20 ديسمبر، 2024 2:09 ص

هل سمعتم بكارلوس زافون؟

هل سمعتم بكارلوس زافون؟

(حديث عن رواية متاهة اﻷرواح وأشياء أخرى)

جنود الدكتاتور يطوفون شوارع المدينة وهم مدججون بالحقد والكراهية. كانت عيونهم وبنادقهم تحوم حول ذلك الشاب الغرناطي لوركا. كان كل مساء ومع غروب الشمس ينشد للحرية وللجمال وللكلمة الحرة. لماذا يا فيديريكو لا تكتب قصيدة شعر عن سيدك فرانكو؟سأله أحد الجلاوزة؟ لم يردَّ عليه. وما هي الاّ دقائق معدودات حتى وجهوا بنادقهم لتصيب رصاصاتها قلبه الفتي، قلب شاعر اسبانيا اﻷول، لتضع حدا لتلك الروح المحلقة بجناحين من الحب، ولحياته المزدانة بألوان الطيف وبجمال المشرقين، غير أنَّ لوركا ورغم سقوطه أرضا، ظل ماسكا بباقة الورد التي كان قد قطفها قبل قليل من حديقة منزلهه، ليختلط دمه بعطرها.
(سيناريو تصفية الشاعر على النحو اﻵنف كنت قد إفترضته. أمّا عن رَدّةُ فعل الضحية فهي لا تليق الاّ بالشعراء أمثال لوركا).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اننا نتحدث هنا عن اسبانيا سنة 1936 ،حيث شهدت بداية إندلاع الحرب اﻷهلية، تقاتل فيها اﻷهل مع اﻷهل واﻷخ مع أخيه وراح البعض يُكسر البعض اﻵخر، ولم تضع أوزارها الاّ بعد مرور قرابة سنوات ثلاث، سال فيها الدم نزيفا والبناء هدما. وإرتباطا بهذه اﻷحداث وعن أسباب ودوافع مرتكبي جريمة إغتيال غارسيا لوركا، فهناك من أعزاها الى تلك الدعوات القوية التي تبناها لوركا وبشَّرَ بها، والمتمثلة في ضرورة أن تختار إسبانيا في شكل حكمها نظاما جمهوريا، يُخلِّصُ الشعب الإسباني مما هو فيه من مهازل، كذلك لتتواكب وتطورات العصر، فنظام الحكم الذي نخضع لسيطرته اﻵن، والكلام لا زال للوركا، لم يعد يشرف أحدا.
وهناك فريق آخر كان قد ذهب بتحليله الى جهة مغايرة جدا وبعيدة عن سابقتها، فهم يرون أن سبب تصفية الشاعر، جاءت على خلفية ما يحمله من أفكار ومبادى، كانت قد وضعته في خانة اليسار والشيوعية، وهذا هو الظن الراجح بحسب ما أورده مدوني تأريخ بلاده وكادوا أن يُجمعوا عليه. وبمقتله هذا وَمَنْ هو على شاكلته من رموز الثقافة الإسبانية ودعاة التحرر، لم تفقد إسبانياشاعرا كبيرا بقامة لوركا فحسب، بل سيُفتح الباب واسعا أمام صعود شلة من المنحطين والسفلة، ليتبوأوا أهم مراكز صنع القرار وأكثرها حساسية، ليقودوا دفة البلاد وعلى مختلف المجالات الى مصير مجهول، لا قرار له.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد إنتهاء الحرب اﻷهلية التي شهدتها الدولة، سيبرز نجم الديكتاتور السيئ الصيت والسيرة، فرانسسكو فرانكو، ليتربع على عرش الحكم وبصلاحيات مطلقة. ومنذ البدء سيعتمد في إدارته على أكثر الرجال تبعية وطاعة لفلسفة حكمه، فكانت يده ضاربة بقوة، مادا سلطته وسطوته على كل مفاصل الدولة. وإنسجاما مع سياسته هذه والتي لم يتورع في الكشف عنها والتبشير بها، فقد أقدم على بعض الخطوات السريعة والتي كان من بينها وأخطرها شنَّه لحملة إعتقالات واسعة، شملت أكثر العقول تنورا وممن يتمتعون كذلك بسمعة وتأثير قويين على حركة المجتمع. مدركا(فرانكو) بأن تواجدها خارج سيطرته، ستنسحب سلبا على طبيعة حكمه، وقد تتوسع لتشكل مخاطر أكبر فيما لو تُركت طليقة اللسان والحركة، وقد يؤدي ذلك الى إهتزاز سطوته وإنفلات زمام اﻷمر من بين يديه.
وتماشيا مع الخطوة السابق فقد أوكل مهمة إدارة سجن مونتويك الشهير، والذي يُعدٌ من أكبر سجون اسبانيا وأبشعها طرا، الى شخصية غامضة نسبيا، لم يكن همٌها سوى التسلق والقبول بأي موقع وظيفي، يمنحه الوجاهة وجذب اﻷنظار وما يقترب منهما. انه ماوريسو فايس، حيث سيُمنح فيما بعد لقب الدون، والذي يعني باللغة الإسبانية السيد أو القائد، وكلا الصفتين سيهنأ بهما، فالمهم أن يشار له بإنه مديرا لأكبر سجون إسبانيا، غير مبال لطبيعة المكان والوظيفة التي يشغلها. وعلى طيلة الفترة التي بقي فيها مديرا للسجن والتي تجاوزت الخمس سنين، فقد أداره بقبضة من حديد ونار وصنوف من التعذيب ولم يكد بعد قد بلغ نشوته. لقد قَدِمَ المدير … قَدِمَ المدير، عندما كان يسمع بهذه العبارة من قبل حاشيته، كان يزداد غطرسة وتجبرا، وسيجد نفسه مدفوعا أكثر نحو تشديد قبضته، ليزيد من الخناق حول رقاب ضحاياه.
بكل تأكيد لدينا مثل هذا الكائن الكثير في سجوننا، وربما كان من بينهم مَنْ فاقه إستهتارا وبطشا، وقد يكون إسمه فلان أو فلان. كل هذا لا يعنينا فما يعنينا أن هذه الشخصية التي أنف ذكرها ستستفز كارلوس زافون، الروائي الاسباني، والذي شاع صيته وإنتشر بسرعة البرق، وراحت أعماله تلقى رواجا منقطع النظير، مما حدا بدور الطباعة والنشر والتوزيع، الى ترجمة جل أعماله إن لم تكن كلها، الى العديد من اللغات الحية في العالم، لذا ستجده (الكاتب) مندفعا لإعادة قراءة تأريخ بلاده، بعين محايدة وبعيدا عن تأثير وضغوط بعض السياسيين وألاعيبهم، وكان من نتائجها، أن ترى النور الكثير من أعماله اﻷدبية المهمة، لعل من أبرزها تلك السلسلة التي أسماها بمقبرة الكتب المنسية، وهي عبارة عن مجموعة من الروايات المترابطة والتي يمكن قراءتها أيضا بشكل مستقل.
مما يؤسف له، أنَّ كاتب هذه السلسلة الرائعة، لم يأخذ نصيبه من العمر على النحو الذي تأمله اﻷكثرية من بني البشر، كما لم يأخذ نصيبه من ألقاب وتسميات، تعكِس وعن جدارة وإستحقاق طبيعة إهتماماته اﻷدبية وبما يتتفق وملكاته وقدراته الحقيقية. فالرجل إذن ظُلِمَ مرتين، ففي اﻷولى توفي وهو في أحلى وأخصب سنوات عطائه ولما يبلغ بعد أحلامه وأهدافه البعيدة، ففي منتصف عقده السادس غادرنا الى عالم آخر، ولنسميه عالم اﻷبدية. وعلى المستوى اﻷدبي فقد حصرهُ النقاد في خانة واحدة، حرجة، حين عدَّوه روائيا فحسب، وهم بذلك لم يكونوا مخطئين ولكنهم قصار نظر. فمن يقرأ اعماله سيكتشف أن زافون، واسع الثقافة، عميقها، مسكها وفي وقت مبكر ومن عليائها، وراح يدبجُ منها ما طاب له من حلو الكلام ودلالاته.
وإذا ما تسنى لك عزيزي القارئ ورحت تبحث عن أعماله ولنسميها الروائية هنا، فأهم ما سيسترعي إنتباهك، وهنا لا أريد أن أصادر وجهة نظر القارئ، هي تمكنه الواضح في بناءه لشخصياته، فزافون لم يكتفِ بالتوقف عند الشكل البارز أو الظاهر منها، بل راح أعمق من ذلك بكثير، لتجده كاشفا عن الجانب الخفي من تلك الشخصيات أو لنقل ما بَطُُنَ منها، وهنا لا أقصد أو اعني الضمر بل الذهاب الى تناول أعماق شخصياته، حاثاً القارئ على الغوص والخوض فيها، جاعلا منه طرفا فاعلا ومشاركا في نصه، سعيا منه الى إكتمال شروط سرده وأركانه. فضلا عن فتح يديه وخزينه الفكري، ليضع المتلقي أمام جملة من المعارف التي سبق للكاتب أن إكتسبها وتعمَّقَ فيها، ودون أن يغيب عن باله مراعاته للبعدين الزماني والمكاني، وهذا ما سنكتشفه وبشكل جلي، حين يأخذ بيد القارئ على سبيل المثال، ليطوف به أزقة برشلونة وتوقفه الطويل عن أبرز معالمها، ليبدو كمن قرأ تأريخ بلاده بحرفة وإقتدار.
في منحاه هذا، والقصد هنا عن بناء شخصياته، ربما يكون زافون قد تذكَّرَ وإستحضر طريقة إشتغال ديستوفسكي، محاولا اللحاق به وتقليد أسلوبه ما استطاع اليه سبيلا. وكي لا يبدو أمرا كهذا مبالغ فيه، أو أنه سيغمط حق صاحب أيقونة العمل الروائي العظيم، الجريمة والعقاب وأخواتها، وإعتلائه منصة هذا النوع من اﻷدب ومن غير منازع، فهو ودون شك وبرأي قاطع، أعلى شأنا ومنزلة ومقاما، بإجماع وشهادة كبار النقاد وراصدي الثقافة العالمية وعلى مختلف مراحل تطورها، لذا نقول أن (زافون) بذل جهدا واضحا في إشتغاله، ساعيا نحو التناغم مع معلم الرواية اﻷول ومحاولة السير على خطاه، لِمَ لا فهو بالنسبة له ولكبار الروائيين العالميين، خير مثال ومرجع، وخير مَنْ يُحتذى به أيضا، فعلى شجرته نمت أطيب الثمار ومنها قُطفت، وفي فيئها إستظلَّ كبار الكتاب، فكما غوغول تخرج من معطفه مَنْ تَخَرَّج فكذلك ديستوفسكي.
وإذا شئنا العودة والحديث ثانية عن رواية متاهة اﻷرواح التي تُعَد واحدة من سلسلة أعمال مترابطة كما سبق القول، فلابد من التوقف عند إحدى شخصياتها المحورية والكلام هنا عمن بات ينادونه بالدون ماوريسو فايس، على ما يطيب له. فقد سبق له(فايس)وعشية شَغلهِ لمنصب مدير، ﻷحد أكبر سجون إسبانيا وتوطئة لذلك، وفي خطوة يمكن وصفها بالشديدة الذكاء من لدن الكاتب، حين حرَّك هذه الشخصية، لِتُقدم على الزواج من إحدى الفتيات رغم إصابتها بالإعاقة الدائمة. قد تبدو خطوة كهذه للقارئ في بادئ اﻷمر بأنها تنطوي على جانب كبير من الرأفة والنظرة الحانية، الاّ أن ما خفي كان أعظم. فوالد هذه الفتاة التي ستصبح سيدة بيت الدون فايس، ينام على ثروة مالية هائلة، كان قد إستحوذ عليها بعملية نصب وإحتيال كبرى، كان ضحيتها أقرب المقربين اليه، وتربطهماصداقة مديدة في عمرها. في هذه الحركة، أراد الكاتب أن يُلفت إنتباهنا ليقول لنا ما معناه: اننا نتعامل مع شلة من المنحطين والسفلة، إذ هم لا يتورعون عن إستخدام أكثر الوسائل قذارة وخسة، من أجل الوصول الى ما يطمحون اليه من أهداف دنيئة.
وعن (فايس) أيضا، فسيمضي الكاتب في كشف تداعيات وحقيقة هذه الشخصيته. فمن خلالها وبالإتكاء عليها، سيستمر في فضح المنظومة السياسية المتحكمة والمتسلطة على رقاب الشعب. ومن بين ماسيجري تسليط الضوء عليه وبكثافة، هو قيامه(فايس) وبالتنسيق مع خيوط وشبكات أخرى على صلة به، بعمليات خطف ومساومة، ومن بينها على سبيل المثال خطف شقيقتين، لا زالتا في عمر الورد، سينتهي بهما اﻷمر الى إيداعهما في بيتين مختلفين متباعدين، ليجري تبنيهما وبصفقة نذلة، ليبقيا على هذا الحال ومن غير أن يلتقيا الاّ بعد مضي فترة زمنية ليست بالقصيرة، حتى كادا أن ينسيا بعضهما بعضا.
غير أن العملية اﻷبشع التي قام بها مدير السجن، حسب تقديري، هو ما كان يمارسه من ضغوط على ضحاياه من السجناء، خصوصا إذا ما علمنا أن أكثريتم من المحسوبين على الطبقة المثقفة، كي يدبجوا له ما يرغب من المقالات، ليقوم فيما بعد بنشرها في الصحف الرسمية وخاصة تلك المقربة من مصادر القرار وهي حاملة وبكل وقاحة توقيعه، وله في ذلك نوايا وغايات ستتكشف لاحقا ومع سيرورة الرواية. ومن بين تلك اﻷسماء التي كان كثيرا ما يعتمد عليها في تنفيذ مأربه هذا وعلى سبيل المثال لا الحصر وبحسب ما ورد في سرده، الكاتب دافيد مارتين، حيث سيستغل ويستثمر(فايس) وبطريقة بشعة، حالة الإضطراب الذهني التي كان يعاني منها هذا الكاتب بسبب ظروف السجن القاسية. يقابله ما كان يُطلقه (المدير) من وعود كاذبة، تتعلق بتحسين ظروف ضحاياه وهم في زنازينهم.
السيد فايس، ولنسميه هنا بالكاتب الملفق، وبعد تمتعه برصيد إعلامي قوي، كان قد خطط وإشتغل عليه ومنذ تسلقه وشغله لأول وظيفة عامة وفي ظل سلطة فرانكو، كذلك بعد نجاحه في تحقيق حضور سياسي ومن قبله حضورا ثقافيا ملفتا، بدعم ومباركة من جناحه الذي ينتمي اليه ومن بطانته، تجده وقد إنتقل الى خطوة أبعد، تنسجم مع تطلعاته وما كان قد رسم. لذا وعلى ما رآه، وأظنه مصيبا في تقديره هذا، فلابد له من إستثمار الظرف وإستغلاله وعدم إضاعة الفرصة، مادامت اللحظة قد حانت، ومادام الباب قد فُُُتح وبرحابة أمام فكرة تعيينه بوظيفة أخرى، ستكون بالتأكيد أعلى شأنا وأرفع منزلة، وكان له ما أراد، حيث أستوزر لما كانت تسمى بوزارة التربية الوطنية. لم يكتفِ فايس أو الكاتب الملفق بذلك بل راح مقترحا تغيير إسمها الى وزارة الثقافة، إستجابة لتلك العقدة التي ظلَّت ملازمة له طيلة حياته، لعل في ذلك شفاعة لجهالته ولا أظنها ستشفع.

أحدث المقالات

أحدث المقالات