سابقا كانوا يبخسون بصناعتنا الوطنية لعجزها عن صناعة إبرة ( الخياطة ) ، ولكن بعد سنوات تمكنت القطاعات الوطنية من ولوج مختلف الصناعات شملت العديد من الاختصاصات والفعاليات ، ولكنها للأسف سرعان ما انهارت وأخذت بالتراجع عاما بعد عام بسبب الحروب والحصار والاتكاء على إيرادات النفط في توفير احتياجات الناس من خلال الاستيراد الذي خرج عن حده المعقول ، ويبدو إننا كنا نمضي بالترقيع منذ عقود مضت ولكننا نقنع أنفسنا بأننا بأحسن الأحوال لا بالمقارنة مع العالم المتقدم وإنما من خلال القناعة على أساس إنها كنز لا يفنى او من خلال المقارنة مع الضعفاء والفقراء والتباهي بأننا من أغنى البلدان ، متجاهلين وليس جاهلين بما تشهده الدول الأخرى من تطور في مختلف المجالات ، فالموازنات الانفجارية السنوية التي نشهدها كل عام تعادل أكثر من موازنات أربع او خمس من الدول التي تفتقر إلى الأموال والمهارات والكفاءات ولكنها تتفوق علينا في توفير احتياجات شعوبها وتصدر لنا في كثير من الاحيان ، ومما يغيض ويعتصر القلب فعلا إن البعض من كوادرنا هم من يصنعون الأمجاد للعديد من الدول وان كنا نتفوق عليهم في الكثير من الأمور ، والتخلف الذي عشناه لعقود وسنين مشخص كامل التشخيص ولكن ما يعوزه ليس سبل المعالجة والحلول وإنما الإرادة والقرار ويتقاسم مسؤولية ما نعيشه على الكثير ، فمن الغريب إننا نمتلك كل الوسائل والأدوات للمعالجة ولكن همومنا تتكاثر يوما بعد يوم .
وإذا كان فيروس كورونا لا يرى بالعين المجردة فانه كشف عن عيوبنا وعوراتنا بشكل واضح وكبير رغم إنه لم يمسنا كما مس غيرنا في الشرق والغرب والحمد لله ، فبين ليلة وضحاها رحنا نبكي على عدم وجود نظام صحي وقلة المخزونات والإمكانيات الصحية للوقاية من الوباء والنقص الكبير للمعالجة المطلوبة الحالات ، كما اكتشفنا إن صناعتنا الوطنية بقطاعاتها الحكومية والمختلطة والخاصة والتعاونية غير قادرة على صناعة كمامة طبية كما كان آبائنا وأجدادنا لم يفلحوا بصناعة إبرة الخياطة التي لم نصنعها حتى اليوم ، وانكشف مع نقص الكمامات زيف وكذب من كان يصرح بان بلدنا من أغنى دول العالم وان مستقبله مؤمن لكل ما يحتاجه الإنسان ، فالكثير من الاحتياجات لم تكن متوفرة عند فرض الحظر الصحي بعد الإعلان عن دخول البلاد مرحلة الوباء لان الاستيراد هو الذي وفر اغلب ما نحتاج ، بدليل إن التلكؤ الذي أحدثته بعض السيطرات في مرور الشاحنات أظهر نقصا في الغذاء تم تلافيه من خلال الإيعاز بتذليل كل عقبات الاستيراد القادم من خارج الحدود ، وهاهي اللجنة العليا للسلامة وخلية الأزمة لمواجهة وباء كورونا تصابان بالحرج الشديد لأنها رفعت الحظر جزئيا بشرط لبس الكمامات الطبية لضمان عدم انتشار الوباء ، ونسبة الالتزام بارتداء الكمامات منخفضا مما أدى لظهور العديد من الإصابات بالوباء وبشكل يهدد فاعلية الجهود التي بذلت للسيطرة على انتشار الفيروس وكأننا سنبدأ من جديد .
