مخرجات الأنجاز المتدني للعام 2021 في العراق هي امتداد طبيعي لتراكمات الفشل في تجارب بناء دولة المواطنة والرفاه والأستقرار الأجتماعي ما بعد 2003, وهي بالتأكيد امتداد نسبي لحقبة عبثية سبقتها, تجسدت في سياسات النظام السابق في تخريب واهدار للموارد البشرية والثروات المادية على خلفية عسكرة مؤسسات الدولة ومواردها وتوظيفها في خدمة الدكتاتور وطموحاته واحلامه المريضة في ظل نظام شمولي عانى منه شعبنا الأمريين.
ولكن حقبة ما بعد 2003 هي حقبة تسلطت فيها قوى “سياسية معارضة ” للنظام السابق عملت على خلفية افتعال ما يسمى بالمظلومية المذهبية الطائفية والأثنية والعرقية, تحول فيها فعل المعارضة المشروع للنظام الأستبدادي الى متلازمة مرضية ما بعد سقوط النظام ” وخاصة في ذهنية الأسلامويين وبعض من القوى الأخرى الأثنية الشوفينية والطائفية المناطقية, وكانت ابرز ملامح ذلك التحول هو الانتقال من سلوك المعارضة الى سلوك العداوة والحقد على الدولة والتعامل مع مؤسساتها كغنائم ما بعد السقوط وأحلال الخراب فيها وسرقتها وعدم التمييز المطلق بين النظام السابق وبين الدولة ومؤسساتها, وكذلك الطفح المزمن لتلك لرغبات تلك القوى في بناء دولة بعناوين دينية او مظلوميات مخادعة واحكام السيطرة على العام والخاص في حياة الناس والمجتمع.
وقد أوغلت تلك القوى في تخريب وتحطيم الدولة ومؤسساتها ونهب المال العام وكان ذلك متزامنا مع خراب منظم للقطاع الخاص وتدميره والحيلولة دون نهضته وانهاء دوره, الى جانب تغول القطاع العام وتضخمه دون مخرجات او انتاجية تذكر وغص بالبطالة المقنعة الكلية والجزئية واصبح من قلاع الفساد الأداري والمالي والنهب العام, عبر تحاصص قطاعاته من قبل احزاب السلطة وتحوله الى ميادين مربحة للأحزاب او ما يسمى بظاهرة ” الريع السياسي ” حيث الحزب المالك للوزارة يحول وزراته الى ميدان خصب للأستثمار الفاسد من منتسبي الحزب وعناصره وتتحول الوزارة الى ” باب رزق ” ومصدر لتمويل للحزب التي يملكها, فلا نستغرب من تضخم اجهزة الدولة ومؤسساتها والذي تجاوز 7 ملايين موظف في دولة تبيع النفط لتأكل به وتسدد رواتب منتسبيها, وهو ما يسمى اختصارا ” بالدولة الريعية “.
فكانت البطالة والفقر وانعدام الخدمات الانسانية في الصحة والتعليم والكهرباء والماء والتدهور الاجتماعي المتواصل وتفكك المنظومة الاخلاقية وانتشار الجريمة المنظمة وغير المنظمة, وتعاطي المخدرات الى جانب التدين الزائف الذي يثقل الحياة اليومية ويشرعن الفساد وسرقة المال وينشر الخرافة كثقافة يومية ويضعف مكانة العلم, الى جانب انتشار السلاح المنفلت الفردي والميليشياوي والعشائري, وفقدت الدولة بوصلتها في السيطرة على مجريات الاحداث وفقد القانون قوته وقيمته التأثيرية في الحد من الجرائم والانفلات الاجتماعي والافلات من العدالة وجميعيها مشاهد يومية تهدد حياة المواطنين, واصبحت قوى اللادولة هي اليد الطولى في فرض اجندتها التخريبية على الدولة والمجتمع, بل ان جزء لا يستهان به من قوى اللادولة محسوب على الدولة ويتقاضى مصادر تمويله منها, وبأختصار فأن ما مافقده العراق واهدره من المال العام تجاوز الألف واربعمائة مليار دولار.
