19 ديسمبر، 2024 2:07 ص

هل كانت حرب العراق مع إيران عبثية؟

هل كانت حرب العراق مع إيران عبثية؟

تزامنا مع حلول ذكرى انتهاء الحرب العراقية الإيرانية عاودت السرديات القائلة بعبثية هذه الحرب ظهورها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. وتلقي هذه السرديات٬ التي انتشرت بشكل واسع بُعيد احتلال العراق عام ٢٠٠٣ وتم ترديدها مرارا وتكرارا الى أن صارت حقيقةً مطلقةً٬ بمسؤولية وقوع الحرب على النظام العراقي بشكل كامل، مع لوم “صدام حسين” ونرجسيته لوما كاملا عما سال من دماء في تلك الحرب. إن ما يميز هذه السردية التي تلهج بها ألسنة الكثير الناس نزعتها التبسيطية وخلوها من عقلانية الطرح والمحتوى. وبحكم اختصاصي العلمي ولأهمية الموضوع ارتأيت تخصيص بعض الوقت للنظر فيه. ولكي نكون منصفين في حكمنا متجردين من أي تأثير عصبي، فسيتم تفريغ الموضوع قيد الدراسة من كافة الأبعاد الوطنية والقومية والطائفية، مخافة أن نقع في شباك العاطفة ونبتعد عن حاكمية العقل فيه. أما عن رأيي الشخصي فسأفصح عنه في نهاية الكلام

إن المراجعة التاريخية السريعة للحالات المشابهة لحالة الشرق الأوسط إبان الثورة الإيرانية وبُعيدها يكشف لنا إن سلوك النظام العراقي في تلك الفترة لا ينحرف عن السلوك التقليدي لأي نظام يحاول التماهي مع تداعيات ثورة اندلعت في بلد مجاور يعتبره خطرا وجوديا على أمنه واستقراره. فها هي ذا حروب الثورة الفرنسية (1792-1892) خير شاهدٍ على ردة فعل أنظمة بروسيا وبريطانيا وروسيا وإسبانيا والبرتغال الملكية تجاه النزعة الراديكالية للنظام الجمهوري الفرنسي وخطاب تصدير الثورة لباقي أنحاء أوروبا. ويمكننا أيضا التذكير بالتحالف المقدس (1815) بين كل من النمسا وبروسيا وروسيا، بهدف تحجيم تأثير المبادئ الليبرالية والعلمانية (تداعيات الثورة الفرنسية) على القسم المحافظ من أوروبا القرن التاسع عشر. وها هي ذي ثورات الربيع الاوروبي (1848) تمتد الى كافة انحاء القارة بعد ان خرجت عن نطاق السيطرة كما هو الحال مع ثورات الربيع العربي بسبب عجز الانظمة القائمة عن ردعها. خلاصة القول، إن ما حدث في الفترة ما بين شتاء 1979 وخريف 1980 أكبر من صدام ونظامه ومن أي قائد آخر. فالمسألة ذات طابع بنيوي بتعلق بتوازنات القوى الإقليمية وبمنطق الدولة التي لا يكون للعامل الفردي والإنساني دورٌ محوري فيها. وتفسير الكلام ما يلي:

تُدار جميع الدول من قبل أنظمة حاكمة وتسعى هذه الأنظمة الى أمرين: الحفاظ على الوضع الراهن داخليا٬ أي الحفاظ على نظام الحكم القائم وشكله والحفاظ على وجود الدولة بحدودها٬ من دون الوقوع فريسة لاحتلالٍ خارجيٍ أو تجزئة داخلية، ويكون هذا هو الهدف الأسمى والغاية النهائية للسياسة الخارجية للدول. وللسياسة الخارجية أيضا أنواعها، فأما أن تكون سياسة وضع راهن وأما أن تكون سياسة إعادة نظر. فأما سياسة الوضع الراهن، فتنتهجها الدول التي تريد الحفاظ على النظامين الإقليمي والدولي بكل ما يحملانه من توازناتٍ وتحالفات راهنةٍ، راضيةً بذلك بموقعها الحالي في التراتبية الهرمية للقوى. وأما سياسة إعادة النظر فتنتهج من قبل الدول والأنظمة المطالبة بتغيير الوضع الراهن لمكانتها الدولية أو لحدودها الإقليمية بشكل يتناسب مع ما تدعيه لنفسها من موارد وقدرات بشرية ومادية، أما مسألة العدالة وإعطاء كل ذي حق حقه، فهي لا تنتمي الى جنس السياسة بين الأمم في شيء فهذا النوع من السياسة لا يتعرف في جوهره إلا بمنطق القوة والقوة وحدها فقط. بقي أن نقول في هذا الموضوع، إن ما سبق ذكره ليس سوى مصطلحات نظريةٍ تبسيطيةٍ بشكل تعسفي٬ الهدف منها إيضاح وعقلنة ما يجري على أرض الواقع بشكل منطقي يسهل على العقل البشري استيعابه. فلا وجود لدولة وضع راهن أو إعادة نظر بالمطلق، وكل السياسات نسبية فالدولة س قد تكون دولة وضع راهن في قضية معينة ودولة إعادة نظر في قضية أخرى، وهذا ينطبق على المستوى الذي يراد يتم فيه التغيير فبعض الدول راضية على الوضع الدولي الراهن ولكنها تسعى لتغيير محيطها الإقليمي الخ.

