في التحقيات الجنائية عندما تحصل جريمة ما، أول ما يفكر فيه المحقق هو تحديد الجهة المستفيدة من الجريمة، وغالبا ما يؤدي تتبع هذا الخيط الى معرفة الجاني، ولا يقتصر الأمر على الجرائم العادية، بل الجرائم الدولية والإرهابية أيضا، ففي مسألة إغتيال الحريري في لبنان توصل فريق تحقيق الأمم المتحدة الى تشخيص الجهة المنفذة من خلال تحديد المستفيد من عملية الإغتيال، وبدون أدنى شك كان حزب الله اللبناني هو المستفيد منها، وإنتهى التحقيق بإدانة الحزب المذكور.
العملية الإرهابية التي حصلت مؤخرا في إيران، لا يمكن النظر اليها من زاوية واحدة، بغض النظر عن تصريحات تنظيم الدولة الإسلامية من جهة، والمسؤولين الإيرانيين من جهة أخرى، وعلى الرغم من تضارب التصريحات الإيرانية في عدد المنفذين وطريقة التنفيد، فأن اللجان التحقيقية لم تستكمل عملها بعد وتحدد شخصية المنفذين ومن يقف ورائهم. لذلك فأن تصريحات قادة الحرس الثوري الإيراني بإتهام الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وراء العمليتين لا يعد أكثر من لغو سياسي وإعلامي سيما ان التحقيقات الإيرانية نفسها لم تنتهي بعد.
أشارت التقارير الإيرانية الى قيام أربعة من المسلحين بإطلاق النار داخل مجلس الشورى الإيراني، وقيام مجموعة أخرى بتفجير قنبلة (وقالو ايضا حزام ناسف) داخل ضريح الخميني، مما أدى الى مصرع (12) شخصا وجرح (42) آخرين. ربما لقمة الهجوم على الضريح يمكن بلعها لأن ضريح الخميني يزوره الألاف من الإيرانيين ومن السهل أن يتسلل المنفذون الى داخل الضريح ويفجرونه، لكن دخول أربعة مسلحين الى داخل البرلمان وإطلاق النار، لقمة لا يمكن بلعها مطلقا، كأنما البرلمان متنزه عام بلا سياج ولا حراسة ولا مراقبة الكترونية، وهكذا يدخل المنفذين بسهوله دون ان يصطدموا بحراس البرلمان، ولا تُثار طلقة واحدة قبل شروعهم بالتنفيذ. كما قيل حدث العاقل بما لا يعقل فأن صدق فلا عقل له.
مع هذا سندير وجههنا عن هذا الأمر على إعتبار ان التحقيقات الإيرانية لم تنتهي بعد، ونجد تبريرا للروايات المتعارضة من زعماء النظام. ولكن هنلك جملة من المحطات تستلزم الوقوف عندها. عندما يجري أمر خطير مثل هذا لا بد من وضعه تحت المجهر والوقوف على أدق التفاصيل، أن نعمة العقل لا تكتمل دون البحث والتحقيق والتحليل والخروج بنتيجة منطقية تتوافق من المسلمات العقلية. وهذا ما يجب ان نضعه بعين الإعتبار.
السؤال المهم: هل فعلا نفذ تنظيم الدولة الإسلامية هذا العمل الإرهابي، ام هناك جهة إيرانية معارضة هي التي نفذتها، ووجد التنظيم فرصة ذهبية لينسبها لنفسه؟
لقد إضفت هذه العملية الإرهابية نوعا من المصداقية على تنظيم الدولة الإسلامية بعد أن اشتدت الإتهامات له بسبب خلو ولاية الفقيه من أية تفجيرات إرهابية في الوقت الذي لم تخلو دولة عربية وإسلامية من إرهاب التنظيم، بل ولا حتى مفخخات إعلامية وخطابية ضد النظام الإيراني وشخص المرشد الأعلى. وقد أدى إستبعاد الساحة الإيرانية من عمليات التنظيم الى ميل معظم المحللين السياسيين الى وجود تنسيق فاعل وتعاون سري بين الطرفين، والمنطق السليم يؤيد هذه الحقيقة، كما ان قادة التنظيم الأم (تنظيم القاعدة) مقيمون في إيران، وسبق ان عثر على وثائق يُبرر فيها الشيخ إبن لادن سبب إستبعاد إيران من إرهاب التنظيم بإعتبارها ممر مهم للتنظيم وملجا آمن لزعمائه وعوائلهم، ومصدر لتمويل أعمال الإرهابية.
