ان مقالنا هذا هو تكملة لمقالنا السابق (مليشيات تؤسس لفكرة معاداة الدولة للهيمنة على كل شيء في العراق ومنع قيام دولة القانون) ونقول:
في دولة العراق، هناك تجاسر على القانون بطريقة وصلت الى حد منح القانون أو تخلى عن الكثير من صلاحياته الحصرية إلى ميليشيات وسرايا وأحزاب سياسية، باتت لها سلطاتها الواسعة وإجراءاتها التي تتقاطع حتى مع كل القوانين الوطنية والدولية والاعراف السماوية والوضعية، وقد لاحظنا عدة ممارسات من خلال فيديوهات نشرت في مواقع التواصل الاجتماعي تجسدت بالقصاص في الساحات العامة وميادين المعارك والشوارع، من افراد تحت اتهامات بانه داعشي؛ فمن اعطى هذه الصلاحية لهذه المليشيات ان تقوم بذلك وبدون أي استنكار او إجراءات قانونية بملاحقة المتورطين من الحكومة؟ ومن الذي سمح بإقامة الحد على الناس بتعليقهم على الاعمدة أو حرقهم في الساحات العامة (حصل في المناطق التي دخلتها الميليشيات، بعد انسحاب عناصر داعش الارهابي منها)
ان تلك الممارسات من حرق منازل وتفجيرها وسرقتها إضافة الى انها تشكل عبأ اقتصادي كبير على الدولة في إصلاحها، فإنها، تشير الى ان سِلاح المليشيات فوق القانون بسبب الوهن الذي دب في اركان الدولة والضعف والفساد الذي شتت اوصالها، وبات سلاح المليشيات وسيلة من وسائل الترهيب والرعب التي تمارس يوميا في العراق، حيث تتبارى الأحزاب السياسية في صنع الميليشيات والأجنحة العسكرية، وبات لكل منهم سجونا سرية، ولها سرايا تقوم بخطف الناس ومصادرة أموالهم وتعذيبهم، وقد تعزز الاثر الفعلي لهذا الحزب أو تلك الكتلة في الساحة السياسية بطريقة أصبحت خطر داهم يهدد كيان الدولة العراقية.
ان على القوى الراعية لدولة العراق القانونية، ان تحث المليشيات وكتلهم السياسية الراعية لها وتدعمها بالارتفاع الى مستوى اجراء مراجعة شاملة لمعادلاتها العقلية وطرائق تصرفها، وتحديد نوع صلتها بالعراق الدولة والارض والشعب، اي ان عليه التزاما بالقانون والدستور والمنطق والعرف والاخلاق والدين، ان تتفادى اي نشاط مخل بالأمن، وبالتالي تسليم السلاح الذي تمتلكه، والتصرف على اساس معادلة جديدة تُصادق على شرعية الحق العراقي؛ اي حق المواطنين العراقيين في وطن سيد لا وجود لأي سلاح غير ذي شرعية فيه، ولكن المعطيات الموجودة في المشهد العراقي تؤكد هيمنة النزعة المليشياوية، التي تنطلق من قدسية فكرة ومشروع المقاومة والقتال، لتصل الى ارساء استراتيجية جديدة وذهنية جديدة ومفاهيم جديدة تتخذ منها مداخل وظيفية وعملية نحو انجاز باطل: اسقاط مشروع الدولة الوطنية.
ان مسالة الإبقاء بالسلاح تحت ذريعة مقاتلة داعش وغيرها من الجماعات المسلحة حتى خارج العراق يورط
بذلك المجتمع العراقي برمته، ويعرض الهوية العراقية المسالمة للخطر؛ خصوصا ان المليشيات بهذا الفائض من القوة التي لديها وبالعقلية المليشياوية التي تستحكم بها، وبالمشروع الخارجي الذي يخطط له، تُلحِق نفسها شاءت ام ابت بركب تنظيم القاعدة وداعش التي نُبذت من كافة الدول الاسلامية وبالتالي لم يستطيع هذا التنظيم الحاقهم به وبمشروعه وجعلهم جمهورا مطيعا يلجا اليه كما يدفع ثمن ارهابه في العالم، اما في حالة المليشيات ففي حال اسقاط التُهم الموجهة الى تنظيم داعش، فالكارثة ستقع حينئذٍ على مناصري هذه المليشيات عموماً وتهدد سلامهم الجسدي والاقتصادي والمعنوي وستقع الكارثة ايضا على العراقيين عموما؛ سنة وشيعة وكردا وتركمان ومسيح ويزيدية وشبك بوصفهم مواطنين يتشاركون في الهوية ذاتها مع مناصري المليشيات ومع عموم العراقيين، وكل ذلك بسبب اقحامهم في انشطة غير مشروعة، لذا فالضرورة تستوجب منا تكوين لوبي مدني بعيداً عن اي اصطفاف سياسي في العراق يحصن الاجتماع الاهلي والنظام السياسي والهوية العراقية قبل حلول البلاء.