تاريخيا ومنذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، انتهجت إيران سياسة أقرب إلى سياسة الوضع الراهن مع محاولة الظهور بمظهر الدولة المتسيدة على الإقليم، بينما بقي العراق دولة وضع راهن حتى انقلب النظام في 1958 وطالب رئيس الوزراء العراقي آنذاك عبد الكريم قاسم بضم الكويت في العام 1961. ومع ذلك بقي العراق دولة وضع راهن حتى استتب الأمر للبعث عام 1968. ومنذ ذلك الحين انتهج العراق (بتقديري) سياسة وضعٍ راهنٍ مغلفةً بخطابٍ مُجلجلٍ يدعو الى إعادة النظر بالحدود الإقليمية العربية. ما حدث في العام 1979 قلب الموازين كلها، فإيران التي كانت متماهيةً بدرجةً كبيرةً مع قواعد النظام الدولي تحولت بين ليلة وضحاها إلى دولةٍ راديكاليةٍ تشبهُ في سلوكها ومطالبها الى حد كبير النظام الذي نتج عن الثورة الفرنسية من ناحية الرغبة في تصدير الثورة مع اختلاف المبادئ المراد تصديرها. وللثورة أنواعها٬ فهنالك الثورات الإصلاحية والتي تهدف إلى تغيير الحكم مع إحداث تغييراتٍ بسيطةٍ داخل النظام القائم، وهنالك الثورات التي تهدف إلى تغيير الحاكم وحده من دون المساس بالنظام وهنالك الثورات تطيح بالنظام برمته وهذه أكثر الثورات راديكاليةً، لأنها لا تثور على النظام وحده بل على منظومةٍ أخلاقيةٍ سائدة في مجمع معين تنوي إزالتها وإحلال قيمٍ جديدةٍ محلها. بحكم الترابط التاريخي والثقافي والعقائدي، كان وقع الثورة الإيرانية كالزلزال على دول المنطقة كافة وخصوصا على العراق الذي يشترك معها في شريط حدودي يصل طوله الى ما يقارب 1500 كلم. فلك يا عزيزي أن تتخيل الخوف الذي سيطر على النظام العراقي في تلك الفترة فجاره الأكبر مساحة وعديدا وعتادا يمر بمرحلة تحول سياسي واجتماعي وثقافي تنتج نظاما هو النقيض النظام الحاكم في العراق في كل شيء سواء من الناحية الإيديولوجية: ثيوقراطي لا يعترف بالحدود القومية ضد قومي علماني أو من الناحية السياسية أعادة نظر ضد وضع راهن ولا يشتركان سوى في الأحلام الإمبراطورية التوسعية التي تتضارب مصالح أحدهما مع مصالح الآخر. وهنا يكمن السبب الجوهري والواقعي لوقوع الحرب.

خلاصة القول، السبب الأكثر تأثيرا لاندلاع الحرب العراقية الإيرانية بدأت بمناوشات بسيطة وانتهت بحرب شاملة استمرت ثمانية أعوام كان الخوف. والخوف هنا هو خوف النظام العراقي من أن تتم إزاحته وخوف الدولة العراقية من أن يتم ابتلاعها وتختفي من الوجود٬ أما خطاب تحرير عربستان وإعادة السيطرة على شط العرب والحقوق التاريخية الخ. فهذه ليست سوى أحاديث للاستهلاك العام، فلا توجد دولةٌ واحدةٌ تزحف بجحافلها للحرب وهي تجاهر بخوفها من عدوها ولا يوجد جيشٌ واحدٌ في العالم يحشد لغزو دولة أخرى بداعي الخوف! فهو بذلك سيكون قد هزم نفسه بنفسه نفسيا قبل أن يطلق رصاصةٌ واحدة. وأكاد أجزم بأنه لو كان في العراق نظام ثيوقراطي تطابق طبيعته طبيعة نظام إيران ما بعد الثورة لما اختلف سلوكه كثيرا عن سلوك نظام البعث في طريقة تعامله مع تداعيات الثورة في إيران. فالحرب لم تكن عبثيةً ولم تكن متعلقةً بحاكمٍ أو مبنية بالأساس على أهواء شخصية ونزعات فردية، بل هي حربٌ أساسها الخوف ومحفزها التغير الكبير الذي طرأ على ميزان القوى الإقليمي ومناخها الثقافي والعقائدي ومنفذها منطق الدولة وطريقة تفكيرها الجمعية، ولك أن ترفع أسمي العراق وإيران وأن تحلل محلهما كل من الباكستان والهند أو روسيا والولايات المتحدة أو المانيا وفرنسا أو تركيا وروسيا الخ. وتحاكي ما جرى في إيران عام 1979 مع أحد الغريمين فستكون النتيجة واحدة والسلوك كذلك!

أما تعبيرا عن رأيي الشخصي٬ فسوف استخدم المثل العراقي المعروف: كوم حجار ولا هالجار!

أحدث المقالات

أحدث المقالات