17 نوفمبر، 2024 5:37 م
Search
Close this search box.

هل صار الشعب الجزائري نسخة من النظام الحاكم

هل صار الشعب الجزائري نسخة من النظام الحاكم

أزمة الحكم وتخلفه في الجزائر نابعة من الفشل في الشروع في تأسيس وبناء طور المجتمع أولا، ثم الانتقال إلى بناء طور الدولة وأجهزتها بعد الاستقلال.
استغرب الكثير من المراقبين المهتمين بالشأن الجزائري حصيلة النتائج النهائية التي تمخّضت عنها الانتخابات التشريعية الجزائرية والتي تصدّرها كل من حزب جبهة التحرير الوطني بـ164 مقعدا، وحزب التجمع الوطني الديمقراطي بـ97 مقعدا وكلاهما يمثلان ترسانة النظام الحاكم في البلاد.

لا شك أن نتائج هذه الانتخابات التي عصفت بالمعارضة على نحو دراماتيكي تطرح قضية كبيرة للنقاش، وهي القضية التي لم تدرس وتحلل بما فيه الكفاية من قبل الدارسين السياسيين الجزائريين أو الأجانب، وتتمثل في هذا السؤال المركزي: لماذا يواصل جزء معتبر من القاعدة الانتخابية الشعبية الجزائرية ترجيح كافة أحزاب السلطة ومساندة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة في كل الانتخابات الرئاسية التي خاضها، في الوقت الذي نجد الشارع الشعبي في الجزائر العميقة يبدي دائما غضبا وتذمرا إزاء فشل هذا النظام وأحزابه ومختلف أجهزته في حل المشكلات التي تتخبط فيها البلاد وفي مقدمتها البطالة وغلاء المعيشة والفساد المالي وانحطاط الأداء السياسي والحكومي، فضلا عن التحطيم المنهجي للمنظومة التعليمية بمختلف مستوياتها، وتدهور قطاعات الصحة والخدمات والثقافة وغيرها من القطاعات التي يعشش فيها الإهمال والخراب.

إن هذا السؤال ضروري لأنه يساعد على فهم فشل التعددية الحزبية الجزائرية جراء إجهاض النظام الجزائري للنمو الطبيعي لثقافة المعارضة السياسية من جهة، وبسبب اختزال الحياة السياسية في الجهوية والشللية والفردية من جهة أخرى.

وفي الحقيقة فإن طرح مثل هذا السؤال المركزي سيؤدي بنا إلى فكَ شفرات الركود العام في المجتمع الجزائري، الذي هو نتيجة حتمية للعمليات التي حوَل النظام الجزائري بمقتضاها جزءا مهما من الشعب الجزائري إلى نسخة مطابقة له حيث صار يفكر مثله ويطبق ما يريده ويعيد إنتاج ثقافته السياسية العقيمة.

في هذا السياق ندرك أن النسبة المئوية الكبيرة التي لم تنتخب في هذه الانتخابات التشريعية لم تتخل فقط عن مسؤوليتها التاريخية، بل إن انسحابها من ممارسة الفعل السياسي ومن الانخراط في العملية الانتخابية بشكل حاسم من أجل إحداث قطيعة مع موروث الحزب الواحد وحكم الرجل الواحد وجماعته، هو بسبب التفريغ المنهجي من الوازع السياسي الذي مارسه النظام الحاكم ضد هذه الشريحة بطرق الترهيب حينا والترغيب والتحايل حينا آخر. أفرز هذا الوضع خللا أخلاقيا في البنية الثقافية والنفسية للمواطنين وعمّق لديهم عدم الثقة في المعارضة أو في السلطة.

إن هذا التأويل يمكن أن تسنده تأويلات إضافية أخرى حيث يمكن لنا، مثلا، تفسير تجديد الثقة في هذه الانتخابات البرلمانية الأخيرة وغيرها من الانتخابات السابقة بما في ذلك الانتخابات البلدية والرئاسية، من طرف نسبة معتبرة من الوعاء الشعبي الانتخابي في أحزاب السلطة وسحبها من المعارضة بمختلف أطيافها على أساس أن هذا الوعاء الانتخابي لا يزال لاوعيه الجمعي مسكونا بشبح العشرية الدموية، وهو ما يعكس بشكل غير مباشر خوف أغلبية الجزائريين من أن يؤدي التغيير السياسي إلى تكرار سيناريو العنف الدموي.

إضافة إلى ما تقدّم فإنه ينبغي الإشارة إلى مشكلة محورية، ذات بعد تاريخي لا يمكن فصلها عما يحدث الآن من انحرافات، عاقت ولا تزال تعوق الانتقال الديمقراطي في الجزائر وتتمثل أساسا في إخفاق جزء من تجربة الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي من تجاوز النرجسيات الفردية التي تسببت في التصفيات الجسدية والقمع الأيديولوجي، وكذا إخفاق التجربة الاستقلالية الجزائرية في القطع مع مخلفات ذلك الماضي وفي بلورة ثقافة إدارة شؤون المجتمع على نحو جماعي لامركزي.

هذه الإخفاقات لا تزال تأثيراتها قائمة على مدى أكثر من نصف قرن من الحكم الفردي المفروض من قبل مؤسسات وأجهزة الدولة القمعية التابعة للفرد الحاكم وللأجهزة التي تسانده. في هذا السياق فإن المثقف الجزائري مصطفى الشرف لاحظ مبكرا أن أزمة الحكم وتخلفه في الجزائر نابعة من الفشل في الشروع في تأسيس وبناء طور المجتمع أولا، ثم الانتقال إلى بناء طور الدولة وأجهزتها بعد الاستقلال. ومن جهة ثانية فإن تأثير الاقتتال المستمر على السلطة في الجزائر منذ الاستقلال لعب دورا مفصليا في فرز ثقافة الإلغاء لأي اختلاف في الرؤية سواء على مستوى الذهنية الشعبية أو لدى النخب أو على مستوى منظومة الحكم برمته.

من هنا يمكن أن نفسر هذا التناغم بين الذهنية السائدة في الأوساط الشعبية وفي أوساط النخب السياسية. فمن غير المعقول أن يتنافس 57 حزبا، فضلا عن 1125 مترشحين مستقلين، على 462 مقعدا برلمانيا حيث أن عدد هذه الأحزاب وهؤلاء المترشحين المستقلين لا يعكس زخما سياسيا وفكريا متطورين، بل يبرز حالة مرضية تتمثل في الصراع على المصالح التي تختزل في النفوذ المادي والمعنوي وفي المرتب المسيل للعاب الذي يتقاضاه عضو البرلمان مدى الحياة.
نقلا عن العرب

أحدث المقالات