23 ديسمبر، 2024 11:13 ص

هل كان العباس كفيلاً؟

هل كان العباس كفيلاً؟

مما يركز عليه الخطباء والشعراء وتبعاً لذلك الرواديد عند الحديث عن العباس بن علي عليه السلام موضوع كفالته لزينب سلام الله عليها، ولهم في ذلك مخاطبات وحوارات وقصص!
وكنت كثيراً ما أسئل نفسي عند سماع موضوع الكفالة هل يُعقل إن زينب تحتاج كفيلاً للذهاب لعاشوراء وهي العالمة غير المعلمة؟!وما معنى حاجتها لكفيل؟ ويكفل ماذا؟!
أغلب من يتحدث عن موضوع الكفالة يتحدث بأحد النصين التاليين:
1- النص الأول:
قيل : إنّه لمّا مضت أيام على ولادة أبي الفضل العبّاس (عليه السّلام) جاءت السيّدة زينب (عليها السّلام) إلى أبيها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) يوماً وهي تحمل أخاها العبّاس (عليه السّلام) ، وقد ضمّته إلى صدرها ، وقالت له : أبه يا أمير المؤمنين ، ما لي أرى قلبي متعلّقاً بهذا الوليد أشدّ التعلّق ، ونفسي منشدّة إليه أكبر الانشداد ؟
فأجابها أبوها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بلطف وحنان قائلاً : وكيف لا تكونين يا أبه كذلك وهو كفيلك وحاميك ؟ .فقالت السيّدة زينب (عليها السّلام) بتعجّب : إنّه كفيلي وحاميني ؟!
فأجابها (عليه السّلام) بعطف وشفقة : نعم يا بُنيّة ، ولكن ستفارقينه ويفارقك.
فقالت السيّدة زينب (عليها السّلام) باستغراب : يا أبتاه ، أيتركني هو أم أتركه أنا ؟
فقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وهو يجيبها بلهفة ولوعة : بل تتركينه يا بُنيّة وهو صريع على رمضاء كربلاء ، مقطوع اليدين من الزندين ، مفضوخ الهامة بعمد الحديد ، ضامٍ إلى جنب الفرات.
فلم تتمالك السيّدة زينب (عليها السّلام) لمّا سمعت ذلك حتّى أعولت وصاحت : وا أخاه ! وا عبّاساه ! وإلى هذا أشار الشاعر حيث يقول :
جـاءتْ بهِ الحوراءُ تحملُه وقد شـغـفـتْ بهِ وبهِ الفؤادُ تعلّقا
تـحـنو عـليهِ وتنثني لأبيهما مَـنْ كانَ كالاُمِّ الرؤومِ وأشفقا
حـلو الشّمائلِ مذ رآهُ وفيهِ من معنى البسالةِ والجمالِ مع التّقى
ســمّـاه عـبّـاساً وقالَ ملقّباً قـمراً فقل أسمى وأجمل رونقا(1).
2-النص الثاني:
واغلب الخطباء يستندون على هذه الرواية أو قريب منها:
“إن زينب لما رأت أباها جمع أولاده عند الاحتضار وأخذ يوصيهم تقدمت إلى أبيها وقالت: يا أبتاه أريد أن تختار لي من أخوتي من يكفلني ويلتزم بي، فقال بنية هؤلاء أخوتك فاختاري من تريدين هذا الحسن وهذا الحسين، فقالت الحسن والحسين أئمتي وسادتي وأنا أخدمهما بعيني، ولكن أريد من أخوتي من يخدمني لعلي أحتاج في هذه الحياة إلى سفر فيخدمني ويكفلني في السفر، فقال اختاري منهم من شئت.
فمدت زينب بصرها إلى أخوتها فما وقع الاختيار إلا على قمر العشيرة أبي الفضل العباس.فقالت زينب: يا أبتاه أريد أخي هذا، وأشارت إلى العباس.فقال أمير المؤمنين (ع): بني أدن مني، فدنا منه فأخذ بيد زينب ووضعها في يد العباس وقال: بني هذه وديعة مني إليك.فقال العباس وقد تحادرت دموعه على خديه: يا أبتاه لأنعمنك عينا، وأبذل كل جهدي في حفظها ورعايتها. فأخذ أمير المؤمنين (ع) ينظر إلى العباس وإلى زينب ويبكي”(2).ولنا بخصوص هاتين الروايتين الملاحظات الآتية:1-إنهما بلا مصدر أقدم من الكتاب الذي وردتا فيه وهو كتاب معاصر، ولا قيمة لهما ما لم يتم إرجاعهما إلى مصادر روائية أو تاريخية أقدم أقرب إلى عصر النص.2-النصوص فيهما هي إلى القصة الشعبية (السالفة) أقرب منها إلى متن رواية عن معصوم.3-بالنسبة للرواية الأولى وهي الاقدم فصاحبها “الحاج محمد إبراهيم الكلباسي النجفي” ووفقاً للمقدمة في الكتاب فإنه المقصود به العالم المجتهد الشيخ محمد ابراهيم الكلباسي الاصفهاني” ولي بهذه الشأن ملاحظات عدة:
أ-استخدام لفظ “الحاج” يؤكد إنه العالم المقصود لأنه معروف بهذه اللقب، ولكني لا اعرف لماذا استخدم لقب “النجفي” معه وهو المعروف بـ”الكلباسي الاصفهاني” وهو اصفهاني ولادة ووفاة؟!