كثيرة هي انتباهات العام 2021 والبدء من خاتمته قد تؤشر على الكثير من بداياته: الأنتباهة الأولى هي الانتخابات البرلمانية المبكرة والتي اجريت في اكتوبر الماضي ثم مصادقة المحكمة الاتحادية العليا عليها, وفتحت المصادقة الباب على مصراعيه لمختلف السيناريوهات في تشكيل الحكومة المقبلة, وان القوى المتصارعة هي نفسها القوى التي قادت العراق منذ 2003 بشكل مباشر او غير مباشر, باستثناء ظهور قوى معارضة مستقلة نسبيا لا نعرف عن قدراتها الفكرية ورؤيتها المستقبلية في لعب دور المعارضة الفعالة, وقد مثلت قوى انتفاضة تشرين في البرلمان الخامس تمثيلا لا ينسجم مع حجم الانتفاضة التي اندلعت في العام 2019 لأسباب عديدة منها عدم الثقة بالنظام السياسي ومقاطعة الانتخابات في ظروف انتشار السلاح المنفلت وعدم محاسبة قتلة المتظاهرين وعدم تطبيق قانون الأحزاب وغيرها, ومن الجدير بالذكر ان المشاركة كانت في الانتخابات ضعيفة ولا تتجاوز 30% حيث من استلم البطاقة الألكترونية بحدود 40% في ظل عزوف كبير عن المشاركة. ان رفع شعارات الاصلاح من قبل قوى فائزة وفي مقدمتها التيار الصدري وغيره وبعيدا عن نوايا الصدق في ذلك والقدرات الفكرية وآليات التنفيذ واستخدام الشعارات لأغراض التعبئة والتجييش, فأن الأصلاح لن يبدأ فعلا إلا بفك عقدة منظومة المحاصصة الطائفية والأثنية والعرقية ولن توجد اي مؤشرات لذلك وان السباق على الرئاسات الثلاث” البرلمان, رئيس الجمهورية ورئاسة الوزراء ” وما يتبعها لاحقا من توزيع للمناصب حسب الاستحقاقات الاثنية والمكوناتية هي ملامح بارزة في المشهد القادم وبالتالي فأن المحاصصة الطائفية والمذهبية والعرقية باقية وستعيد انتاج نفسها استمرارا للنهج السابق.
الأنتباهة الثانية في نهاية مشهد العام الماضي هو تصريح وزير المالية العراقي علي عبد الأمير علاوي والذي قال فيه أن: “مستقبل العراق مرتبط عضوياً أو كلياً مع قطاع النفط ولا توجد دولة في العالم تشبه العراق في هذا الجانب بما فيها الدول النفطية, ورأى أن العراق يواجه تهديداً حقيقياً وخطيراً خلال السنوات العشر المقبلة نتيجة التقلبات العالمية والنوعية في سوق النفط واعتماد القطاع الحكومي كلياً على تمويل الكشوفات المالية من عوائد النفط. وأضاف ” إذا حدث ذلك فستضطر الدولة إلى تسريح أعداد كبيرة من الموظفين لعدم إمكانية الدفع لهم”. ورغم ان تصريحات الوزير كانت مصدر قلق وامتعاض للشارع العراقي وللعديد من المحللين والسياسيين, ولكن الحقيقة يجب ان تقال وإن كانت مرة: أن الدول الريعية التي تعتمد على النفط كمصدر وحيد للتمويل ولم تذهب الى تنويع مصادر الدخل القومي من الصناعة والزراعة والأستثمارات الخاصة وقطاع المعلومات والخدمات هي دول هشة لا تقاوم ما يتعرض له قطاع النفط من هزات وازمات عالمية, بل هي هي دول زائلة, وهناك الكثير من تجارب الدول بما فيها الجيران الخليجية وصلت الى حدود كبيرة من الموازىة بين النفط والقطاعات الأخرى في التمويل وصل بعضها الى المناصفة.
الأنتباهة الثالثة وهي تنبؤية ومشروطة, فقد اعلنت شركة “سومو” العراقية لتسويق النفط أن الإيرادات المتحققة من مبيعات النفط الخام خلال العام 2021 بلغت 68 مليار و995 مليون دولار، بمعدل 5 مليار و749 مليون دولار شهرياً، موضحة أن معدل سعر البيع الشهري للنفط الخام بلغ 68 دولاراً و366 سنتا للبرميل” طبعا سعر البرميل عبر ال80 دولار. وعلى افتراض استمرار تدفق البيع بنفس المنوال للعشر سنوات القادمة والثبات النسبي للأزمات فأن العراق سيكون له تراكم مالي يقدر من 700 مليار الى 800 مليار دولار, فأذا ما استمرت طبيعة الحكم ذاتها وبنفس سياق السنوات السابقة فأن العراق مقبل على اهدار الأموال المذكورة الى جانب الأموال التي اهدرت في الأعوام ( 2003ـ2020) والتي ذكرناها سابقا والتي بلغت ما يقارب الألف واربعمائة مليار دولار.