نعم ، إن التعليمات نصت على تغريم المخالف 50 ألف دينار عند عدم لبسه الكمامة ولكن المسؤول عن تنفيذ التعليمات لا يملك هو وأمه وأولاده الكمامات ليجرأ على المحاسبة بالفعل ، كما انه يحرج كثيرا لان المخالف يقول له إن الكمامات غير موجودة في الأسواق التجارية كما إن الصيدليات والمؤسسات الصحية لم توزعها ، فالجميع يعلم بان البلد ليس فيه العدد الكافي من الكمامات ونحن نعجب من الذي اصدر التعليمات كيف انه لا يعرف بهذا النقص لان الكمامة ليست سلعة معمرة إذ ويجب إن تستبدل يوميا او لأكثر من مرة في اليوم لأغلب الحالات ، والكمامات تستورد من الخارج وأكثرها من الصين وفي زمن الجائحة فان من المستحيل إيجاد مصدر لاستيراد مستلزمات الوقاية والعلاج من هذا الوباء ومن موطنه بما يكفي لحاجة سكان البلاد بتعداد قرابة 40 مليون من السكان ، لان الدول جميعا تعاني النقص ولكن ليس بالمقدار الذي يعانيه العراق ، واستيراد الكمامة الطبية العادية لا يكلف دولارين للعلبة المكونة من 50 قطعة ولكن تجارنا الذين تحول لهم يوميا 200 مليون دولار ليغطوا استيراداتهم لم يستوردوا الكمامات أما لضعف أرباحها المادية او لكونها ليست من الضروريات حسب رأي البعض ، كما إن وزارة الصحة التي نخرها الفساد باعتراف الوزير المستقيل لم توفر ما يحتاجه السكان من الكمامات رغم إنها ليست بثمن الأدوية السرطانية وأدوية الأمراض المزمنة التي يموت بنقصها وغيابها عشرات الآلاف دون حساب وكتاب ويستورد التجار ( الأدوية ) غير الصالحة منها بمبلغ 6 مليارات دولار سنويا حسب تصريح وزير الصحة الحالي .
وإذا اعترفنا بوجود تقصير في الاستيراد فلماذا لم نصنع الكمامات وهي عبارة عن قطعة قماش وقليل من القطن واثنين من ( اللاستيكات ) ونحن نملك المئات من المصانع العاطلة التي تتباكى على عدم حماية المنتج المحلي ، فنقص الاستيراد وعدم تعويضه بالمنتج المحلي ( رغم انه عكس المعادلة الصحيحة ) يعني إن صناعتنا الوطنية تعاني من نقص في التقصي عن الفرص التي يمكن من خلالها تشغيل بعض المصانع من هفوات الاستيراد التي يسمونها ( البحث والتطوير او جودة التسويق ) ، كما إن ذلك يثبت بان الاستيراد رغم تمويله بالدولار الذي هو من حق الشعب ، إلا انه يصب لمصلحة التجار وليس للمصالح الوطنية بمعنى انه خارج الاحتياج الفعلي والدراسات فالهم عندهم هو جلب البضاعة وتصريفها بأسرع ما يمكن وجني إرباحها ثم التزود بالدولار لإعادة العملية مرات ومرات دون مخاطرة وأوجاع الرأس ، ومما يثير العجب إن بعض الأفراد قد تطوعوا لخياطة الكمامات وتوزيعها عشوائيا او لتسليمها لجهات وان مثل هذه المبادرات لم نشهدها من المصانع الحكومية والأهلية المختصة بالخياطة والحياكة والنسيج وأقسام الخياطة في المدارس والمراكز المهنية والمعاهد التقنية والمشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تمول بالمبادرات ، والتي لديها قدرات هائلة لتحوير خطوطها الإنتاجية لتوفير ملايين الكمامات لتغطية احتياجات شعبنا ووقايته من الوباء ، ولعل السبب معروف في التنصل عن هكذا مبادرات وهو لأنها لا تحقق الأرباح المجزية ولا تغطي التكاليف ، والحكومة لم تشجع وتحث وتجبر مصانعنا المحلية التي تدفع لبعضها الكثير من الأموال عن العجز في تغطية النفقات ، لتحيل لها مثل هذه المهمات لان الحكومة هي لتصريف الأعمال وخلية الأزمة منذ الأيام الأولى لتشكيلها تشكو من التدخل في أعمالها ونقص الإمكانيات ، ومن الضرورات إن تعلم إن ذلك من صلب واجباتها بموجب قانون الصحة العامة رقم 89 لسنة 1981 الذي يخول استنفار إمكانيات البلد كافة بغض النظر عن ملكيتها لمواجهة حالات الوباء ، وبين هذا الفشل وذاك ربما سيكون الخيار القادم هو إصدار قرار بإعادة الحظر الشامل في لعدم القدرة على توفير الكمامات الطبية للشعب استيرادا وإنتاج ، وسيكون من الحق والعدل التساؤل إذا عجزت البلاد عن توفير كمامات طبية في الوباء فكيف ستحل المعقد من المشكلات ؟ .