ب-لا اعرف لماذا خلت مقدمة الكتاب من التعريف الواضح بالمؤلف، ولم تتضمن إلا ذكر إجازة له وتخلو من اي شيء آخر عن سيرته كمحل ولادته ووفاته ودراسته واساتذته وتلامذته ومؤلفاته كما هي العادة؟رغم إن سيرته متوفرة في الكتب المختصة ويسهل الوصول لها.
ج-المقدمة تخلو من اسباب عدم طباعة الكتاب إلى الآن فالمؤلف-إذا افترضنا إنه نفسه العالم المعروف- متوفي قبل ذلك بوقت طويل، فلماذا يطبع الكتاب في سنة 1425هـ (3) أي بعد وفاة المؤلف بما يقرب من 200 سنة؟!كما إنه لا توجد إشارة في المقدمة ولا في باقي الكتاب إلى النسخة التي تم الاستناد عليها في إعادة طباعة الكتاب إن كان مطبوعاً سابقاً أو المخطوطة إن كان متوفراً كمخطوطة فقط ولم يطبع سابقاً.د-لا وجود لأي كتاب باسم “الخصائص العباسية” لأي مؤلف كان في الكتب المختصة بفهرسة المؤلفات ككتاب الذريعة إلى تصانيف الشيعة وغيره!هـ-العالم محمد ابراهيم الكلباسي (قدس) عالم معروف من تلامذة السيد محمد بحر العلوم (قدس)، وابنه وحفيده من العلماء المعروفين ولديهم مؤلفات مطبوعة معروفة، فولده هو أبو المعالي محمد بن محمد ابراهيم الكلباسي صاحب كتاب “الرسائل الرجالية” وهو مطبوع، وحفيده هو أبو الهدى الكلباسي صاحب كتاب “سماء المقال في علم الرجال” وهو كتاب مطبوع أيضاً، وبحسب كتاب أعيان الشيعة (4)، فمما جاء في ترجمته إنه : “إبراهيم ويقال الحاج محمد إبراهيم ابن الحاج محمد حسن الخراساني الكاجي الأصفهاني الكرباسي. ولد في ربيع الثاني سنة 1180هـ وقيل 1186هـ بأصفهان وتوفي 8 جمادى الثانية سنة 1260هـ أو 61 أو 62 بأصفهان وقبره بها معروف وفي قصص العلماء توفي 1262هـ عن 95 سنة وعليه فتكون ولادته 1167هـ”.علماً إنه يوضح في باقي تفاصيل السيرة موضوع “الكلباسي” و”الكرباسي”.
أما مؤلفاته فهي : “1-الإشارات في الأصول في مجلدين كبيرين. 2-الإيقاظات في الأصول أيضاً صنفه في بدء امره. 3-شوارع الهداية في شرح الكفاية للسبزواري مبسوط غير تام خرج منه الطهارة والصلاة إلى آخر سجود التلاوة وعلى ظهر نسخة الأصل منه تقريض الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء بخطه وبعض يسميه شوارع الاحكام. 4-منهاج الهداية إلى أحكام الشريعة في مجلدين كثير الفروع نظير القواعد والتحرير صنفه فيما يقرب من عشرين سنة في الفقه كله سوى بعض أبواب الحدود والديات شرحه ولده الشيخ محمد مهدي وسماه معراج الشريعة في شرح منهاج الهداية. 5-الارشاد في الفقه فارسي .6-النخبة في العبادات بالفارسية. 7-مناسك الحج فارسي. 8-رسالة في الصحيح والأعم من علم الأصول. 9-رسالة في تفطير دخان التتن للصائم. 10-رسالة في تقليد الميت. إلى غير ذلك من الحواشي والرسائل وأجوبة المسائل”(5).
