العشيرة والوطن بحفنة دولارات، وشيخ الجامع او المرجع الديني تخلى عن دوره وأصبح يتاجر بالفتوى، ولا يتصدى للفساد وصور الاجرام والقتل، وشاطر في المسيرات التي تضفي على الشعب التفرقة الطائفية، وافواههم تنضح منها دماء ضحايا وجيوبهم مملؤة بأموال السحت الحرام، ومنهم من يسرق صندوق التبرعات في الجامع ويسكت عن الفساد في منطقته للحفاظ على مصالحه؛ فهم فاسدين ومفسدين ولصوص.
= الصيدلي بات يغش في دواءه ويتفق مع الطبيب على الكومشن الوارد من المريض بطريقة خرجت عن كل الاعتبارات الإنسانية والمهنية والأخلاقية، فهو فاسد ولص ومعه الطبيب الذي أصبح وحش كاسر عندما يقوم بإجراء عملية لمريض لأجل المادة فقط وليس لحاجة مرضية.= المواطن الذي يقوم بربط انابيب المياه أو أسلاك للكهرباء من خارج العدادات، وأحياناً بمساعدة مهندسين وفنيين من دوائر الكهرباء والمياه، فيستهلكون ما استطاعوا مجاناً ودون حساب فهم فاسدين ولصوص.= تلاميذنا وطلابنا في مختلف المراحل يمارسون الغش في الامتحانات، واستطاعوا إقناع مدرسهم “الفاسد” بتزويدهم بأسئلة الامتحان، وبتشجيع من آبائهم؛ وإذا ما حاول مدرس منع الغش أو حتى الحد منه، فإنه يتعرض للتهديد والضرب، وربما القتل أحياناً، فكلهم غشاشون ولصوص وفاسدون.= الموظف من أوكلت له مهمة متابعة الفاسدين غارق في الفساد، والذي يتأخر عن عمله ويسرق ساعات عمله ويسيء معاملة المواطن فاسد أيضا، والذي يتفق مع التجار لزيادة أسعار سلعة ما، فكلهم فاسدين ولصوص.
= المحقق ورجل الشرطة، الذي يقوم بالعثور على ضحية وتلبيسه التهمة تهدئة للخواطر الثائرة من جهة وإبراز كفاءة أمنية زائفة من جهة أخرى، ويحرف التحقيق نحو الخطأ في تحديد هوية الجناة؛ فهم فاسدين ومفسدين.
= الأصدقاء والاخوة والاقرباء؛ أصبح شعارهم (فارقته مع المفارقين، وخذلته مع الخاذلين، وخنته مع الخائنين) حيث يمارسون كل صور قطع صلة الرحم وعدم التواصل ونسوا المبادئ والقيم، وصار كل واحد منا مفتيا لنفسه وشيخا لعقله وأستاذا لقلبه، وأصبحت الغاية المثلى للجميع دوافع مصلحية فئوية وشخصية وتحقيق المكاسب؛ كلهم فاسدين ومفسدين.
= السائق الذي يخالف اشارات المرور، وبائع الخضروات الذي يغش في بضاعته كلهم فاسدين ومفسدين.
من منا لا يعلم في منطقته فاسدين وعمليات فساد تمت وكما قال الممثل المرحوم احمد زكي في مرافعته في فلم ضد الحكومة: (..من منا لم يشارك في احدى عمليات الفساد حتى بالصمت العاجز).
وهكذا أصبحت دائرة الفساد المجتمعية تكاد ان تكتمل الا ما رحم ربي، وأصبحنا من الدول ذات العاهات المستديمة التي تعتبر الباطل حقا، والظلم عدالة، والفساد شطارة، ولا أريد أن أعتبر الغرب قدوة لنا لكن للأسف في الغرب يمتازون عنا في العقلية لا أتحدث عن العقيدة، ثم أن العقيدة لله والمعاملة للإنسان.الفساد أصبح وباء ينتشر في كافة ارجاء العراق
الفساد لا يمكن أن نحصره في شخص معين (ذو منصب)؛ فهو ليس صفة شخصية يتصف بها فلان ولا يتصف بها فلان؛ الفساد مثل الفيروس، يوجد في البيئة الصالحة لتكاثره؛ فكما أن الفيروس يعيش في الجسم الضعيف قليل المناعة فإن الفساد ينتشر في البيئة ضعيفة “القوانين” وقليلة “الرقابة”.