ان المليشيات ترفع نفس شعار دول إقليمية بانها تحارب اميركا او اسرائيل وتستخدم ذلك ذريعة لتبرير الظلم الذي تسوقه بحق الناس، والمليشيات ومناصريها وكتلهم السياسية كانت ضحية انتعاش غير مشروع لأوهام (القيادة العادلة ودولة الحق وتقريب المذاهب) ان هذه المليشيات منحت نفسها سلطة التصرف بالدماء والاموال في محاولة رهيبة لإسكات كل صوت مخالف، هذه السلطة التي منحتها لنفسها، شرعت سطوة المليشيات وظلمها، ناهيك عن التنكيل الحاصل لعامة الناس.
كل هذا الظلم وكل هذا الهضم للحقوق والهويات يحصل في ظل نظام إسلامي، ولنا ان نستحضر عشرات العمليات الاجرامية التي اتهمت بها المليشيات وكم من الابرياء سقط بسبب حلم هذه المليشيات بالتوسع والسلطة والنفوذ، هذا مضافا الى الظلم الهائل الذي لحق بالعراق عموما، والعراقيين المناصرين لهذه المليشيات خصوصا، جراء استعمال الساحة العراقية ساحة لتصفية الحساب مع اميركا ودول الجوار ومسرحا لاختبار فاعلية أسلحة لدول اقليمية الصنع.
والحكومة وبعض الشخصيات السياسية والأحزاب لمعوا من دور المليشيات لأضعاف الجيش؛ بحيث أصبحت هذه المليشيات لا تلتزم بأوامر المرجعيات او السلطات السياسية او الأمنية وأصبحت الرئاسات الثلاث في موقف المتفرج لصولات وبطولات هذه المليشيات في مجال خروقاتها الأمنية وفي وضح النهار وفي أماكن تعد واقعة ضمن المربع الأمني للحكومة
ان المليشيات حمالة لمشروعين متناقضين؛ حمَّالة لمشروع محاربة داعش والامريكان، وفي المقابل، هوية دموية تمارس من خلالها أبشع انواع الظلم (ولا تقل اجراما في بعض الأحيان عن داعش) قتلا وتهجيرا وسجنا وتنكيلا بحق الشعب العراقي والشعب السوري التوَّاق للحرية، هذه الازدواجية فضحت حقيقة هذه المليشيات وادخلتها في طور ازمة بنيوية حادة لن تنفع معها بعد الان محاولات التصويب السياسي لاستعادة وضعية التوازن. واستطرادا, وللإفادة والتذكير في ان، اذكر نصا للأمام علي (عليه السلام), وهو جزءٌ من عهده الى مالك الاشتر بعثه اليه عندما ولاهُ على مصر, يقول له فيه منبها اياه من حرمة سفك الدم : “اياك والدماء وسفكها بغير حلها, فانه ليس شيء ادعى لنقمة, ولا اعظم لتبعة, ولا احرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها, والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة, فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام, فان ذلك مما يضعفه ويوهنه, بل يزيله وينقله, ولا عذر لك عند الله, ولا عندي في قتل العمد لان فيه قود البدن, وان ابتليت بخطأ, وافرط عليك سوطك او سيفك او يدك بالعقوبة, فان في الوكزة فما فوقها مقتلةً, فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن ان تؤدي الى اولياء المقتول حقهم”.