صحيح أن تنظيم الدولة الإسلامية قد نَسَب العمل الإرهابي اليه، لكن لا توجد تحقيقات ختامية حول الجهة الحقيقية التي تقف وراء العمليتين، وسبق لتنظيم الدولة ان نسب لنفسه أعمال إرهابية، تبين لاحقا انه لا علاقة له بها، ومنها مأساة الكرادة الأولى التي راح ضحيتها مئات الأبرياء ولم يكشف اللثام عنها لحد الآن.
سنترك هذا الموضوع أيضل لغاية إستكمال التحقيقات، والتي بتصورنا سوف يُحمل التنظيم مسؤوليتها، سواء كان التنظيم قد نفذها أم غيره لعدة إعتبارات، أهمها”
1. أن داعش قدم خدمة كبيرة لأيران في هجومه المزعوم على قبر ضريح الخميني والبرلمان.
لو رجعنا قليلا الى الوراء وأستذكرنا تصريحات القيادة الإيرانية لوجدنا أنها تمثل إمتدادا لما يجري الآن على ساحتها.
فقد اعترف قائد القوة البرية في الجيش الإيراني(أحمد رضا بوردستان) بتأريخ 25/8/2015 بالتوغلِ العسكري البري في ناحيتي جلولاء والسعدية بمحافظة ديالى، بداعي منع الخطر عن بلاده. كما ذكرت وكالة إرنا الرسمية الإيرانية، بأن ممثل المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في الحرس الثوري (علي سعيدي) قد صرح خلا اجتماع قادة وضباط فيلق الحرس الثوري في محافظة لرستان غربي إيران في 12/8/2015 بأن” البحرين وسوريا والعراق واليمن ولبنان وغزة تشكل عمق إيران الاستراتيجي، وأنها ضامن استمرار حياة الجمهورية الإسلامية”. كما ذكرت (وكالة فارس الإيرانية) تصريحات للخامنئي لدى استقباله عوائل 7 قتلى من منسوبي القوات الخاصة ممن قُتلوا في سوريا حيث بقوله ” لو لم نردع الأشرار ودعاة الفتنة من عملاء أميركا والصهيونية في سوريا، لكنا نصارعهم في طهران وفارس وخراسان وأصفهان”. وجاءت العملية الأخيرة لإثبات هذا الكلام، وإعطاء مسوغ للتدخل الإيراني في شؤون الدول الأخرى بحجة الحفاظ على الأمن القومي الإيراني.
2. إعطت العملية الإرهابية فرصة ذهبية للقيادة الإيرانية لتوجيه أصابع الإتهام الى المملكة العربية السعودية على إعتبار ان وزير الدفاع السعودي الأمير محمد بن سلمان سبق أن صرح في 2/5/2017 بأن السعودية ستعمل على نقل المعركة اليها وليس في المملكة العربية السعودية. وفعلا باشرت المملكة بتنفيذ سياستها الجديدة تجاه إيران بنقل المعركة الى داخلها. وهذا يعني ان المملكة وفق المزاعم الإيرانية هي التي تحرك داعش وليس إيران!
3. يلاحظ المراقبون للساحة الإيرانية زيادة الضغوط الداخلية على النظام الإيراني بسبب كثرة الضحايا الإيرانيين في العراق وسوريا واليمن ولبنان علاوة على المليارات التي تنفقها ولاية الفقية على دعم الأنظمة الموالية لها، بالإضافة الى تسليح وتمويل الميليشيات المرتبطة بها في العراق وسوريا وافغانستان واليمن ولبنان علاوة على تمويل الخلايا النائمة سيما في دول الخليج وافريقيا، فقد كان الرأي العام الإيراني لا يجد جدوى من مشاركة إيران في حروب لا ناقة لها فيها ولاجمل، ولا موجب لصرف المليارات على الدول المرتبطة بولاية الفقيه، في الوقت الذي تفرض الولايات المتحدة الأمريكية واوربا الحصار الإقتصادي على النظام، وهذا ما لاحظناه في التظاهرات الأخيرة التي عمت إيران ورفعوا شعارات معارضة للتدخل الإيراني في شؤون الدول الأخرى بمناسبة (يوم القدس) منها” لا غزة ولا لبنان روحي فداء لإيران”. و” قُتل شباب الوطن الله أكبر”. وأعطى الهجوم الأخير المبرر الكافي للتدخل الإيراني في شؤون بقية الدول بحجة منع وصول الإرهاب الى إيران، لكن مع كل هذه التصريحات والإجراءات الأمنية المشددة والتوغل في الأراضي العراقية بحجةالأمن القومي الإيراني والمستنقع السوري، فقد طرق الإرهاب باب ولاية الفقيه.
4. محاولة التغطية على فشل السياسية الإيرانية الداخلية والتزوير الحاد في الإنتخابات وفشل مرشح الخامنئي من الفوز بالإنتخابات علاوة على المشاكل الإقتصادية التي تستوجب تغيير بوصلة الرأي العام الى عدو خارجي، فقد أعلن (برويز مفتاح) مسؤول لجنة الخميني للإغاثة في 27/2/2017 بأن (11) مليون ايراني يعيشون تحت خط الفقر، وان البلد على وشك الثورة بسبب انتشار الفقر وعدم توفر فرص الحياة الكريمة، علاوة على ارتفاع نسبة البطالة، فقد ذكر المعهد الإيراني للإحصاء في 12/10/2016 بأن عدد العاطلين عن العمل وصل الى (25.7) مليون عاطل، علاوة على الفساد الحكومي، والتضخم، وارتفاع معدل المعتقلين والسجناء السياسيين واساليب القمع وغيرها.
وفعلا تمكن النظام من توظيف الهجوم الأخير بإلتفاف الشعب حول النظام أزاء العدو الخارجي، وتأكيد مصداقية النظام في مناصرة الدول التي تحارب تنظيم الدولة الإسلامية.
5. إستغلال الهجوم الجديد بالتوافق مع تطورات الأزمة الخليجية بالتقرب من تركيا لإيجاد حلف يضم ايران وتركيا وقطر وربما لاحقا روسيا لمواجهة المحور الخليجي، وفعلا قام وزير الخارجية الإيراني بزيارة تركيا للتنسيق في المواقف المشتركة ودعم قطر أزاء العقوبات الخليجية. مع أن دولة قطر أضعف من أن يكون لها دور في السياسة الأقليمية والدولية مقارنة ببقية دول الخليج العربي.
6. صدرت تصريحات من الرئيس الأمريكي ووزير الدفاع بإعتبار إيران الدولة الراعية الأولى للإرهاب الدولي، وأنطلقت تصريحات البيت الأبيض من خلال المراقبة والرصد للتحركات الإيرانية والميليشيات الموالية لها في المنطقة من جهة، وبسبب خلو الساحة الإيرانية من أية عملية إرهابية من قبل التنظيم من جهة ثانية، في الوقت الذي تعتبر فيه المملكة العربية السعودية ثالت أكبر متضرر من العمليات الإرهابية لتنظيم الدولة الإسلامية بعد سوريا والعراق، ويحاول النظام سد هذه الثغرة بأية طريقة ممكنة، وجاءت العملية الإرهابية الحديد لتسدها.
والأيام القادمة يمكن ان تكشف لنا المزيد من التفاصيل والحقائق.