18 ديسمبر، 2024 8:08 م

أحببت في عليٍ حبه للإنسان ويحب لأخيه ما يحب لنفسه ويحب الفقراء ويحبونه، ويتصرف كأبسط الناس وهو في أعلى هرم السلطة لأن السلطة عنده وظيفة وتكليف ينزهها الشخص ويعظمّها وليست السلطة من جعلته عظيماً.

أحببت في عليٍ عدم رضاه بمنصبه وعدم قناعته فيه إلا أن يحقق للناس عدل ورفاهية وعيش كريم، فقيل أن دخل عليه ابن عباس في ذي قار جنوب العراق لدى توجهه لصد الخارجين عليه من الحجاز لمّا حاربوه لعدالته، وكان عليٌ يخصف بنعل له بالية، فقال الأمام علي لصاحبه ابن عباس: (ما قيمة هذا النعل)؟!

فرد ابن عباس: (انه نعل بالية) –لا تساوي شيئا-!

فرد عليه الأمام علي: (هي –النعل- خيرٌ لي مما يحاربونني عليه –السلطة- إلا أن أُقيم حقاً أو أدفع باطلاً).

هذه السلطة اليوم قتلوا الناس للظفر بها وسرقوا وباعوا واشتروا بثروات الوطن ليغنموها وضيعوا حقوق الشعب من أجل نيلها. جميعها كذلك. من السلطات الصغيرة في دوائر الدولة التي يغنمها غانموها بواساطات ورشوات ومحاصصات وحتى أعلى هرم السلطة ينالها بذات الالية الفاسدة.

ولا أعرف كيف يرتجى أن تكون النتيجة خيراً والطريق لها فساد في فساد.

أحببت في عليٍ حرصه على الناس عموماً وجميعاً (لا تفريقاً ولا تمييزاً) ففي أحد المرات بينما كان يتفقد أحوال الرعية بنفسه (لا أعضاء حزبه يفعلون ما يحلوا لهم وبمزاجهم، ولا تشكيل لجنة لتمييع وتضييع الحقوق) فوجد شحاذاً فأمتعض وغضب لرؤيته وثار قائلاً (ما هذا)؟! وأخذه وصرف له استحقاقه من بيت مال المسلمين.

يتفقد أحوال الناس بنفسه ولا يستكف من خدمهتم فعلي لم يكترث لبهارج السلطة الدينية والسياسية والأجتماعية ليس كالغالبية العظمى من قيادات اليوم من سياسيين ورموز مجتمع ورجال دين ممن يستنكفون من كل شيء، حتى من تنفيذ واجباتهم الوظيفية التي يتقاضون عليها رواتب تترواح بين الكبيرة والخيالية.

والمُلاحَظ أن علياً لم يقل (من هذا) فهو لم يقبل وجود شحاذاً وهو حاكم، وقيل أن هذا الشحاذ كان على غير دين الإسلام.

أراك في يوم من أيام الكوفة تتفقد الرعية كعادتك، فترى شحاذاً فترتعد فرائصك وتهتز، وأنت الذي لم تهتز عند مواجهة أبطال الحروب وأرديتهم صرعى أمامك.

أراك تهتز يا علي لأنك رأيت شحاذاً يشحذ وعلي حاكم!

تأمر له بالعطاء الفوري ولم تسأل من هو، لتعلم لاحقاً أن الشحاذ كان على غير دين الإسلام (مسيحياً ربما أو يهودياً) سكن بـ(سلام تام) بجوار مسلمي الكوفة فلم يغير ذلك بالأمر شيئاً ولم يعر له علي أدنى اهتمام، فعلي يعامل الإنسان على أنه إنسان كرمه الله أولاً وأخيراً، وهو القائل: (الناس صنفان: أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).

مر شيخ كبير أعمى يسأل طالباً، فقال أمير المؤمنين: ما هذا؟! –لاحظ – مرة ثانية (ما هذا!).

قالوا: يا أمير المؤمنين نصراني!

فقال لهم: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه! أنفقوا عليه من بيت المال.

تعال ها هنا في يومنا يا علي لترى الفقر والتمييز بالعطاء والمناصب، وعائلات وأحزاب تحكم وتبطش وتظلم وتسرق بالناس على قفا من يشيل بأسم مغانم السلطة.

تعال لترى الناس تحقد ويصيب قلوبهم شيء لدى معرفتهم أن فلاناً من طائفة ليس كطائفتهم في الدين الواحد، فأصبح الدين مدعاة للكراهية والأهانة أكثر من الحب والأحترام.

دين طائفة اليوم لا دين الله.

يعبدون الطائفة لا يعبدون الله. ولك أن تقيس ببقية الأديان.

أصبح شبه المنقرض دين الفكر والتفكر، فالسائد اليوم دينٌ يورّث وراثة عن الآباء والأجداد كما يورّث الشكل والدار والعقار طوائفاً وطُرقاً ألفوا أبائهم عليها عاكفين أو توجيهات يتم تلقينهم أياها ويحسبوها الدين.

دخل عقيل بن أبي طالب على أخيه علي (ع) أيام خلافته، وكان عقيل أعمى ويطمع بزيادة في راتبه ومستحقاته من بيت مال المسلمين والذي هو اليوم في أرقى الأنظمة يُسمى (الضمان الاجتماعي).

فقال الأمام علي لأخيه عقيل: لو كنت تحتاج لِلباس فسأعطيك من استحقاقي الخاص ولا أزيدك درهماً ليس بحقٍ لك.

فقال عقيل لأخيه: يا علي إني بحاجة.

فقال له الأمام علي مؤدباً: خذ بيدي وأذهب بي إلى سوق الصرافين لأسرق لك!

فقال له عقيل: لم أقل لك ذلك!

فقال له علي: وما فرق أن أسرق من بيت المال (الميزانية، عوائد النفط وخيرات الدولة، مميزات حكومية لموظفين كبار على حساب بقية الموظفين، مقاولات ونسب أرباح مشروطة لتمرير العقود، مخصصات كبيرة لمسؤولين وسياسيين على حساب بقية الشعب، مميزات لأحزاب سياسية على حساب الشعب، نفقات لسفرات ومصاريف وولائم المسؤولين من أموال الشعب، موظف يتقاضى راتباً ولا يؤدي وظيفته بالشكل الصحيح) أو أسرق من سوق الصرافين؟!

لم يقتنع عقيل وألح على الأمام علي (ع)، فأراد الأمام علي أن يهذبه بأكثر مما تهذب العامة من الناس، فأحمى حديدة وطلب من عقيل الأعمى أن يمد يده، فمدها، فوضع الأمام علي الحديدة الحامية بيده فأن لها عقيل وصرخ متألماً، فقال له الأمام علي: (يا عقيل أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني الى نار سجرها جبارها لغضبه، أتئن من أذى ولا أئن من لظى)!

هذا هو الأمام علي من ألهم كاتب مسيحي معاصر هو (جورج جرداق) أن يكتب فيه سِفراً رائعاً بكتاب طبعوه بمجلد كبير ومن ثم بخمسة أجزاء عنوانه (الأمام علي صوت العدالة الإنسانية) يقع جميع أجزاءه الخمسة في (1379) صفحة في طبعته الأولى كأجزاء لسنة 2003. وكتب فيه مسيحي معاصر آخر هو (راجي أنور هيفا) كتاباً عنوانه (الأمام علي في الفكر المسيحي المعاصر) حيث يقع في (750) صفحة في طبعته الأولى لسنة 2007.