هذا بعضَ مما اوصى به الامام علي (عليه السلام)، لنُذَكِّر المليشيات ومناصريها بان اي كتلة او مجموعة او مليشيا تذهب بعيدا في اعتماد الظلم والقتل والتهجير سببا لبقاء السلطة والحكم، فإنما تفعل خلافَ ذلك تماما، اذ انه يعجل في سقوطه والرحيل، سقوطٌ ورحيلٌ لا تؤخره تضخم الذات الحربية، ولا حتى مساعدة عمائم تقبع تحتها تبريرات أيديولوجية، او عمائم تستعمل ظلما ال البيت الاطهار شماعةً تعلق عليها خطاياها والمزالق.
ان الوهم بوجود فائض قوة لدى بعض المليشيات والقوى السياسية التي تدعمها معطوفا على تحريض دول الجوار وتنظيمات مليشياوية في المنطقة دفع هذه المليشيات والقوى السياسية المناصرة لها الى الوقوع في خطيئة كبرى جعلت من أهدافها ورؤاها التي كانت بداية تحت سقف الاجماع الوطني، أصبحت اهداف مذهبية فئوية ضيقة لا هدف منها، بحسب ما ظهر لاحقا من تصريحات تنال من هيبة الدولة وجيشها الوطني، وتريد قلب نظام الحكم واستلام السلطة.
ثم, الا تعرف هذه المليشيات بان تعطيل النظام العام واسقاط هيبة الدولة يؤدي الى الانقسام، والانقسام يؤدي الى الصراع، والصراع يؤدي الى النزاع “وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم”، والنزاع يؤدي حكما الى سفك الدم، وسفك الدم حرام، وعليه، فان كل ما يؤدي الى سفك الدم هو حرام عملا بالقاعدة الواضحة التي تقول بان مقدمة الحرام حرام؛ ثم, أيضا، اين المصلحة في ان تبقى المليشيات ومناصريها وبعض القوى السياسية المؤيدة لها التي تدعي تمثيل مكون مهم من مكونات المجتمع العراقي، راهنة نفسها وسياستها وتحركاتها لتوقيت واجندة دول الجوار وبالتالي راهنة مصير مؤيديها ومناصريها لذات الاجندة والتوقيت؟
هذا، حقيقة، فخ كبير وقعت فيه هذه المليشيات والقوى السياسية التي تمثلها ومناصريها، وهي تتحمل مجتمعة مع دول الجوار ومليشيات وأحزاب في المنطقة التي تنتهج نفس الأسلوب، مسؤولية تقديم مكون مهم من مكونات المجتمع العراقي وتظهيرهم بغير صورتهم وخلفيتهم الوطنية واعطائهم هويات مذهبية لا تنسجم وانتمائهم الى اوطانهم. ان هذه المليشيات ومناصريها وكتلهم السياسية عليها العودة الى التعقل، والى تسليم أسلحتها والاندماج بالمجتمع العراقي والعمل على تأسيس دولة المؤسسات والعمل على تقوية شوكة الدولة.
الأحزاب السياسية التقليدية التي تسيطر على الحكم منذ عام 2003 أدركت إن “الحشد الشعبي” يشكل خطراً ومنافساً لهم على شعبيتهم في الانتخابات ولهذا قامت بتشكيل مليشيات على شكل فصائل وسرايا ليضمنوا شعبيتهم، والمشكلة هي إن الفصائل المنضوية تحت اسم “الحشد الشعبي” ليست موّحدة، بل تواجه صراعات فيما بينها متعلقة بمصالح سياسية واقتصادية وعسكرية.
ويقول مراقبون إن الصراع سيكون أشد في الانتخابات المقبلة، لأن الأحزاب السياسية باتت تمتلك مقاتلين وأسلحة قد يتحولون من قتال “داعش” إلى التقاتل الداخلي فيما بينهم كما إن هناك مخاوف من نزاهة الانتخابات في ظل انتشار آلاف المقاتلين غير النظاميين بين السكان.
وأخيرا نقول: على المتظاهرين رفع شعار نزع سلاح المليشيات لأنه يؤسس لدولة مدنية لها نظامها القانوني الذي يحفظ الحقوق والحريات للجميع.
ومن لا يمتلك قرار الضغط على الزناد، لا يملك قرار تسليم سلاح المليشيات للدولة.
ونختم مقالنا بقول من مدرسة علي بن أبي طالب سيد الرجولة والبلاغة، حينما قال: ” إذا وضعت أحدا فوق قدره، فتوقع منه أن يضعك دون قدرك”