فأين كتاب الخصائص العباسية إن كان من ضمن مؤلفاته؟ مع ملاحظة نوعية مؤلفاه فهي منحصرة فقط في الفقه والأصول. فمن خلال كل ما سبق فشخصياً أشك في نسبة الكتاب للعالم الكلباسي المعروف، خصوصاً وإن لغته لا تدل على كاتب متبحر وكل مؤلفاته المعروفة في الفقه والأصول.
وحسب كتاب معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام لعبد الجبار الرفاعي ج7 ص220، فإن ذكر وتحت تسلسل 18073 كتاب (خصائص عباسيه) بالفارسية وإنه صادر بطبعتين الأولى في طهران سنة 1358هـ (طبعة حجرية)، والثانية في طهران أيضاً سنة 1409هـ، ولكن المؤلف ليس كما مذكور في الطبعة العربية التي تحدثنا عنها والذي ادخلنا وادخل ربما كل من أطلع عليها في لبس بين المؤلف الحقيقي للكتاب والعالم الكلباسي المعروف، فالاسم الذي يذكره الرفاعي هو (محمد ابراهيم بن عبد الرحيم الكلباسي النجفي) وبذلك يتضح إن تخميننا بان المؤلف شخص آخر غير العالم المعروف، علماً إننا كتبنا ذلك قبل الاطلاع على ما ذكره الرفاعي.
ويؤكد ذلك موقع آل الكرباسي-تارة تلفظ الكلباسي وتارة الكرباسي- حيث يذكر الكتاب المذكور ويكتب اسمه مؤلف (محمد ابراهيم بن عبد الرحيم بن محمد رضا الكرباسي) وفي صورة غلاف الكتب يتقدم اسم المؤلف لقب (آية الله الحاج محمد ابراهيم الكلباسي النجفي) وعلى الغلاف تاريخ مولده ووفاته (1301هـ-1362هـ) ولم نجد ترجمة للمؤلف أكثر من ذلك، والتفاصيل على هذا الرابط:http://www.karbasi.info/…/4-his…/51-KhasaeisAlAbasiyyah.html
4-بالنسبة للرواية الثانية فالمصدر الوحيد لها كما قلنا هو كتاب “النص الجلي في مولد العباس بن علي” وهو للخطيب والأديب البحراني المعاصر المعروف محمد علي الناصري (1919-1999م)، وطُبع الكتاب -المؤلف من (88 صفحة)- في المنامة في ثمانينيات أو تسعينيات القرن الماضي أي قبل 36 سنة على أبعد التقادير، المؤلف خطيب تقليدي وشاعر وأديب ومؤرخ تراثي-أي يؤرخ للتراث المعاصر كالمدن والقرى وشخصياتها وأشباه ذلك- له ثمانية عشر كتاباً مطبوعاً منها هذا الكتاب، واكثر كتبه المطبوعة دواوين شعرية أو كتابات غير تحقيقية في القضية الحسينية منها على سبيل كتابه المطبوع سنة 1983م “فلسفة زواج القاسم بن الحسن في كربلاء”. شخصياً لم اطلع على الكتاب-علماً إنه غير موجود على الانترنيت- ولكني اطلعت على شخص مؤلفه وإمكانياته عبر عدد من المواقع والكتب التي تؤرخ سيرته.
5-الروايتان متناقضتان، فالنص في كتاب الخصائص يتحدث بوضوح عن إن تعرف زينب عليها السلام على كفالة العباس عليه السلام لها كان عند ولادته، في حين إن النص في كتاب النص الجلي يقول بأنها تعرفت على ذلك عند احتضار أبيها علي عليه السلام!كما إنه في النص الأول جاء موضوع الكفالة كتفسير من قبل الإمام علي عليه السلام لما رأته زينب سلام الله عليها من مشاعر أخوية قوية تجاه أخيها العباس عليه السلام، في حين إنه في النص الثاني كانت الكفالة بطلب من زينب سلام الله عليها.6-الشاهد في الشعر في الأولى لا علاقة له بالنص فكيف يكون شاهداً؟! ولا علم لنا من الشاعر إذ لا وجود لهذه الابيات إلا في الكتابين المذكورين مما يشير إلى اقتباس الثاني من الأول أو العكس.7-الغريب إن الكتاب الأول “الخصائص العباسية” والذي من المفروض إنه مصنف للحديث عن الخصائص والذي روي فيه النص الأول كما ذكرنا، لا يتحدث عن خصيصة الكفالة ولا يذكر لقب الكفيل ضمن ألقاب العباس عليه السلام!انتهى حديثنا عن النصوص التي تحدثت عن موضوع الكفالة.