فمؤسسات المجتمع المدني التي تحصل على تمويل لمشروعاتها الوهمية فاسدة، وعندما نرى أبناء القضاة قضاة، وأبناء الضباط ضباط، وتعيين أبناء المسؤولين فساد، ومن يسرق الأبحاث العلمية ورسائل الماجستير والدكتوراه فاسد، كما أن من يسكت ويرضى العيش في ظل هذه البيئة الفاسدة بدون أن يفعل شيئاً أيضاً فاسد، فأشكال الفساد تعددت حتى اعتدناها واصبحت جزء من حياتنا، لا نستطيع العيش بدونها ونبررها، فهل نستطيع التخلص من هذا الوحش الذي سيلتهمنا فرادى وجماعات؟
نعم كلنا مفسدون وفاسدوننرتدي ثوب الاصلاح ونعوم في الفساد نتحدث عن الاسلام قولا لا فعلا، حتى القران اخذنا منه ان الله غفور رحيم وتركنا منه ان الله شديد العقاب.
نتحدث عن الأمانة وقلوبنا أقرب الى الخيانة، نتحدث عن الفضيلة والقيم والمثل والاخلاق ونحن منهم براء.
السرقة والرشوة اصبحت شرفا لبعض من سمو بالشرفاء، شوهنا كل جميل بقي وحاربناه ومن تبقى بمبدئه ساومناه.
=عندما نشاهد الاعراض تستباح والمقدسات تنتهك ولا نتحرك فنحن فاسدون.
=عندما نكرم الخبيث ونعتقل البريء ونصفق للجانى ونجلد المجني عليه فنحن فاسدون.
=عندما نقتل اخواننا بأيدينا ونقوم بتدمير مدنهم وتحويلها إلى أنقاض ونقول إننا حررناها، فنحن فاسدون.
=عندما نقف وقفة اجلال واحترام للطاغية ونمتدح اعماله ولا نصرخ في وجه الظالم فنحن فاسدون.
=عندما نسمح للمرأة وبخاصة المحامية ان تكون ديكور متنقل وطريق للتربح فنحن فاسدون.
وهنالك الكثير من علامات الفساد؛ نعيشها دون ان نعلم وربما نعلم.
أذن فكلنا فاسدون…
كلنا فاسدون ولصوص وغشاشون ومتفيدون وما إلى ذلك، ومن لم تتهيأ له فرصة بعد، فإن هذه المواهب كلها أو بعضها قد تكون كامنة في داخله، جمل ما فينا نقدنا المستمر للفساد والفاسدين ورفضنا للرشوة والمرتشين أمام (المرايا) أو أمام الإعلام، ونقبل ما سبق تحت بند إكرامية أو (كومشن)، فلا يحق للشعب محاسبة الفاسدين السياسيين والحكوميين؛ ف “كما تكونوا يولى عليكم” والله ولي المؤمنين.
إنها مسؤولية مشتركة بين طرفين (الراشي والمرتشي)، فيوم أن نتوقف نحن عن وضع المال في درج الموظف نظير الخدمات الحكومية ستغلق الأدراج ويختفى الفساد.وقد نُهينا عن النظرة التشاؤمية؛ فإن الْخَيْر بَاقٍ في أمة محمد(ص) إلى قيام الساعة.
يقول الامام الحسن(عليه السلام): “مَن رأى سُلطاناً جائراً مُستَحل لِحَرام الله، ناكثاً عهده، مخالفاً لِسُنَّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيِّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أنْ يُدخِله مَدخَله”.
وأخيرا سامح الله من سوف ينظر لموضوع مقالنا كما نظر لمقالنا السابق(هل نحن حقراء) ومقال( مقال لا يقرأ مضمونه كونه خارج التغطية) بتعال واستاذية، وكأنه قديس يقول الحق دائما، ومعصوم لا يقاربه أحد، واني سطرت في اعلاها برؤية شخصية لواقعنا المؤلم، قد أكون مصيبا في بعض منها، وقد أكون مخطئا في مجملها، وقد يتفق القليل من سيادتكم معي، كما قد يختلف العموم عني، ولكني أعتقد، أن مسؤوليتنا جميعا، أمام الله ثم ضمائرنا، وسأرمي بسؤالي واغادر وأقول : ألدينا ثقة في أنفسنا باننا لسنا فاسدين؟