الأنتباهة الرابعة هي محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في بداية نوفمبر الماضي والتي استهدفت منزل اقامته في المنطقة الخضراء بطائرات مسيرة محملة بالصواريخ, والعجيب وفي الوقت الذي لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الهجوم فأن رئيس الوزراء العراقي يؤكد في خطابه بعد الهجوم أنه يعرف المنفذون حق المعرفة” وسيتم محاسبتهم وتقديمهم للعدالة ” وهو خطاب اعتاد عليه العراقيين بعد كل جريمة او محاولة اغتيال او تصفيات جسدية تطال رموز ثقافية وسياسية وصحفية وكتاب ويشمل ايضا قتلة المتظاهرين في احتجاجات اكتوبر وغيرها, ولم يستطيع رئيس الوزراء حتى في حالة واحدة من الأعلان عن الجهات التي تقف وراء مرتكبي الجرائم السياسية ومنفذي الأغتيالات, وقد أكتفي بأضفاء الطابع الفردي على الجرائم المرتكبة وحصرها في افراد منفصلين عن الجهات التي دفعتهم والدوافع التي تقف وراء ذلك. أن العدالة لا تحتاج الى ظرف مناسب او توقيت ما او فرصة سانحة كي تتم ممارستها بوضوح امام الشعب وان تأخير او تسويف تطبيق العدالة بحق القتلة والمجرمين سيعيد انتاج الجرائم اضعافا ويقوي من صلف منفذيها وهو ما يحصل الآن على الساحة العراقية.
اما الأنتباهة الخامسة فهي انفتاح العراق على محيطه الأقليمي والعربي منه بشكل خاص والابتعاد عن سياسات المحاور وكذلك محاولات انفتاحه على العالم وتحسين سمعته الدولية, الى جانب زيارة بابا الفاتيكان التاريخية للعراق , هي محاولات ايجابية تترك انطباعا ان العراق يطمح الى دور ايجابي فعال, ولكن هذا الانفتاح ومدياته يجب ان لا يكون اشبه بمحاولات الهروب الى الامام والرمي بمشاكل الداخل العراقي الى الخارج, ونحن نعلم ان السياسة الخارجية هي امتداد للسياسة الداخلية والأستقرار الامني والاقتصادي والاجتماعي الداخلي, وبالتالي فأن فعالية السياسية الخارجية يجب ان تكون استمرار لقدرة النظام في معالجة ازماته الداخلية, وإلا فهي مجرد سلوك يلجأ أليه النظام للتنفيس عن ازمته الخانقة.
أما ابرز ملامح الأزمات الأقتصادية والأجتماعية للعام 2021 فهي في مجملها امتداد لأزمات الأعوام التي سبقته وقد ازدادت استفحالا وبدون حلول وقد اشارت الى تلك الأزمات اغلب المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي ومنظمات حقوق الأنسان والمؤولين العراقيين وغيرها, ولعل ابرزها هو:
ـ تصاعد نسبة السكان عند خط الفقر والتي بلغت 25% من السكان او اكثر, ومن العيب ان تكون دولة كالعراق والتي تمتلك خامس احتياطي نفط في العالم ان تمتلك هكذا نسبة فقر في العالم, كما شكلت نسبة البطالة اكثر من 15%. وهناك 5 ملايين يتيم في العراق يشكلون نسبة 5% من ايتام العالم.
ـ أما في مجالي التعليم والصحة، فقد كشفت المؤشرات عن واقع مرير يعانيه الطلاب في المدارس من خلال حاجة البلاد إلى 8000 مدرسة، وكشفت أن نسبة التسرب وترك الدراسة بلغت 73% من إجمالي المراحل الدراسية وضمنها الكليات والجامعات (الابتدائية: 91%، المتوسطة: 36%، الثانوية: 18%، الجامعات 14%). وذكرت إحصائية المفوضية العليا لحقوق الأنسان في العراق وجود 1000 مدرسية طينية (مبنية من مادة الطوب اللبِن). كما انخرط نحو مليون طفل في سوق العمل. وهناك 3 ملايين طفل بعمر الدراسة يتواجدون خارج المدرسة.