لا وجود لموضوع الكفالة في كل كتب الشيعة الروائية-بحسب تتبعنا- ولم تذكره أي من الكتب التاريخية المعروفة والتي تحدثت عن سيرة أهل البيت عليهم السلام وعن واقعة الطف بتفصيل، كما إنه لا وجود له في الموسوعات التي تحدثت بتفصيل عن واقعة الطف وما يتعلق بها ككتاب موسوعة الإمام الحسين عليه السلام للريشهري، كما إنه لا وجود له في الكتب التي تحدثت عن سيرة زينب سلام الله عليها ككتاب زينب الكبرى من المهد إلى اللحد لمحمد كاظم القزويني وغيره، كما لا إنه لا وجود له في الكتب التي تحدثت عن استشهاد الإمام عليه السلام ولحظات احتضاره وتفاصيلها-أي لحظة الاحتضار- مروية ومعروفة وليس فيها أي حديث عن كفالة أو غير ذلك، كما إنه لا وجود له في الكتب التحقيقية المعروفة المصنفة بخصوص سيرة العباس عليه السلام وأشهرها كتاب العباس عليه السلام لعبد الرزاق المقرم، وكتاب العباس بن علي عليهما السلام رائد الكرامة والفداء لباقر شريف القرشي، وكتاب العباس أبو الفضل ابن أمير المؤمنين عليهم السلام-سماته وسيرته لمحمد رضا الحسيني الجلالي(6)!
كما إن القاب العباس عليه السلام في الروايات والكتب التاريخية المختصة لم يرد من ضمنها لقب “الكفيل” أو قريب منه.ومع كل ما ذكرنا إلا إن موضوع الكفالة منتشر بين الخطباء والشعراء بشكل كبير وهو مادة دسمة للبعض منهم يتبحر فيه ويسهب كما يريد!وليت الأمر أنتهى عند هذا الحد بل إن العتبة العباسية-وهي الجهة المختصة بهذا الأمر أكثر من غيرها والمؤتمنة على الجانب التاريخي والديني في المسألة- تعتمد لقب الكفيل كلقب أهم للعباس عليه السلام وهذا واضح في مشاريعها ومنتجاتها فموقعها الالكتروني المخصص للعباس عليه السلام اسمه “شبكة الكفيل العالمية”، ولديها أيضاً “منتدى الكفيل”، ولديها أيضاً إذاعة الكفيل ومشتل الكفيل ومتحف الكفيل ومستشفى الكفيل التخصصي ومعهد الكفيل وشركة الكفيل ودار نشر الكفيل!!والغريب إنها-أي العتبة العباسية- في سيرتها المعروضة في مواقعها للعباس عليه السلام لا تذكر نصوص الكفالة ولا لقب الكفيل ضمن ألقابه!
عموماً خلاصة ما نريد قوله إن الاعتماد على النصوص الروائية والتاريخية المتعمدة بخصوص سيرة أهل البيت عليه السلام هو “الكفيل” بأن لا نذهب بهذه السيرة يمنة ويسرة بعيداً عن واقعها الفعلي وعن منهج أهل البيت عليهم السلام، وسيرة العباس عليه السلام الدينية والأخلاقية والجهادية وما قاله أهل البيت عليهم السلام بحقه يكفيه وليس بحاجة لأي إضافة مفتعلة.
الهوامش:
1-كتاب الخصائص العباسية لمحمد ابراهيم الكلباسي النجفي ص73. وعلى هذا الرابط تجد نسخة إلكترونية من الكتاب والغريب إن الجهة التي نزلتها “موقع معهد الإمامين الحسنين (عليهما السلام) لإعداد الخطباء والمبلغين) قالت بأنها دققت في الكتاب وأرجعت النصوص لمصادرها ولكنها لم تعلق على هذه الرواية بشيء!
http://www.m-alhassanain.com/…/khasaes%20al%20abasyeh_03.htm2 -النص الجلي في مولد العباس بن علي (ع) لمحمد علي الناصري ص56.
3-طبعته الأولى سنة 1425هـ من قبل انتشارات المكتبة الحيدرية في قم بواقع 368 صفحة وزيري. وفي بعض المواقع إن طبعته الأولى في سنة 1420هـ.
4-كتاب أعيان الشيعة لمحسن الأمين ج2 ص 206 تسلسل 359، وقد افرد له ترجمة مفصلة.
5-المصدر السابق ج2 ص207.
6-الكتاب الأخير صدر بطبعة محققة مؤخراً من قبل العتبة العباسية والمطبعة هي دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع!