كنت دائمًا، ومنذ صغري، أتحين اللحظة التي أقبّل فيها أبي…
أبي ذلك الشخص المهيب بزيه العسكري وعينيه القويتين…
لم يكن أبي قاسيًا أبدًا، لكنه كان صاحب هيبة وحضور؛ لذا كان مجرد تفكيري بتقبيله دون مناسبة أمرًا مخيفًا وصعبًا عليّ.
كانت الأعياد والمناسبات فرصًا جيدة لأحظى بقبلة منه أو أكثر.
غيابه الدائم عن المنزل لم أفهمه ولم أقدّره إلا بعدما كبرت وأصبحت لدي أسرة، حينها فقط عرفت حجم معاناته ليُوفر لي ولاخوتي ما نحتاج. كيف لا وهو قضى شبابه في أرض المعركة؟
لا زلت أذكر يوم عاد للمنزل بعد تعرضه لحادث سير أقعده على كرسي متحرك لأكثر من ثلاثين سنة… يومها نظرت إليه من بعيد ولم أجرؤ على التحرك تجاهه… كان المشهد صادمًا!!!
فالرجل الذي وطئت قدماه أرض العراق شمالًا وجنوبًا لم يعد قادرًا على الوقوف عليها إلا بمساعدة!
يومها فقط شعرت بالضعف، وأن مستقبلي في خطر.
يومها اختبأت في إحدى غرف منزلنا باكيًا عليه ولم أستطع تقبيله.
وبعد أن مضى عمري وتخرجت، فزت منه ببعض الأحضان والقبل التي لا تُنسى. أتذكر يوم قبولي لدراسة الدكتوراه عندما بشّرته فدعاني ليقبّلني… ويوم خروج أسرتي من سيطرة تنظيم داعش، عندما جمعنا الله عز وجل بعد ثلاث سنوات عجاف من الفراق، ليكون لقاءً حارًا جدًا جدًا.
في أيامه الأخيرة كنت أقبّله لكن دون أن يشعر بوجودي… لكن كان يكفيني شعوري بوجوده.
قبل أن أغادر منزل الأهل، وفي أيامه الأخيرة، قبّلته من رأسه ويده… كان نائمًا، لكنني شعرت بتيار من مشاعري الأبوية كاد أن يحرقني… وكان له ما بعده عند عودتي لبيتي… كان لدي شعور أنها قد تكون القبلة الأخيرة التي أحظى بها من والدي في حياته… وللأسف هذا ما كان.
لكن…
رزقني الله قبلة وضعتها على جبينه وهو مسجى في صالة منزل الأهل قبل أن يُحمَل ليُغَسّل ويُدفن… حينها ندمت كثيرًا على سنوات وأيام كنت أفوت فيها فرصة القرب منه والحديث معه واحتضانه وتقبيل رأسه ويديه لأسباب غبية لا معنى لها.
واليوم أجد من الضروري لكل شخص والداه على قيد الحياة ألا يفوّت أي لحظة للقرب منهما والفوز بأحضانهما وقبلاتهما… فهي كالدواء الشافي وكالجرعات التي تستمد منها الحياة. ولتسأل نفسك دومًا قبل النوم:
هل قبّلت والدك اليوم؟؟هل قبّلت أباك اليوم؟