ـ وقد امتدتالمؤشرات ذاتها لتشمل مجال السكن والعشوائيات، حين أكدت المؤشرات حاجة البلاد إلى 3 مليون ونصف المليون وحدة سكنية للتغلب على أزمة السكن الخانقة، وتحدثت أيضاً عن 4000 مجمع عشوائي يسكنها نحو نصف مليون أسرة، تتركز معظمها في العاصمة بغداد.
ـ ارتفاع نسب العنف الأسري ضد النساء والاطفال وكبار السن وقد سجل العام 2021 على الأقل 14 ألف حالة عنف ضد المرأة, الى جانب زواج القاصرات وغياب قانون العنف الأسري وتداعيات كورونا كعامل ضغط في ازدياد العنف.
ـ ازدياد اعداد النساء الأرامل حيث يقدر عددهن بين 3ـ4 ملايين ارملة او اكثر في احصائيات اخرى, الى جانب ارتفاع نسبة العنوسة بين النساء في الاعمار 18ـ45 لأسباب اقتصادية واجتماعية وهجرة وتهجير وانعدام الاسقرار الفردي والأسري, وبالقابل تزايد نسبة العزوبة لدى الرجال لذات الأسباب, وارتفاع نسب الطلاق حيث تقدر في العام 2021 زيادتها 10 حالات كل ساعة الى جانب ارتفاع نسب الأبتزاز التي يقع ضحيتها النساء وبنسبة اقل الرجال ايضا.
ـ ارتفاع نسب تعاطي المخدرات وقد بلغت نسبة التعاطي بين الشباب الى 50% وهو وضع كارثي حيث الفقر والبطالة بين الشباب بلغت 36%, في بلد يشكل فيه الشباب بين دون عمر 25 سنة نحو 60% من سكانه.
ـ الارتفاع الكبير لعدد الحرائق حيث تجاوز عددها 30 ألف حريق وبدوافع واسباب مختلفة, منها العفوي بفعل تماس كهربائي ومنها الأهمال ومنها الانتقام وتصفية حسابات شخصية ومنها جرائم مقصودة طالت حتى دوائر الدولة ومؤسساتها واستهدفت حرق ملفات بهدف اخفاء جرائم فساد وغيرها, وكان اشد الحرائق وقعا وألما انسانيا هو حريقي مستشفى الحسين في محافظة ذي قار ومستشفى الخطيب في بغداد والذي راح ضحيتهما اكثر من 170 ضحية, وهو نتاج عقود من الفساد وسوء الأدارة في قطاع الصحة وسرقة الأموال المخصصة لهذا القطاع حتى بات المواطن يخاف من الذهاب الى المؤسسات الصحية لسوء أدائها وتدهور مكانة الطب والرعاية فيها.
ـ اما في مجال الأمن وضعف استتبابه فقد تمت عشرات الهجمات بالصواريخ والمسيرات على المنطقة الخضراء ومطار بغداد واربيل وقاعدة بلد في صلاح الدين شمال بغداد الى جانب الهجومات المتفرقة على القواعد العسكرية العراقية, وبالمقابل سجل العام 2021 اكثر من 200 هجوم لداعش في مناطق مختلفة من العراق.
نقول ان الاصلاح الشامل لأوضاع البلد المأساوية يحتاج الى قدرات مهنية وعلمية واكاديمية ومستقلة نسبيا عن تأثيرات الايديولوجية العقائدية ذات الطابع المتحجر والتي ترى في الاصلاح هو مجرد خطاب منفعل ومعمد بردود الافعال يستجيب عبر خلق العداوة بين القوى السياسية الاخرى وافتعال الازمات وادعاء الصلاحية المطلقة لكل الاوقات والاوضاع, وهؤلاء حصرا هم من يعرقلو الاصلاح ومدياته مهما بلغ ادعائهم الانفعالي بقدراتهم على الاصلاح, فهو لا يتجاوز سوى رغبات منزوعة الصلة بطبيعة الاصلاح بكونه عملا دقيقا يستدعي الايمان بادوات المنهج العلمي في البحث عن المشكلات المستعصية, الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها, وفق سنة البحث العلمي ومنهجيته المعروفة, وغلق ابواب الاجتهاد أمام الخرافة والدجل والسحر والشعوذة والثقافة الماورائية للبحث عن حلول لمعضلات البقاء والاصلاح.